العولمة ... التحديات والأبعاد المستقبلية |
علـــي عبــد الله |
أسئلة عديدة تدور حول ظاهرة العولمة، فهل هي إرادة بشرية أم تغير موضوعي بنيوي ونوعي في صيرورة العالم، أم هي طور من أطوار الحضارة الإنسانية جاءت لتتجاوز الدول والقوميات والثقافات الوطنية لتحل بدلاً عنها كمنظومة اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية يجمعها إطار واحد وصيغة واحدة في هذا العالم على اختلاف شعوبه ودوله وقومياته وثقافاته؟ هل إن العالم أجمع سيتجه حقاً إلى ذلك؟ وما مصير الثقافات والهويات الأخرى من خلال هذه الصيرورة؟ ونحن نقول إنه رغم انقسام الآراء، وتناقض المواقف، حول العولمة إلا أنها استقطبت - بوصفها ظاهرة في طور التكوين - اهتمام شرائح فكرية وفئات اجتماعية متعددة الانتماءات والمشارب والتخصصات من اقتصاديين وسياسيين وعلماء اجتماع ومثقفين لا يربط بينهم سوى اهتماماتهم بجملة التغيرات النوعية المتلاحقة التي يشهدها العالم، في مستويات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، والتي تعدت نطاق القوميات، وتجاوزت حدود الدول والأقاليم، وأخذت تؤثر في حياة الناس بنسب ودرجات متفاوتة، بغضّ النظر عن الجغرافيا والعرق واللغة. فقد انبرى عدد من المهتمين بهذا الشأن رافعين راية الرفض باتجاه تركيز السمات المميزة والخصوصيات العريقة لمجتمعاتهم؛ فيا ترى كيف نشأت العولمة وما هي أنماطها أو كيفياتها؟ |
منشـــــأ العــــولمــــــة وأنمـــــاطهــــــا.. |
إذا كانت العولمة ظاهرة موضوعية فهي في جانب من جوانبها نتيجة لسياسات وإرادات الحكومات وبرلمانات الدول التي وافقت ووقعت على القوانين والاتفاقات التي تلغي الحدود وتحرر حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال في الأسواق العالمية، ورغم أن هناك دعوات تصف العولمة بظاهرة النشوء، وأننا لم نصل عصر العولمة بالكامل، إلا أن العولمة لم تعد تقف خلف الباب تستأذن الدخول بل هي بدأت تفعل فعلها على هذا الكوكب منذ سنوات، ولم تعد مجرد مفهوم بل هي ممارسة وسلوك يومي وعملية مستمرة تنمو وتتطور على الدوام، ويمكن تلمسها من خلال مجموعة من المؤثرات الكمية والكيفية في كافة المجالات، ومع بداية تبلور الظاهرة بدأت مفاهيم ومصطلحات من مثل العالم الثالث، التحرر، حوار الشمال والجنوب، التنمية الاقتصادية تختفي أو تفقد معناها لتحل محلها مقولات جديدة متناغمة مع التوسع الجديد، والهيمنة الجديدة، لرسم خارطة وأرضية جديدتين بكافة الأبعاد وصولاً إلى فرض الأيديولوجية الجديدة. وبهذا يمكننا تعريف العولمة بأنها عملية تعميم لأنماط إنتاج واستهلاك وتوزيع، وتبادل لأنماط ثقافية واجتماعية وإعلامية وسياسية؛ وذلك لتلبية نماذج معينة باستخدام أدوات تساعد على بلورة الظاهرة من خلال الشركات المتعددة الجنسية والتي تمارس سطوتها بكفاءة عالية. فهناك نزوع قديم نحو العولمة - على أنها بدأت منذ خمسة قرون مع غزو أميركا - ولكنه ظل ذا طابع إقليمي، وفي أغلب الحالات مجرد نزوع لم يصل إلى مستوى الحقائق الملموسة على الأرض، كما هو الحال الآن بفضل التطور السريع