|
ملف
عدد محرم1422هـ
|
فائــق محمد حسيــن |
||
روي عن الرسول (ص) إنه لما أخبر ابنته فاطمة الزهراء (ع) عن حالة ولدها الحسين من بعدها وما يجري عليه من المحن والبلاء، جعلت تبكي عليه بكاءً شديداً. فقالت: يا أبتاه ومتى يكون هذا في ولدي الحسين؟ قال(ص): يكون في زمان قد خلي مني ومنك ومن علي. فاشتدّ حزنها وبكاؤها، ثم قالت: ومن يبكي على ولدي ومن يقيم العزاء عليه؟ قال (ص): يا فاطمة، إن نساء أمتي يبكين على نساء أهل بيتي، ورجال أمتي يبكون على رجالهم ويجددون العزاء عليهم جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة أنت تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال، فكل من بكى على الحسين وأقام مأتمه أخذت بيده وأدخلته النعيم، يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في طاعة الله، وعين بكت على مصاب ولدك الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم ربها يوم القيامة... |
في يوم عاشوراء (61هـ) وقف الإمام الحسين(ع) كأول خطيب حينما دعا براحلته فركبها ونادى بصوت عال يسمعه جلّهم: (أيها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من قدومي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.. الخ)(1)، وبعد الحسين تقدم أصحابه وكان أول خطيب منهم زهير بن القين حينما خرج على فرس ذنوب وهو شاك من السلاح فقال: (يا أهل الكوفة؛ نذار لكم عذاب الله، حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف.. الخ) (2). في مسلسل المواجهة مع الدين الإسلامي الحنيف وآل البيت الكرام، لم يكتف شرار بني أمية وأعوانهم بارتكاب يزيد الظالم جريمته الكبرى بقتل الإمام الحسين(ع) وأصحابه وأبنائه وذويه والتمثيل بجثثهم، بل سعوا ومن تبعهم من قوى الشر والضلال وطوال القرون الماضية إلى شن حملات شيطانية شرسة، وفي جزء من خطة خبيثة شاملة ضد الإسلام والفكر الشيعي بالذات إذ تعرض إلى محاولات الدس الرخيصة والافتراء والأكاذيب، وإلى شتى فنون التشويه والمسخ، وإلى مختلف أنواع التحديات، استهدفت بالأساس استئصال روح الإسلام وذكرى الحسين الشهيد من قلوب وعقول المسلمين، وإبعادهما كلياً عن عقل الإنسان العربي والمسلم وإحلال أفكار حاقدة مسمومة بدلهما. لذلك كان الواجب يقتضي التصدي للقوى الظلامية الجائرة، والوقوف بوجهها بقوة وصلابة، وتفنيذ دعايتها الواهية وبذل كل الجهود والإمكانيات في سبيل حفظ وحماية التراث الإسلامي والحرص الكبير على صون فكر وأهداف الإمام الحسين (ع) وقيم ثورته المجيدة، فكان (المنبر الحسيني) أحد أهم المكاسب وأروع المعطيات التي حققتها حادثة الطف.. المنبر الذي غدا منذ لحظة قيامه منطلقاً لتوجيه الأمة وإرشادها نحو الطريق القويم، وغرس النزعات الخيرة في نفوس المسلمين، قال رسول الله (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً) (3). لذا فإن الحزن على الحسين (ع) ليس (بدعة)، بل شهادة صادقة على عظمته.. وهذا بحد ذاته إعجاز خارق لسنن الحياة وقوانين الحزن على المصائب.. فلم يزل سيد الشهداء حياً في قلوب المسلمين، لم تضمحل ذكراه بمرور الزمن، وظل الحزن على الحسين الجذوة التي تبقي المؤمن وفياً لأهداف الثورة الحسينية الرائدة.. (إن توثيق صلة المؤمنين بالإمام الحسين عبر دمعة ساخنة تثير أحاسيسهم باضطهاد الحق، وتشحنهم بحرارة الإيمان، وهي بذات الوقت تذيب أسس الظلم لينهار صرحه بفعل تلك الدمعة ومن هنا كان الفعل والفعل المضاد) (4). |
