حصاد الأفكار في شهر |
(منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني) |
استمرار الحرب قضية اجتماعية |
إن الحلم الليبرالي الذي نبع من مشروع التنوير كان يتلخّص في أن تحديث المجتمع من شأنه أن يؤدي إلى اختفاء الحروب، ونظراً لأن الحرب أسلوب غير معقول لحل النزاعات فإن تزايد عقلانية المجتمع، وهي العملية الكامنة في عملية التحديث، من شأنه أن يجعل من الحرب نهجاً عفا عليه الزمن على نحو مطّرد. ولقد كانت أوربا تؤمن بقوة بمثل هذه المعتقدات منذ قرن مضى، وكان كتاب نورمان أنجيل (الوهم العظيم) (1909م) واحداً من بين كتب عدة ادّعت أن المجتمعات المتقدمة بينها قدر كبير من الترابط إلى حدٍّ يجعل الحرب بينها أمر لا يمكن تصوّره. وكانت الحرب العظمى (1914-1918م) ضربة قاصمة لهذه النزعة الليبرالية المتفائلة. ولقد كان التفاؤل بأن المشاورات العقلانية بين رجال الدولة يمكن أن تحول دون نشوب الحرب مجدداً، كان هذا التفاؤل من المرونة والقدرة على البقاء إلى حد أنه تجدد في الفترة ما بين الحربين العالميتين مع الجهود الكبيرة التي بذلت للحد من الأسلحة والسيطرة عليها، كانت فظائع الحرب العالمية الأولى أكبر من أن تذكر، ولكن ما أن انغمس الفاشيون في نكبة ثانية حتى تلقت النظريات الليبرالية عن التحديث ونهاية الحرب لطمة أخرى شديدة. وربما يكون باستطاعتنا الآن مع انتهاء القرن العشرين أن يكون لدينا قدر معقول من الثقة، وأن نتنبأ بانتهاء الحروب بين المجتمعات الحديثة على أقل تقدير. وربما بعد منعطف استمرّ نحو قرن من الزمان أصبحت الحداثة على وشك أن تسود وأن تأتي معها بمكافأة هي حلول مرحلة من السلام المستمر. ولقد قال جون مولر إن هناك احتمالاً كبيراً بأن الحرب على الأقل بين القوى العظمى في سبيلها إلى أن تصبح نهجاً عتيقاً. ويرى مارتن شو أن المجتمعات الحديثة في سبيلها إلى أن تصبح في وقت قريب منزوعة السلاح. ويبدو أن علماء السياسة في سبيلهم إلى التوصل إلى نوع من الإجماع على أن الديمقراطيات المستقرة من غير المرجح أن تقوم حرب بينها. التحديث كتفسير ما السبب إذن في أن القرن العشرين اتسم بالعنف حتى لو كان ذلك لفترة قصيرة؟ وكيف يمكن تفسير ذلك؟ إن نظرية الحداثة لديها إجابة بسيطة ولبقة وأخّاذة عن هذه الأسئلة وتتمثل في أن الحرب في القرن العشرين كان السبب فيها أن عملية التحديث لم تكن كافية، ووفقاً لمثل هذا النهج في التعليل فإن الفهم السليم لأسباب الحرب في القرن العشرين يدعم القضية الأساسية في الفكر الليبرالي، وفي هذه القراءة كان السبب وراء الحرب العالية الأولى عناصر سابقة على الحداثة في ألمانيا (اليونكرز أو الطبقة الإقطاعية في بروسيا والتاج والضباط الساعين للمجد) وعناصر أخرى تحمل سمات مماثلة في أماكن أخرى في المجتمع الأوربي. أما الحرب العالمية الثانية فقد كان السبب فيها انقلاب القوى غير العقلانية في ألمانيا المهزومة والتصرفات التي لا تلوي على شيء من جانب النخب الإيطالية واليابانية رداً على التوترات الناجمة عن عملية التحديث المتسارعة من خلال المراهنة على التوسع الاستعماري. ويمكن لبعض العلماء الاجتماعيين أن يستندوا إلى سبنسر ودوركايم وماركس في تفسير الحرب في القرن العشرين على أنها نوع من الانتكاس إلى الوراء أو عدم وجود قدر كاف من التحديث، ولقد كان كل من شومبيتر وكورنهاوزر وجرشنكرون ودارندورف ومور من بين علماء الاجتماع البارزين الذين فسروا الحروب في القرن العشرين في ضوء نموذج التحديث الليبرالي. والخطأ الذي وقع فيه الكتّاب الليبراليون في مستهل القرن العشرين هو ببساطة أنهم قد بالغوا في توقعاتهم حول مدى نمو الحداثة. والمشكلة هنا متعلقة بخطأ في المقياس. ذلك لأن بقاء جيوب لا يستهان بها لمناهضة الحداثة يبدد الأحلام