في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. فالإمبراطوريات الاستعمارية كانت تنزع نحو العولمة، كما إن نظريات وأيديولوجيات كثيرة كانت تنزع نحو العولمة وإن كانت بمفاهيم ومنهجيات مختلفة. إلا أن هذه الأشكال من النزوع لم تصل إلى مستوى العولمة لأنها لم تكن تملك الأدوات والوسائل المادية المساعدة لتحويل النزوع إلى فعل يمارس على الأرض. ومن الأمور التي يعدها البعض مفارقات أنّ الأممية التي كانت شعار الطبقة العاملة في الحركة الاشتراكية الشيوعية تحولت إلى شعار القوى الرأسمالية المعولمة حيث أن هناك أكثر من 40 ألف شركة تعمل على المبدأ الأممي وتنشر أممية رأس المال في طول الكوكب وعرضه وتقتلع حدود الدول وتبتز هذه المجموعة العمالية بالمجموعة الأخرى وتلك الدول بدولة أخرى!!. فإلى أي مدى ستظل صيرورة العالم مرتبطة بآفاق التطور الرأسمالي ومشدودة وتابعة لمصالح قوى الهيمنة الاقتصادية والسياسية على الصعيد الدولي؟ وما هي احتمالات انفتاح العولمة على الصعد المختلفة في المستقبل؟. ولكي لا يتحول حديثنا عن مستقبل العولمة إلى نوع من الرجم بالغيب، فلا بد من محاولة فهم واقعها الراهن، ورصد محاور واتجاهات تطورها، لنستطيع بعد ذلك تتبع الاتجاهات الأكثر احتمالاً للتحكم بمستقبلها. |
حـــــركـــــة الـــعـــــــولـمــــــــة.. |
بسبب ترابط التغيرات التي تجري في إطار العولمة والآثار التي تخلفها الإجراءات الاقتصادية على المجتمعات والدول وكذلك ما يمكن أن تحمله الثورة التقنية من إمكانية الانتقال إلى مجتمع المعلومات وما يترتب على انتقال كهذا من آثار تطال العمل وتنظيم الحياة والزمن، فإن الاكتفاء بتحليل العولمة من منظور اقتصادي أو اجتماعي أو تقني يبقى قاصراً عن الإحاطة بشموليتها لكنه ضروري لإضاءة أحد جوانبها وتوفير المعطيات اللازمة لفهم صيرورتها والعوامل الأساسية التي تسهم في تشكلها. فالعولمة ووفقاً لمجريات تطورها الفعلية، وما ينتج عنها من تأثيرات وما تمثله من تحديات تطرح علينا منطق قبولها أو رفضها فكرياً، لأن مجموعة التفاعلات العالمية المصاحبة لها قد أصبحت واقعاً فعلياً توجب علينا البحث الجاد في كيفية التعامل معها والتفكير في الاستراتيجيات والخطط التي نمتلكها والتي ستحدد موقعنا في مجريات الحدث على ضوء أهدافنا وإمكانياتنا وسبل الاستفادة منها؛ أي إن تأثيرات العولمة، رغم طابعها الكوني وما توظفه من طاقات، ليست قدراً محتوماً يحدد مصيرنا فيما يجري سلفاً، بل إن هذا المصير مرتبط إلى حد كبير بما سنعمل وكيف سنواجه التحديات، ولا يفيدنا بشيء تجاهل ما يجري، أو الاكتفاء برفضه انفعالياً، فلا موقعنا كمسلمين ولا أهدافنا المستقبلية تتيح لنا تجنب التفاعل مع ما يحدث على الساحة العالمية. |
الــمكـــــــونات الأســـــاسيــــة للـعـــــولمــــــة |