بيّن الإمام زين العابدين (ع) ثواب البكاء على الإمام الحسين (ع) حيث قال: (أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين دمعة حتى تسيل على خدّه بوّأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لأذى مسنا من عدونا في الدنيا، بوّأه الله بها في الجنة مبوأ صدق) (5). وقال الإمام الباقر (ع): (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمرنا، فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلتم بالذكر فإن اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا)، وقال (ع): (ثم ليندب الحسين ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبة بإظهار الجزع عليه ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً في البيوت، وليعز بعضهم بعضاً في البيوت) (6). وقال الإمام الصادق (ع) للفضيل بن يسار: (يا فضيل؛ أتجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال الإمام: إني أحب تلك المجالس، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا) (7).. وقال الإمام علي الرضا (ع): (من تذكر مصيبتنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يُحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) (8). |
يذكر التاريخ أن أول مأتم أقيم بعد واقعة الطف مباشرةً تكوّن من السيدات والفتيات والعلويات وهن زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين (ع) والهاشميين الذين استشهدوا معه.. وقد عقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من المحرم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان والصدور ملأى باللوعة والأحزان، تعالت فيها صرخات نساء بني هاشم في كل ركن من أركان الطف حيث قتل السبط الشهيد، فواحدة تندب أباها، وأخرى أخاها وثالثة وليدها، فتمت إقامة المأتم على الحسين (ع) بعد تجمع النسوة كأم كلثوم وزينب وسكينة وبقية النساء الهاشميات، وقيل أنه استمر ثلاثة أيام بلياليها. كما أقيمت مآتم أخرى في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهن وينشرن مظلومية أهل البيت(ع) والمبادئ التي قتل من أجلها الحسين وأصحابه.. يقول الإمام زين العابدين (ع): (وكلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح تارة وبالسياط تارة أخرى). ولقد شاء الله أن يفضح جريمة بني أمية في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب (ع) وبقية الهاشميات بيتاً للنياحة على الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قريشية إلا ولبست السواد حزناً على الحسين (ع) وندبته.. وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنورة (وكانت أول صارخة فيها على الحسين (ع) عندما قتل بكربلاء أم سلمة زوج النبي (ص) وذلك أن رسول الله دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: إن جبرئيل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، فإذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين قد قتل.. صارت القارورة عندها فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، وفي يوم الطف رأتها صارت دماً عبيطاً! فصاحت: - واحسيناه! يا ابن رسول الله!.. فتصارخت النساء في المدينة حتى سمع في المدينة رجة ما سمع مثلها قط) (9). وأقامت أم سلمة أول مأتم للحسين (ع) في المدينة المنورة، وكان الموالون والمحبون يأتون جماعات وفرادى ويحضرون المأتم ويقدمون تعازيهم ومواساتهم لأهل بيت النبوة، تارة بالنثر وتارة بالشعر ويعبّرون عن مشاعرهم وأحزانهم بأبلغ بيان وأجمل تعبير، حتى إنهم تركوا ثروة أدبية لا يستهان بها في التسلية والمواساة.. كان الواجب يقتضي إحياء أمر أهل البيت(ع) ليبقى كشريان نابض في حياة الأمة الإٍسلامية، يحفظ لها حيويتها بما يمثله من صور ناصعة للإسلام وأصالة لم تشبها شائبة.. لذلك استمرت المآتم ومجالس العزاء بالانعقاد، وتعاظم صداها على طول البلاد وعرضها لتعبر عن حالة الهيجان الشعبي، ورغم كل الصعاب واصلت مسيرتها على مر الأيام والسنين بقوة أحياناً وضعف أحياناً أخرى حسب ما كانت تسمح به الظروف.. ففي مدينة الدم والشهادة كان أول من أقام العزاء على الحسين في كربلاء من زوجاته الرباب (لما قتل