بأن التحديث من شأنه أن يفضي إلى السلام، غير أن ذلك لم يقض على نظرية الحداثة التي ما زالت قادرة تماماً على تقديم تفسير لاستمرار الحرب. وختاماً فإن نظرية الحداثة صحيحة طالما أن هناك مجتمعات غير حديثة في العالم. ومشروع الحداثة لم ينته بعد كما أن الحرب لم يتم القضاء عليها، ولكن طرح المسألة على هذا النحو ليس كافياً؛ فنظرية الحداثة صحيحة جزئياً فحسب، وليست القضية هي قضية الغرب ضد من عداه، فهشاشة الحداثة أمر يلزم التأكيد عليه، وهذه هي النتيجة المهمة التي نخلص بها من تجربة النازية. كما أن أوجه القصور في الحداثة الموجودة حتى في الأجزاء المتقدمة من العالم (مسألة الحشد والقيود على العقلانية) توحي بأنه حتى مع اكتمال مشروع الحداثة فإن الحروب لن يتم القضاء عليها تماماً. وهذا سبب وجيه لأن يكرّس علماء الاجتماع المزيد من الاهتمام لموضوع الحروب. إن نظرية الحداثة يمكن أن يكون لها استنتاجات مفيدة حتى في شكلها الوظيفي كما أوضح ذلك تيرياكيان، ولكن ذلك لا يعني أنها أفضل السبل لتناول موضوع الحرب أو أي ظاهرة اجتماعية أخرى من هذا القبيل. فليس أي من هذه الاستنتاجات المفيدة المتعلقة بطبيعة عملية اتخاذ قرار الحرب المستقاة من الكتابات في مجال العلوم الاجتماعية التي رجعنا إليها في مقالنا، ليس أي منها بالضرورة راسخاً ومتضمناً في النموذج الحديث. وبوسعنا أن ندلي بتصريحات مفيدة عن الحرب دون أن نقبل بوجهات نظر نظرية التحديث الأساسية، وفي نهاية المطاف سواء وجدنا أن أساليب تناول علمية التحديث مفيدة أو غير مفيدة فإن ذلك لن يحسم بناءً على تحليلها ظاهرة الحرب. وليس من السهل أن تدحض نظرية ضخمة مثل نظرية الحداثة باستخدام مثال واحد؛ فتراكم الأمثلة في الحالات التي يتبين فيها ضعف قدرة النظرية على التفسير مقارنة بالنماذج النظرية المنافسة يصبح أمراً لا غنى عنه، والأمر المؤكد أن نظرية الحداثة نهج ضعيف في دراسة الحرب؛ فهي نظرية مغرقة في العمومية لدرجة لا تعنينا في التحليلات النوعية الدقيقة التي تلزمنا في هذا الصدد، ولقد قدم لنا جواس خدمة بإيضاحه للسبل التي تتحدى بها ظاهرة الحرب نظرية الحداثة، غير أنه لم يركز بما فيه الكفاية على الحروب ذاتها، والحروب ظاهرة جديرة بالدراسة سواء كان المرء من أنصار نظرية الحداثة أو لم يكن. |
بقلم: إيان روكسبورو، ترجمة: محمد يونس - الثقافة العالمية/ العدد105 - 2001م |
|
العولمة.. اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء |
في بداية الأمر صدق العديدون الوعود بأن العولمة سوف تفضي إلى زيادة معدلات دخول الأفراد في مختلف دول العالم، وإن الشركات ستجني أرباحاً هائلة من جراء توسيع نطاق الأسواق، وإن الدول الفقيرة ستنمو بصورة أسرع من الدول الغنية، وفي هذا التطور الذي سيكون فيه الكل فائزاً تضاءلت أهمية الدولة في الوقت الذي أخذت فيه القرية العالمية (في النمو واتجهت الأسواق للاندماج). غير أن الدلائل - كما يشير بروس سكوت أستاذ إدارة الأعمال في جامعة هارفارد في مقال له بمجلة (فورين افيرز) الأميركية - ترسم صورة مختلفة أبعد ما تكون عن الصورة الوردية التي حاول مروجو العولمة طبعها في الأذهان، إذ أنه على الرغم من أن متوسطات الدخل قد اتجهت بالفعل للنمو والزيادة فإن الفجوة في الدخل بين الدول الغنية والأخرى الفقيرة قد ازدادت أيضاً. وهناك في عالمنا الآن مليار نسمة يقل دخل الواحد منهم عن دولارين يومياً. ويقول سكوت أن هناك سببين أديا إلى الاختلاف بين النظرية الاقتصادية والواقع؛ أولهما إصرار الدول الغنية على وضع حواجز أمام الهجرة والواردات الزراعية وثانيهما أن معظم الدول الفقيرة غير قادرة على جذب رؤوس الأموال الأجنبية نظراً لإخفاقات حكوماتها، وهما سببان مرتبطان ببعضهما البعض. وقد