لعلّ أكثر مكونات العولمة ارتباطاً بالبنية التكوينية لعالمنا المعاصر هو ذلك التقدم المتسارع في تقنية المعلومات التي شكلت برمتها حجم التدفق الاستثماري للسوق المحلي، وصولاً إلى قواسم مشتركة تعتمد الاقتصاد ورأس المال مضافاً إليها الأبعاد السياسية والبنيوية من خلال ما يدعو إليه السوق النقدي والمال العالمي للانفتاح معه باتجاه السعي لجعل السلطة النقدية عاجزة عن الدفاع عن أسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار الأوراق المالية في البورصات؛ مما يؤدي إلى تحول العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية؛ عندئذ تتحول الدعوة الاستهلاكية العالمية لهذه الأسواق إلى آيديولوجية صارمة، تقتضي الحاجة الاستهلاكية الخضوع إليها. |
أبعـــــاد الـظــــــاهـــــرة وخـصـــــائصهـــــــا.. |
ومهما يكن من أمر فلا بد من التأمل في هذه الظاهرة الخطيرة من منظور يختلف عن المنظور الزائف الذي تطرحه وسائل الإعلام الأجنبية المختلفة. لقد كان للعولمة تأثير كبير داخل المجتمعات، بعد أن أدت إلى حصول انقسامات فيما بينها؛ أي بين القادرين على استخدام التكنولوجيات الحديثة ووسائل الاتصالات والمعلومات من جانب، وبين العاجزين عن ذلك بسبب حالات الفقر أو الافتقار إلى المعارف والمهارات اللازمة من جانب آخر، وهذا ما يؤدي إلى حصول فجوة في حجم التعامل مع المتغيرات النوعية. ومما تجدر الإشارة إليه هو أن تطور تقنيات المعلومات والاتصالات يتخذ شكل التقدم الخطي الصاعد في قفزات لا مجال فيها للعودة إلى الوراء مما يقود البشرية إلى مغامرة من التحولات والمفاجآت في حجم القاعدة التقنية لها. والمشكلة لا تنحصر في قدرة الإنسان العربي على استيعاب هذه التقنيات، لأنه قادر حتماً على استيعابها، بشرط توفر الشروط الملائمة لهذا الاستيعاب، بل إن المشكلة تكمن بالسياق القائم لدى الأمم المتقدمة التي تمتلك رؤوس الأموال الضخمة التي توفر لها القدرة على النمو التقني والتكنولوجي. |
الإفـــــرازات الـسلـبـيــــة للعـــــولمـــــــة.. |
عند العودة إلى جذور العولمة نجد أنه بعد انتهاء الحرب الباردة تحول النظام الرأسمالي إلى نظام عالمي بقيادة أميركا، حيث ابتدأت الظاهرة باتجاه فرض هيمنتها مع تعاظم القوة الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات، والتي مثلت سلطة هذه العولمة دون أن تعلن عن هويتها أو ولاءاتها، وهذه الشركات غير خاضعة لمسؤولية معينة لأنها لا تمثل السلطة الرسمية لأية أمة من الأمم. فمن أهم الإفرازات السلبية للخصخصة، التي هي أحد ظواهر العولمة، تحقق سيطرة بعض الأفراد أو العائلات على مشروعات استثمارية ضخمة، وظهور طبقة المحتكرين الذين يسعون إلى توسيع نطاق التهريب والاحتكار، بما يمسّ سلطة الإدارة السياسية في بعض المجتمعات النامية، نظراً لما تمليه من خصائص معينة، وما تؤدي إليه من إفرازات سلبية، تتطلب مواجهتها حلقات متصلة وسلطة اقتصادية وتكنولوجية وقانونية وسياسية مشتركة. |
خـيــــارات المجــــــابـهــــــــة.. |