الحسين أقامت امرأته الكلبية مأتماً وبكت عليه سنة كاملة) (10). كان الإحساس بمأساة الحسين وفجيعة الطف إحساساً عميقاً وكثيفاً إلى درجة غدا فيها كل ما يذكر بها وكل ما يثيرها وكأنه من آثارها.. وقد اتخذ التعبير عن هذا الإحساس الشعبي العميق النابض في اللاشعور مظاهر عديدة.. (أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولى لنا يحدثنا قال: سمعت البارحة منادياً ينادي: أيها القاتلون جهلاً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عليكم من نبيّ وملك وقبيل قد لعنتم على لسان ابن داود وموسى وحامل الإنجيل) (11) (فلما قتل الحسين لبثوا شهرين، أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع) (12). وعن هذه الرؤية عبر الشاعر سليمان بن قته العدوي كناطق بلسان الشعب ومجسد وجدانه، ونلمس الزفرة الحارة عنده حين يقول: مررت على بيوت آل محمد فلم أر أمثالها يوم حُلّت ألم تر أن الشمس أضحت مريضة لقتل الحسين والبلاد اقشعرت وإن قتيل الطف من آل هاشم أذلّ رقاب المسلمين فذلّت وقد أعولت تبكي السماء لفقدها وأنجمها ناحت عليه وضلت(13) لقد أثارت حادثة الطف اللوعة في نفوس المسلمين حتى إن يحيى بن الحكم الأموي وهو أخو مروان بن الحكم ومن داخل الأسرة الحاكمة قال متعجباً من أمر آل سمية أم زياد بن أبيه وجده عبيد الله بن زياد: لهام بجنب الطف أدنى قرابةً من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل سمية أمسى نسلها عدد الحصى وليس لآل المصطفى من نسل(14) ومن أجل استمرار ثورة الحسين وتثبيت مفاهيمها الأساسية في وجدان الشعب، واستيعاب معانيها، وبيان ظلم الطاغية يزيد كان لابد من استنهاض الهمم وبث روح الكفاح والجهاد، فاقتضت الضرورة انبثاق المنبر الحسيني، وكانت وظيفته يومذاك وستبقى وظيفة بالغة الأهمية، إذ تميزت بخصوصية غير عادية وقدمت لوحة ناطقة ببشاعة ما أقدم عليه بنو أمية. وهكذا استلهم خطباء المنبر الحسيني الشجاعة والحماسة والبلاغة من لغة أهل البيت (ع) (الحسين وزينب وزين العابدين) وخطبهم أيام الطف وبعدها، لاستنطاق مشاهد الجريمة المروعة والتعبير عن مشاهداتهم الحية.. واستعار الخطيب الحسيني وأعاد شحن كلماتهم وخطابهم الذي تغذى بلبان القرآن والحديث والنهج، والمتمتع بجمالية وفنية بلاغية عالية.. وكانت كلمات العقيلة زينب (ع) في الكوفة ودمشق بمثابة الزيت الذي أضاء سراج ثورة الحسين والمنار الهادي لكل الخطباء الذين اعتلوا منابر الدعوة لإحياء نهج الحسين، والنور الذي شعّ على الدنيا لفضح سيرة بني أمية الدموية. خاطبت السيدة زينب (ع) أهل الكوفة قائلة: (يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر والخذل.. أنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقرّ سلمكم، وأس كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم، ومدرة حججكم، ومنار محجتكم) (15). (ويلكم؛ أتدرون أي كبد لمحمد (ص) فريتم؟ وأي عهد هتكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟)، (إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً أو كمرعى على دمنة)، (ملق الإماء وغمز الأعداء). ويكفكف الإمام زين العابدين (ع) عبرة عمته زينب قائلاً: (إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر) (16). وينبري مخاطباً الكوفيين: (كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه، فبأي عين تنظرون إلى رسول الله (ص) إذ يقول لكم قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي). (أنا علي بن الحسين المذبوح بشط الفرات من غير ذحلٍ ولا تراث) (17). (أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله). |
تروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين(ع) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة: يقول أمير غادر وابن غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه فواندمي ألا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادمه (أهم مراراً أن أسير بجحفل إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه) (18) وجاء في بحار الأنوار أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم: إذا العين قرّت في الجنان وأنتم تخافون في الدنيا فأظلم نورها مررت على قبر الحسين بكربلاء ففاض عليه من دموعي غزيرها فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه ويسعد عيني دمعها وزفيرها (19) وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: (إن أول زائر لقبر الحسين (ع) في كربلاء هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين) (20). لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم.. لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (ع) ، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل. فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً.. وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر يعجب لما وقع فيقول: يأمن الظبي والحمام ولا يأ من آل الرسول عند المقام وهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (ص): ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ماذا فعلتم، وأنتم خيرة الأمم؟ بعترتي وبأهلي عند مفتقدي منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بالدم ما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية وفي تحريك الثوار.. يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (ع): (إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد: فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل) (21) وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً: فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل (22) وبعد هذا كله وغيره نشطت وبصورة ملحوظة دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت ويقيمون (النياحة)، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف.. وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداول(23). ولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه: (في ربيع الأول من عام 65هـ وفي عهد عبد الملك بن مروان قصد كربلاء جماعة من التوابين من أهل الكوفة يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر فكان ظاهراً معروفاً) (24). ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة) فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتت شملهم. ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: (ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه) (25). لقد اعتبرت تلك البادرة التي قام بها التوابون في القرن السابع الميلادي إحدى أهم الشعائر الرمزية وأول حركة معارضة إسلامية شعبية بعد ثورة الحسين، وأول دعوة علنية للأخذ بالثأر والانتقام، وهي تبين حقيقة شعور أهل الكوفة بالندم المرير والحسرة البالغة لمقتل الإمام الحسين.. ولقد كونت تلك الحركة النواة الرئيسية لتجديد ذكرى الطف (حينما كان التوابون يجتمعون في بيت من بيوت أهل البيت (ع) في الكوفة ثم يذهبون إلى كربلاء للتجمع حول قبر الإمام الحسين وبصورة خاصة يوم عاشوراء للبكاء وطلب المغفرة، لتقاعسهم عن نصرته في واقعة كربلاء) (26). ولقد شجع ذلك أنصار ومحبي آل البيت على إقامة المآتم في بيوتهم وكان هناك قارئ يقرأ واقعة الطف، وقاص يقص ما حدث (رسالة أهل الكوفة للحسين ومن ثم غدرهم)، ونادب يندب ابن رسول الله وصحبه وقائل يقول المراثي ويلقي الخطب.. استمرت حركة الدعوة لإحياء ثورة الحسين دون توقف وغدت أكثر تنظيماً وفعالية بمرور الأيام، وأصبح الكميت بن زيد الأسدي أبرز الدعاة