تجاهلت النظرية الاقتصادية القضايا السياسية مخاطرة بتحديث المؤسسات حيث تكهنت على نحو خاطئ بأنه بوسع الأسعار التي تستند على السوق توزيع المواد بصورة مناسبة. وكان الإخفاق التام للإصلاحات في روسيا قد أجبر على إعادة تقويم متأخر لهذه الثقة العمياء في الأسواق، فالعديد من المراقبين يعترفون الآن بأن الاقتصاديات الانتقالية في حاجة إلى حقوق ملكية مناسبة ودولة تتسم بالفاعلية والكفاءة لفرض هذه الحقوق مثلما هي في حاجة إلى تحرير الأسعار، وفي الحقيقة فإن تحرير الاقتصاد دون احترام لحقوق الملكية يتحول إلى طريق مفروش لحكم العصابات وليس لانتعاش الرأسمالية، فالصين بفضل تمتعها بدولة على قدر كبير من الفاعلية حققت نجاحاً أكبر في فترة تحولها الاقتصادي من روسيا، على الرغم من أن بكين كانت تمضي ببطء أكبر في التحرر الاقتصادي والخصخصة. وتحتاج التنمية الاقتصادية إلى تحول في المؤسسات فضلاً عن إطلاق حرية الأسعار التي تتطلب بدورها تحديث سياسي واجتماعي فضلاً عن إصلاحات اقتصادية. وتلعب الدولة دوراً رئيسياً في هذه العملية وبدونها فإن استراتيجيات التنمية تتمتع بفرص ضئيلة للنجاح. الدول الغنية تتنكر لمبادئها وتضع الحواجز أمام حرية الهجرة: ويحاول سكوت الإجابة على تساؤل يتردد كثيراً حول أسباب استمرار الدول الفقيرة في التقهقر والتخلف عن اللحاق بالدول الغنية، ويعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيسي يرجع إلى أن معظم الدول الغنية قد استبعدت إلى حد كبير التدفق الدولي للعمالة إلى داخل أسواقها خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. ونتيجة لذلك لم تكن العمالة غير حرّة في التدفق عبر الحدود الدولية في البحث عن وظائف تدرّ عليها دخلاً أكبر، فبالنسبة للولايات المتحدة وأوربا لم تشهد الهجرة زيادة كبيرة إلا في السنوات الأخيرة على الرغم من أنها بلغت ذروتها السابقة قبل قرن في الولايات المتحدة. ففي عام 1977م لم تسمح الولايات المتحدة سوى بهجرة 737 ألف شخص من الدول النامية، بينما سمحت أوربا بدخول 737ألف مهاجر، والرقمان معاً لا يشكلان سوى 0.4 في المائة فقط من المهاجرين المحتملين، فالقصة المسكوت عنها هي أن الدول الغنية التي ترفع عقيرتها بالتحرر والأسواق الحرّة تتنكر لتلك المبادئ عندما تضع العراقيل أمام حرية الانتقال والواردات الزراعية، حيث أن كلاً من أوربا واليابان تضعان عقبات تجارية كبيرة على وارداتها الزراعية. فرص متساوية نعم ولكن من هو المستفيد؟! وخلاصة الأمر أن الأسواق العالمية توفر الفرص للجميع؛ غير أن هذه الفرص لا تضمن النتائج إذ أن معظم الدول الفقيرة غير قادرة على الانتفاع من رؤوس الأموال الأجنبية الكثيرة أو الاستفادة من الحرية المتزايدة للدخول إلى الأسواق، وفي الحقيقة فإن هذه الدول قد زادت من حجم مبادلاتها التجارية من 35 في المائة من إجمالي الناتج الوطني في عام 1981م إلى حوالي خمسين في المائة في عام 1997م، ولكن بدون النمور الآسيوية لا زالت صادرات الدول النامية أقل من 25 في المائة من إجمالي صادرات العالم، ويعود جانب من تلك المشكلة إلى أن الميزة التقليدية للدول النامية تكمن في السلع الأولية: الزراعة والمعادن. وقد تقلصت مثل هذه السلع من حوالي سبعين في المائة من التجارة العالمية في عام 1900م إلى حوالي عشرين في المائة في نهاية القرن العشرين، فقد تحولت فرص النمو في السوق العالمية من المواد الخام أو المواد شبه المعالجة إلى السلع المصنعة والخدمات وإلى تلك التي تعتمد على مزيد من المعرفة من بين هذه السلع وهو اتجاه يفيد بالتأكيد الدول الغنية وليست الفقيرة التي ما زالت على هامش اقتصاد المعرفة وإن كانت النمور الآسيوية تشكل استثناء. ويطالب سكوت في ختام مقاله بالسماح للدول الفقيرة بأن تفعل ما فعلته الدول الغنية لكي تنطلق بدلاً من إجبارها على تبنّي نهج (دعه يعمل دعه يمر) فالإصرار على فائدة ميزة المنافسة في صناعات تتسع بانخفاض الأجور والبطء في النمو طريق مؤكد لبقاء هذه الدول في وهدة الفقر واستمرار الفقر سيؤدي إلى ارتفاع مستويات الهجرة غير المشروعة والعنف مثل عمليات الاختطاف وانتشار العصابات وغياب حكم القانون |