إن مكونات ومضامين العولمة التي تفرضها شروط الحاجة المتزايدة على أساس الاستجابة لمصلحة السوق العالمية المفروضة تسحب نفسها من خلال الإحاطة بالمهمات التي اتبعتها البلدان النامية ضمن شروط السعي المتواصل لتطور البنى الارتكازية لهذه البلدان وذلك من خلال متابعة التطورات المتسارعة في مجالات الحياة المختلفة، مع العلم أن هذه المتابعة تحتاج إلى مصالح دولية - عربية متكافئة وتحتاج إلى مساعٍ هائلة متشعبة ضمن سياقات الهوية والانتماء والقانون والسياسة بما يفرض شروطاً تعجيزية حيث تحتاج إلى جهود كثيفة في هذه الجوانب تدخل ضمن شروط الشركات وتكاليف التكنولوجيا والاستحداثات المتطورة من حقول الموارد المتعددة بما يحتاج إلى سوق عربي هائل ورأس مال متدفق يستوعب حاجة هذه البلدان. كما إن الحالة تحتاج إلى قاعدة صناعية ضخمة مشتركة ورأس مال مشترك بما يتيح المجال لتوحد صناعي استثماري مشترك تفرضه شروط المواجهة الجديدة والإعداد للقيام بالدور الجديد الذي سيكون بمثابة خطوة أولى لمواكبة التدفق التقني العالمي. والنجاة من المخاطر الاقتصادية التي تفرضها وتكرسها الهيمنة العالمية بغض النظر عن ظروف المنافسة الشديدة التي تتطلب مواجهتها توازناً نفسياً في إعداد وتطبيق البرامج الجديدة؛ وهذا النجاح لا يستطيع إنجاز مهماته دون امتلاكه لمنهجية تفكير قادرة على استيعاب الاحتمالات والمتغيرات الانفجارية في كافة حقول التجربة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والإداري. إن عملية النهوض - مع التحديات الضخمة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات - تحتاج إلى برامج تنموية تستوعب استراتيجيات التعامل الجديد فضلاً عن الحاجة لدراسة المعوقات الأخرى الناشئة من خلال مواجهة هذه التحديات. |
الاتجــــاهـــات الـمحتــملـــــة للعـولـمـــــــة.. |
لن نستطيع التنبؤ بمستقبل العالم إذا لم نتفهم الأحوال الراهنة له والاتجاهات المرئية الفعالة في مناحي تطوره. فهنالك ثلاثة تيارات تتجاذب حول مفهوم العولمة؛ التيار الأول يرى أن العولمة هي هيمنة القوى الاقتصادية والعسكرية على الكوكب وبكلام أكثر دقة أمركة العالم. أما التيار الثاني فهو ينظر إلى أن العولمة عملية تبادل منافع وخبرات ومعارف بين أمم وشعوب الأرض، بينما يرى التيار الثالث بأن العولمة هي ظاهرة حضارية تؤدي إلى تحويل العالم إلى قرية كبيرة تتلقى نفس التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية. وهذا يقود بدوره إلى الاندماج المتسارع للاقتصاد العالمي. ويبقى السؤال مطروحاً: هل العولمة تعني الهيمنة وأمركة العالم فعلاً أم إن العولمة تعني تبادل المنافع والمعارف؟ والجواب هو أن العولمة قد تكون هذا وقد تكون ذاك، ولكن مع اختلاف الزمان والمكان لن تعدوا كونها هيمنة. وبالرغم من أن موقع الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً، والاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب، إلا أن الإطار السياسي والأمني الدولي ذو قطب واحد. وهذا ما جعل الأوربيين واليابانيين يخشون العولمة ويعدون العدة للتعامل معها إذ يمكن أن تصبح العولمة عملية تبادل منافع عندما يتطور العالم إلى مرحلة تعدد الأقطاب المتكافئة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أي عندما يصبح هناك قطب أوربي وقطب ياباني وآخر صيني وربما أقطاب أخرى وعلى مستوى من الندية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر أحد أهم هذه الأقطاب في مواقع الهيمنة الرأسمالية؛ إذ إن الدعامة الأساسية التي تقوم عليها نظم هذه المجتمعات هي مؤسسات متعددة الشركات، وأغلب هذه الشركات تملك فروعاً متعددة في بلدان صغيرة تحتاج إلى حمايتها، وتقتضي متطلبات الحاجة الدفاع عن مصالح هذه الشركات، وتمثيل دعاياتها وتغطيتها إعلامياً ما يؤدي إلى نظرية التكافؤ هذه. |