وكان خطيبا وشاعراً وعالماً بمختلف علوم عصره، وقد وظف قدراته بإخلاص وتفان في سبيل نصرة حركة الثورة على الأمويين، فأنتج أدب دعوة جديد، يعدّه الباحثون المحرض الأول على التجديد الشعري الثوري، الذي عرف فيما بعد باسم الشعراء المحدثين، وهكذا كان الكميت شاعراً محرضاً على ثورة سياسية واجتماعية وأدبية.. وقد عرفت قصائد الكميت الداعية إلى الثورة باسم (الهاشميات) ولم يصلنا منها سوى جزء يسير نشر في كتاب اسمه (الروضة المختارة) إلى جانب القصائد العلويات السبع لابن أبي الحديد المعتزلي. ألا هل عم في رأيه متأمل وهل مدبر بعد الإساءة مقبل وهل أمة مستيقظون لرشدهم فيكشف عن النعسة المتزمل كلام النبيين الهداة كلامنا وأفعال أهل الجاهلية نفعل فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم فحتى م حتى م العناء المطوّل ذلك الأمر شجع أنصار الحسين على المضي قدماً في تقديم أوضح الصور عن مأساة الطف، (وكان أول من مثّل واقعة كربلاء وأشاع التمثيل فيها هو العلامة المجلسي الذي كان أكثر العلماء إطلاعاً على الأخبار وكلمات الفقهاء، وكل من جاء بعده من علماء البلاد أمضى فعله ولم ينكر عليه) (27). وكان الإمام الصادق (ع) قد حدد الطريق إلى إقامة مراسم العزاء الحسيني، وأظهر بعض التخصص فيها، فقال للفضيل: (بلغني أن قوماً يأتون قبر جدي الحسين (ع) من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساءً يندبنه وذلك في النصف من شعبان فمن بين قارئ يقرأ وقاص يقص ونادب يندب وقائل يقول المراثي، فقلت: نعم جعلت فداك، قد شهدت بعض ما تصف. فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا) (28). لقد عدّ بعض الباحثين والمتخصصين في المنبر الحسيني قول الإمام الصادق بدايات نشوء المأتم وبروز دور البعض في إدارة ما يشبه مجالس العزاء الحالية من حيث الشكل والاشتراك، فلقد سعى الإمام الصادق لتنظيم أمر هذه المجالس وانتشارها، وبجهوده ظهرت في تلك الفترة الحرجة من عداء زمرة العباسيين المواضيع المكتوبة التي تتلى في هذه المجالس والأحاديث التي تروى عن المعصومين في فضل الالتزام بالزيارة والبكاء على الحسين الشهيد (ع). وفي عهد الإمام الصادق أيضاً (انتشرت حالات تجمع الشيعة للحديث عما جرى من مصائب في كربلاء وسرد ما وقع وآخر يندب الإمام بالرقة ليثير العواطف حسب طلب الإمام من أبي هارون المكفوف حين ورد على الإمام الصادق (ع) وأنشده بعض الأبيات في رثاء الحسين (ع) فقال له: أنشدني كما تنشدون في الرقة. قال: فأنشدته (أمرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية) فبكى) (29). وهي قصيدة الشاعر المعروف السيد الحميري الذي هجا بها زياد بن أبيه وبنيه، وبسببها حبسه عبيد الله بن زياد وعذبه. وكان استنكار العالم الإسلامي لفعلة يزيد النكراء سبباً في التغاضي عن تظاهر الشيعة بالحزن على الحسين وعن اجتماعاتهم لتلك الغاية (وقد اغتنمت الشيعة تلك الفرصة فراحوا يكثرون الاجتماعات ويذكرون الحسين وما جرى عليه في كربلاء ويبثون ذلك بلغة الشعر والنثر) (30). ومرت على المآتم الحسينية فترات ضعف وقوة تبعاً للظروف ففي العهد العباسي كانت المآتم تمنع تارة ويسمح بإقامتها تارة أخرى، وإن هذه المجالس كانت تقام علناً أيام المأمون) (31). فلقد تساهل المأمون كثيراً في مسألة المآتم وسمح للشيعة وأنصار آل البيت ومحبيهم بإقامتها دون حرج (وكان الإمام الرضا (ع) يحتفل بهذا اليوم) (32). غير أن (النياحة) التي كان يقيمها أهل البيت لم تصبح شعائر ثابتة إلا في القرن الثالث للهجرة حين ظهر اسم النائح الذي يرثي الإمام الحسين (ع) بشعر ملحن (وكان الناشئ الأصغر على أغلب الاحتمالات أول من عقد مجالس النياحة على الإمام الحسين في بغداد) (33). وقد تطورت النياحة إلى قراءة (مقتل الحسين) لابن نمائم ابن طاووس وهي أول كتب المقاتل، ومن ذلك الحين