مجلة الهلال: ذو الحجة 1421هـ - مارس 2001م |
|
مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية |
المفهوم المعاصر لمبدأ المواطنة لتحديد المفهوم المعاصر لمبدأ المواطنة - في الاستخدام الغربي والعربي - يحسن بنا أن نشير إلى الجوانب التالية: (1) مفهوم المواطنة، (2) أبعاد مبدأ المواطنة وشروط مراعاته. 1- مفهوم المواطنية (Citizenship) تشير دائرة المعارف البريطانية إلى المواطنة بأنها:(علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة)، وتؤكد دائرة المعارف البريطانية أن (المواطنة تدلّ ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات)، وعلى الرغم من أن الجنسية غالباً ما تكون مرادفة للمواطنة، حيث تتضمن علاقة بين فرد ودولة، إلا أنها تعني امتيازات أخرى خاصة، منها الحماية في الخارج، وتختم دائرة المعارف البريطانية مفهومها للمواطنة، بأن المواطنة (على وجه العموم تُسبغ على المواطن حقوقاً سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة). وتذكر موسوعة الكتاب الدولي أن المواطنة هي عضوية كاملة في دولة أو في بعض وحدات الحكم، وهذه الموسوعة لا تميز بين المواطنة والجنسية مثلها مثل دائرة المعارف البريطانية المشار إليها سابقاً، وتؤكد أن (المواطنين لديهم بعض الحقوق، مثل حق التصويت وحق تولي المناصب العامة، وكذلك عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم). وتعرف موسوعة كولير الأميركية كلمة (Citizenship) (وتقصد بها مصطلح المواطنة ومصطلح الجنسية دون تمييز) بأنها (أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالاً). ويبدو من هذه الموسوعات الثلاث، أنه في الدولة الديمقراطية يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة من البالغين الراشدين بحقوق المواطنة فيها، وهذا الوضع ليس نفسه في الدول غير الديمقراطية حيث تكون الجنسية مجرد (تابعية)، لا تتوفر لمن يحملها بالضرورة حقوق المواطنة السياسية، هذا إن توافرت هذه الحقوق أصلاً لأحد غير الحكام وربما للحاكم الفرد المطلق وحده. 2- أبعاد مفهوم مبدأ المواطنة وشروط مراعاته: إن مبدأ المواطنة كما استقرّ في الفكر السياسي المعاصر هو مفهوم تاريخي شامل ومعقد له أبعاد عديدة ومتنوعة، منها ما هو مادي - قانوني، ومنها ما هو ثقافي - سلوكي، ومنها أيضاً ما هو وسيلة أو هو غاية يمكن بلوغها تدريجياً، ولذلك فإن نوعية المواطنة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري، كما يتأثر مفهوم المواطنة عبر العصور بالتطور السياسي والاجتماعي وبعقائد المجتمعات وبقيم الحضارات والمتغيرات العالمية الكبرى ومن هنا يصعب وجود تعريف جامع مانع ثابت لمبدأ المواطنة. لكن على الرغم من صعوبة تعريف مبدأ المواطنة، باعتباره مصطلحاً سياسياً حياً ومتحركاً في سيرورة تاريخية مستمرة، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن مصطلح المواطنة يمكن استخدامه دون دلالة ملزمة تسمح للمتحدث والمستمع في آن واحد أن يصلا معاً، إلى مفهوم محدد ومشترك يتعدّى فهم كل منهما للآخر إلى فهم الآخرين المعنيين باستخدام المصطلح داخل البلد نفسه وخارجه أيضاً. فمصطلح المواطنة مثله مثل مفهوم الديمقراطية المعاصرة والدستور الديمقراطي اللذين يمتان بصلات وثيقة له. مفهوم يتطلب وجوده إقرار مبادئ والتزام بمؤسسات وتوظيف