الـعـــــولمــــة وسيـــــاسة الــنظـــــام الـدولــــــي.. |
إن العولمة تعكس ولا شك مظهراً من مظاهر التطور الحضاري كما تحمل في ظل الوضع الدولي الراهن ذي القطب الواحد إرادة الهيمنة واختراق الآخر وسلب خصوصيته وهي تختلف عن النظام الدولي لأن ما يرسم معالمها هو رأس المال المعولم. إن آليات التطور الرأسمالي جزء من وسائل التوسع المستمر خارج الحدود الوطنية ولهذا نجد أن العولمة تنحو باتجاه إيجاد نمط جديد غير مسبوق لهذا التوسع وتتنامى بتنامي البعد العالمي للرأسمالية وبمحاولة توحيد السوق العالمية وإخضاعها لقوانين مشتركة موحدة تقوض كل أشكال السيادة القطرية خالقة بذلك نوعاً من القوة الاقتصادية المؤثرة في مختلف جوانب الحياة العالمية دون أن تقابلها سلطة سياسية على المستوى العالمي. ويمكن النظر إليها على أنها واحدة من أهم المشاريع الرأسمالية لإدارة أزمتها الراهنة والمتمثلة في وجود ركود طويل الأمد، وغلبة الادّخار على الاستثمار، بسبب الافتقار إلى منافذ الاستثمار المربح داخل الحدود القومية؛ وذلك نتيجة انخفاض معدلات الربح، كما إن التقدم الثقافي وزيادة الإنتاجية والحاجة إلى أسواق أوسع خارج إطار الدولة القومية قد ولدت الحاجة إلى سوق عالمية للتسوق؛ وبالتالي تكون العولمة أحد متطلبات التطور الرأسمالي لتوفير مجالات الاستثمار واستيعاب الفوائض بحيث تستطيع الرأسمالية تجديد نفسها والتغلب على تناقضاتها والتكيف مع أزماتها. |
الانـتشـــــار الاقتصــادي للعولمـــة ومستقــبل اقتصاد المنطقة |
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين شهد العالم موجة جديدة أطلق عليها اسم العولمة الاقتصادية، وبمرور الزمن تزايدت الدعوة لها حيث بدأت ملامح ومرجعيات وخصائص هذه الظاهرة تتسارع لتشكل الهندسة الجديدة لاقتصاد القرن الحادي والعشرين، وإذا كانت العولمة الاقتصادية قد ولدت مع بداية عقد التسعينات فإن جذورها تعود إلى بدء انهيار الكينزية وعودة المدرسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة مع بداية الثمانينيات. إن العولمة الاقتصادية كظاهرة لتطور النظام الرأسمالي تعني الانتقال من الاقتصاد الدولي الذي تتكون خلاياه القاعدية من اقتصاديات متنافسة ومتمركزة على الذات، إلى الاقتصاد العالمي القائم على النظم الاقتصادية والمؤسسات الاقتصادية الكونية وعلى سلطة القرار الاقتصادي الكوني. لذا فإن العولمة بهذا المعنى تصنف ضمن مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية بما يهدف إلى تحقيق وحدة العالم الاقتصادية، منظوراً إليها من وجهة نظر الرأسمالية كنظام اقتصادي عالمي قائم على آليات السوق الرأسمالية كعلاج شاف لكل مشاكل الكون الاقتصادية، أي بمعنى تحقيق الطابع العالمي الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي متكامل، وهي بهذا المعنى نزوع للهيمنة على الطريقة الإمبراطورية، أي إنها غير مرئية، بحيث تحددها طبيعة عمل شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد. وهذا ما يضفي عليها بعداً آخر يستهدف كيانات الدولة والوطن والأمة، فإذا ما تم سحب هذه الكيانات الثلاثة، تتحقق هيمنة الإمبراطورية العالمية. |
مـــرتكــــــزات الـعــــــولمـــــــة.. |
إن شروط الإمبراطورية الجديدة في عصر العولمة تقوم على ثلاث ركائز وهي الشركات المتعددة الجنسية، والمؤسسات الكونية، وكذلك البشر الكوني، إضافة إلى الفضاء الذي تصنعه شبكات الاتصال، ويحتوي الاقتصاد والسياسة والثقافة. ولا شك أن هذا الموضوع معقد وشائك وحديث؛ إذ تتداخل فيه موضوعات الرغبة في الدخول في العصرنة من ناحية، وموضوعات التخلي عن بعض مقومات السيادة الاقتصادية من ناحية أخرى، كما إنه يرتبط بقضايا بالغة الأهمية كقضايا نموذج التنمية المتمركزة على الذات، وقضايا فك الارتباط، وقضايا تفكيك الاقتصاديات الوطنية، وتحجيم القطاع العام، وقضايا الليبرالية الاقتصادية المؤدلجة، وغير ذلك من القضايا التي تهدف إلى مزيد من تقليص مساحة السيادة والى تكريس مفاهيم عالمية جديدة تهدف إلى إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم، وإعادة نظام العبودية الاقتصادية الذي تسعى الولايات المتحدة جاهدة للوصول إليه؛ كونها تدعو للترويج لسلوكيات ومرجعيات وآليات الاندماج في الاقتصاد العالمي، بغية جعل العولمة الاقتصادية عملية لا مفر منها ومن قبولها والتكيف الإيجابي مع متطلباتها فيما إذا أريد سلوك طريق للنمو والتنمية. ولهذا لابد من القول بأن القبول بمشروع العولمة الاقتصادية كطريق لتحقيق التنمية في بلدان العالم الثالث وعالمنا الإسلامي بالذات هو مشروع خطير وإن تحقيق التنمية عبر هذا المشروع ما هو إلا محاولة كبرى تستهدف كياننا وحضارتنا وهويتنا الإسلامية. |
الأهـــــداف الاستــــــراتيجـيــــــة للعــــولـمـــــة.. |
إن عملية الإحاطة بظاهرة العولمة تحتاج إلى دراسة أهدافها الاستراتيجية الساعية لشل حركة وظائف الدول والأمة، وتفكيك نظمها الإنتاجية ومؤسساتها أي القفز فوق مهام الدولة والأمة والوطن والمواطنة، وتمكين الشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات الاقتصادية الكونية من إدارة وتسيير شؤون الاقتصاد العالمي، لتحل محل الدولة، لغرض تعميق اختراق اقتصاديات الجنوب، وإلحاقها بالاقتصاد العالمي من موقع متخلف لتؤدي وظائف معينة، ناهيك عن تنفيذ مصلحة سلطة القرار الاقتصادي العالمي، عبر إدارة شديدة المركزية من الخارج، لغرض خلق ما يسمى بالأممية الاقتصادية، أي بمعنى خلق ما يسمى بأمة العولمة الاقتصادية أي خلق المجال الاقتصادي العالمي، وهو عبارة عن كيان جديد ووطن جديد لا ينتمي إلى الجغرافية ولا إلى التاريخ. عندئذ يستثنى فتح الأبواب أمام حركة رؤوس الأموال الدولية، وطبقاً لهذه الأهداف فإن العولمة تسعى إلى خلق إطار مؤسس يهيمن على العالم ويستند