أدوات وآليات، تضمن تطبيقه على أرض الواقع، وإذا كان من المقبول أن تكون هناك بعض المرونة في التعبير عن هذه المتطلبات - من دولة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر - من أجل الأخذ في الاعتبار قيم الحضارات وعقائد المجتمعات وتجربة الدول السياسية والتدرج في التطبيق، إلا أن تلك المرونة في الفكر السياسي الديمقراطي المعاصر وما تم الاتفاق عليه من عناصر ومقومات مشتركة لابدّ من توافرها في مفهوم المواطنة، وكذلك لابدّ من وجود الحد الأدنى من الشروط التي تسمح لنا بالقول بمراعاة مبدأ المواطنة في دولة ما من عدمه. وتشمل هذه الشروط إلى جانب الحقوق القانونية والدستورية وضمانات المشاركة السياسية الفعالة، الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية مثل التقارب في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم ومهارات الوصول إلى المعلومات البديلة التي تسمح للمواطن بالحصول على المعلومات من مصادر مختلفة متنافسة، كما يجب أن تشمل هذه الشروط حداً أدنى من المسؤولية المجتمعية تجاه تنمية فرص العمل والرعاية الاجتماعية في حالة العجز والبطالة، ومن أجل التعليم والصحة والتنمية الثقافية. ومن هنا فإن الحد الأدنى لاعتبار دولة ما، مراعية لمبدأ المواطنة من عدمه، يتمثل في وجود شرطين جوهريين: أولهما زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، وذلك باعتبار الشعب مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي، ومن خلال ضمانات مبادئه ومؤسساته وآلياته الديمقراطية على أرض الواقع، وثانيهما اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة أو الذين لا يحوزون على جنسية دولة أخرى (البدون) المقيمين على أرض الدولة وليس لهم في الحقيقة وطن غيرها، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية، كما تتوفر ضمانات وإمكانيات ممارسة كل مواطن لحق المشاركة السياسية الفعالة وتولي المناصب العامة. وعندها يمكن أن يتحقق انتماء المواطنين جميعاً للوطن، وبالتالي يتحقق ولاؤهم لوطنهم ومواطنة كل منهم للآخر بفضل المشاركة العادلة في الخيرات واتخاذ القرارات. وهنا تنتقل المواطنة من كونها مجرد توافق أو ترتيب سياسي تعكسه نصوص قانونية، لتصبح المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات قيمة اجتماعية وأخلاقية وممارسة سلوكية يعبر أداؤها من قبل المواطنين عن نضج ثقافي ورقي حضاري وإدراك سياسي حقيقي لفضيلة معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة دون تمييز بينهم بسبب الدين والمذهب والعرق والجنس. |
مجلة المستقبل العربي: العدد264 2/2000م |
|
نحن والديمقراطية.. منظور تنويري |
تحتم جهود التنوير العربية في المسارات الجديدة التي توضع مناطق العالم على خطوها اليوم فكراً تأملياً انتقادياً نزيهاً ومراجعات مدققة للمفاهيم والمعايير والاتجاهات والسياسات التي تتم الدعوة إليها أو التي يجري تبنيها في الواقع العملي المشخّص. والحقيقة أن التنوير ذاته لا يستقيم البتّة خارج حدود هذه المراجعة التحليلية النقدية، ولا يرجى منه أي فائدة أو جدوى إن هو لم يسوّغ ذاته ويقم بنيانه على أسس راسخة ورؤى سديدة تحيط بحقائق الأشياء وبوقائع العالم الصلبة والهشة على حد سواء. ولم تعد الأحوال تطيق إطلاق الدعاوى المموهة أو الأحكام الإقناعية الخطابية أو التقديرات العامة التي تلقى على عواهنها أو التي تند، ابتداءً عن كل مبادئ (التحقق) الفعلي وأساليبه. فالمفارقة العظمى التي ألقتها إلينا في النصف الثاني من القرن العشرين حركات النهضة العربية بأشكالها الفردية أو الجماعية - إذ جعلت من الديمقراطية ديدناً وقصداً مطلقين - فضحت على نحو مروّع القواعد الدفينة والأسس المزيفة والتسويغات