إلى خلق تجانس في المفاهيم والمؤسسات وآليات عمل الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية بالإضافة إلى تفكيك النظم الإنتاجية والمؤسسية والاقتصادية مع خلق تكامل فيما بين الأنشطة البيئية الاقتصادية الكونية، وتصغير حجم القطاع العام ونشاط الدولة الاقتصادي. وتنطوي العولمة طبقاً لهذه الأهداف والمقومات على تبني آيديولوجية عناصرها الأساسية لمحاربة الذاكرة الوطنية والتاريخية والوعي والهوية، بما يشكل خطراً لا يمكن تجاهله على عالمنا؛ إذ يمتاز عالم اليوم بكونه عالم إطلاق العنان لأميركا وحلفائها لتفكيك المفاهيم التقليدية لمفهوم السيادة الاقتصادية الوطنية والاستقلال الاقتصادي وإعادة صياغتها بما يؤدي إلى تصغير حجم الدولة إلى مفهوم تقليدي في اللغة الاقتصادية بل ومحاصرة مفهوم التنمية المستقلة كشعار وملاذ لدول العالم الثالث عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً في جهادها ضد التخلف والتبعية. ويشن الغرب بقيادة الولايات المتحدة هجمة شرسة ضد المفهوم السيادي للدولة في الدول النامية تحت ذرائع مختلفة كعدم الكفاءة الاقتصادية وسوء توزيع الموارد وعدم تدوير الدواليب الاقتصادية وخنق التنمية..الخ. وكأن مصير التنمية في هذه الدول يرتبط ارتباطاً مصيرياً بإزالة المفهوم السيادي!. إن الركون إلى التحليل الذي تسعى الإدارة الأميركية للترويح له ينطوي على اختلال ومغالطة بشأن أهمية دور الدولة في التنمية، فضلاً عما ينطوي عليه من أهداف تتعلق بما يسمى بالعولمة الاقتصادية التي تحمل عنوان اقتصاديات السوق، والدعوة المعاصرة للرأسمالية الطليقة، وعالمية الاقتصاد، فالولايات المتحدة من خلال دعوتها للعولمة الاقتصادية بكل مضامينها ومفاهيمها وآلياتها، تحاول بناء هيمنتها الاقتصادية ونفوذها الاقتصادي على اقتصاد القرن الواحد والعشرين وإدارته إدارة اقتصادية شديدة المركزية. |
دوافـــــع العولــــمــــــة.. |
إن أبرز دوافع العولمة الاقتصادية تكمن في أزمة الاقتصاد الأميركي التاريخية واختلالاته الداخلية والخارجية المزمنة التي انعكست على تدهور مؤشرات أدائه الاقتصادي، فضلاً عن تزامن هذا التدهور النسبي مع صعود القوى الاقتصادية الجديدة كاليابان؛ لذلك وجدت الولايات المتحدة في العولمة الاقتصادية المستندة إلى مبادئ ومفاهيم وآليات السوق مخرجاً لاقتصادها من أزمته، ووسيلة للهيمنة على مقدرات الاقتصاد العالمي، وأداة ضغط على القوى الاقتصادية الصاعدة فضلاً عن أهداف تهميش اقتصاديات دولنا وإلحاقها بالاقتصاد العالمي من موقع متخلف. |
مصادر البحث |
1- المتلاعبون بالعقول. عالم المعرفة. (الإصدار الثاني) 243. تأليف هربرت أ. شيلر. ترجمة عبد السلام رضوان. آذار 1999. 2- العولمة، دراسة تحليلية نقدية. د. عبد الله عثمان، د. عبد الرؤوف محمد آدم. دار الوراق، 1999. 3- فخ العولمة. تأليف هانس ـ بيتر مارتين هارالد شومان 238. ترجمة د عدنان عباس علي. مراجعة وتقديم رمزي زكي، عالم المعرفة. 4- العولمة محاولة في فهمها وتجسيدها، ترجمة هشام حداد. الطبعة الأولى 1999. دار طلاس للدراسات والنشر. |