الخادعة التي كانت تثوي في قواعد البنى التاريخية لأولئك الذين نسبوا وجودهم (الخارجي) إلى هذه الدعوى. فالحقيقة هي أنه لم يتعلق بصدق الدعوى وبمقوماتها المشخصة إلا نفر قليل. أما أغلبية القوم فتلبستها شروطها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية (الأولية)، تلك الشروط المنحدرة من الثقافة (القاعدية) والقيم السائدة والأحوال الوضعية والتراث المشوّه. لقد تعلّقت جميع الحركات السياسية والاجتماعية بهذه القنية الثمينة، قنية الديمقراطية، ونادت بها وجعلتها مبدأ وغاية لحراكها. لكنها في التجربة المشخصة وفي الحياة الفعلية وفي جميع الحالات التي هيئ لها أن تدرك مقاصدها في الاستحواذ على (الملك)، أقدمت على عملية فصل واقعي مباشر بين جذري الكلمة المقدسة: الحكم والشعب، وحولت السلطة السياسية والدولة إلى أداة مضادة للشعب وإلى وسيلة لقمع حرياته وكبح مطامحه، وتنكرت لكل المعاني المقدسة التي ارتبطت بالمفهوم الكلاسيكي المتداول لهذا المبدأ، وجعلت من الأرض الموعودة أرضاً يباباً. ولم تخرج جملة المفكرين أنفسهم إلا لماماً عن هذه السبل، يستوي في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى حركات قومية أو نخبوية أو قمعية أو تفردية تنهض بجلاء في وجه جميع القواعد التي تقوّم الديمقراطية، وتشي بحقائق واقع خفي مرير يند على نحو صارخ عن السبل المفضية إلى المتعلقات الجوهرية المنشودة من هذا النظام: العدالة والحرية والرفاهية والوحدة. لم يعرف القرن العشرون العربي إلا أضواء خادعة ووعوداً كاذبة؛ فلم يقدر لدعوى الديمقراطية أن تجد في الفضاءات العربية مكاناً طيباً. بيد أن ما هو أخطر من ذلك أن المفهوم نفسه لم يجد من يجلّي معانيه تجلية تامة ولم يقف أحد منه إلا عند طبقاته القشرية الخارجية، وبقيت مشكلاته البنيوية خارج مدى النظر. وفي خضم التحول الذي يعتور وجوداتنا اليوم، يعود المفهوم من جديد، ويراد له أن يتصدّر قائمة الأهداف والغايات والمقاصد التي يتوجّه بها إلى بثها ونشرها المؤمنون بـ(المجتمع المدني). ويقارن ذلك وجه من المفارقة يتمثل في أن هذا المبدأ نفسه بات ينصبّ شعاراً من الشعارات التي تدعو إليها الدولة العربية القطرية أيضاً، لا بل إن بعض هذه الدول يتخطى في دعاواه الديمقراطية أكثر الديمقراطيين وثوقية وإيماناً وتصديقاً. ويساعد على ذلك بكل تأكيد أن المفهوم نفسه يبدو مفهوماً (حمّالاً للوجوه) وأن الغموض وعدم التحديد يأذنان باستخدامه في جميع الأحوال ومن جميع الأطراف، بنوايا طيبة أحياناً وبنوايا غير طيبة أحياناً أخرى. تلك وجوه من المسألة تستدعي نظراً (تنويرياً) يرفع الغطاء عن جوانب الغموض وعدم التحديد، ويسهم في تحريرنا من الأوهام الزائفة المغلفة لجملة الأحوال العامة التي ضاقت واشتدت وباتت تفرض على كل منا مراجعة القضية بحيث لا يأذن أحد منا لنفسه أن ينزل إلى النهر ويجري في تياره دون أن يعرف معرفة كافية حقيقة المجرى الذي ندب نفسه للسير فيه. |
عالم الفكر: د. فهمي جدعان - العدد3/المجلد29 - مارس 2001م |
|
ما هو الصنم؟! تشريح بنية الوثنية السياسية |
جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد: (يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقه فأحسّ الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى: ]وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه[ فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن). إن هذه القصة تحكي اختلاط الإلهي بالبشري والتشدّد بالجهل والعنف بالمقدس، ومن الخوارج تستمدّ بعض حركات (الإسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فإن (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه أعيد إحياؤه مرة أخرى بدون اسم الخوارج(!!). إن من السهل إزعاج الآخرين ولا يحتاج إلى كسر قلوب عشرين شخصاً أكثر من عشرين إهانة في عشرين دقيقة، ولا حاجة لأن تستعدي عليك العالم أكثر من التعرض لمقدساته ولكل أمة جعلنا منسكاً وهم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتنجتون) صاحب نظرية (صدام الحضارات) يفرك يديه الآن فرحاً وهو يرى (الطالبان) يتطوعون بتنفيذ المهمة مجاناً بصدم العالم الإسلامي بالبوذي. وفي الوقت الذي يعيش الطالبان خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا ولا يعرفون ما هي المعاصرة فإن مجلة (در شبيجل) الألمانية تنقل لنا أنهم ليسوا أول من سنّ هذه السنة السيئة، بل حصلت حمّى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين: الأول قام فيه البروتستانت عام 1529م في سويسرا وهولندا وألمانيا تحت شعار: أيها الصنم إن كنت إلهاً كما تدّعي فدافع عن نفسك، وإن كنت بشراً فيجب أن تنزف دماً بالتصفية الجسدية. ويعلّق (بيتر بتسلر) مدير المتحف التاريخي في (بيرن): (هل كان ما فعلوه جنوناً أم إرادة الله حقاً؟) وختم كلامه:(إنه سؤال للضمير في أوربا المسيحية والعالم الإسلامي). والمهم أن أعظم التحف الأثرية في الشمال الأوربي تم نسفها نسفاً حيث يتحسّر عليها الباحثون اليوم، وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الإنساني (إيراسموس) ووصف تلك النزعة التدميرية بأنها: (تشبه تدمير طروادة في العصر القديم). وقصة الطالبان اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجراً أو بشراً أو (أيديولوجية). ولكنه يتظاهر دوماً بأنه متعال ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الإنساني الانصياع والرهبة. أبسط الأصنام ما نحت من الحجر، وأعقدها (الأيديولوجية) لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما أنزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الأصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من عل بوجه مكفهرّ ويد ممدودة إلى جماهير مطحونة تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوّقة بالقلّة والقذارة والفوضى وإذا تنفست كان الجو عابقاً بجزيئات (رجال الأمن). إنه لا يهم أن يكون الصنم من حجر أو تمر أو شعار أو حزب أو عائلة أو طائفة أو طبقة بل نظرتنا إليه. ونحن من نشحنه بالمعنى، والأهم من هذا (السدنة) الذين يقفون خلفه يوحون إلى الجماهير زخرف القول غروراً أنه يضر وينفع، ويضع ويرفع، ويعتقل ويطلق إنها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين. إن اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الإنسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية، (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نوراً فما له من نور). إلا أنه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة، وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف الثمرة)، أو كما يقول (لورد اكتون):(كل سلطة مفسدة، وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق). وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى أن هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يعرض أفكاراً بل ينصب أصناماً ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح). ورأى أن الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية). التي تدار بواسطة حكومات سيئة تحرم أولئك الذين هم في أشد الحاجة من فرصة تحسين مستويات معيشتهم من خلال الانعتاق والخروج من بلادهم، وفي المقابل فإن هذا الثبات والجمود يقضي على مصدر محتمل للضغط على الحكومات غير الفعالة التي لا تتسم بالكفاءة، وهو ما يعزز من فرص بقائها. |
خالص جلبي: صحيفة الشرق الأوسط |
|