أطلق على من يقرأ النياحة في عاشوراء اسم (قارئ المقتل) أو (القارئ) وهو وريث المداح العربي القديم و(القصخون) وقارئ المقامات الذي صوره الواسطي في لوحاته الغنية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.. ثم ألفت عدة كتب خاصة كانت بمثابة المادة التي يلقيها الخطباء، ولعل من النماذج التي تذكر في هذا الباب كتاب ابن نما الحلي (ت645هـ) المعروف ب(مثير الأحزان) وكتاب (اللهوف في قتلى الطفوف) لابن طاووس الحلي (ت664هـ). وتدريجياً، أصبحت كربلاء مزاراً يؤمه الكثير من المسلمين بالرغم من محاولات المنع والتقييد والاضطهاد التي قام بها الأمويون ومن بعدهم العباسيون، وقد أصبح قبر الإمام الحسين (ع) مركزاً لتجمع الشيعة القادمين من كل مكان على مدار السنة وبخاصة يوم عاشوراء، ولهذا السبب عمل المتوكل العباسي على منع إقامة المآتم الحسينية ومنع زيارة قبر الحسين (ع) ، وكان بذلك أول شخص فعل ذلك، ولم يكتف المتوكل بهذا المنع بل تطرف في عدائه للحسين، ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة (236هـ = 850م) فقال: (في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي(ع) وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويسقى موضع قبره) (34). علماً(بأن المنصور الدوانيقي هو أول من هدم قبر الحسين، وجاء من بعده هارون الرشيد سنة (193ه) فهدم القبر وحرث الأرض وقطع شجرة السدر التي كانت قرب القبر ليمحوا نهائياً آثار القبر الشريف) (35)، والثالث كان المتوكل وإن ذكر أبو الفرج الأصفهاني: (إن المتوكل هو أول من خرب القبر وهدمه على يد اليهود الذين كانوا معه سنة 233هـ) (36). لم يمنع إرهاب المتوكل الشيعة من المضي في إقامة العزاء أو القيام بمراسيم زيارة قبر الحسين (ع) بل استمروا في ذلك بتحدٍ مباشر أو بصورة غير علنية.. في تلك الفترة الحرجة ألفت عدة كتب كان أهمها كتاب (روضة الشهداء) للشيخ حسين الكاشفي السبزواري (ت910هـ) وكان يتلى في المجالس الحسينية، وترجم إلى عدة لغات.. لذلك سمي قارئ المأتم باللهجة العراقية (روزخون) لأنه كان يتلو كتاب (روضة خوان)!. وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معز الدولة البويهي (936 - 967م) وكان مع وزيره ابن المهلبي من الشيعة. قال ابن الجوزي مع المبالغة في التصوير: (جرت في العاشر من محرم عام (963م = 352هـ) ولأول مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء حيث أغلقت الأسواق وسارت النادبات في شوارع بغداد وقد سودن وجوههن وحللن شعورهن ومزقن ثيابهن وهن يلطمن وجوههن ويرددن مرثية حزينة) (37). (وأول من جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية هو معز الدولة البويهي) (38). وإثر ذلك تنفس الشيعة الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الدم أمراً متاحاً. وأخذوا يمارسون طقوسهم بحرية تامة وبصورة علنية، وينقل المقريزي أيضاً: (جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر واتسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقف البيع والشراء وتعطلت الأسواق وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة وهم باكون نائحون) (39). وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين (ع) في عاشوراء بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس (فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حاف وعليه شعار الحزن فيقرأ مقتل الحسين (ع) ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت (ع) إلى أن ينتصف النهار فيدعى الناس إلى مائدة الخليفة، ولا تكون المائدة كموائد الأعياد من فرش أحسن البسط واختيار أنفس الأطعمة وتوفر الألوان وغير ذلك من مظاهر الملوكية وأبهة السلطة، بل تفرش الحصر ويمد سماط الحزن ويغير لون الخبز عمداً، ويجعلون على السماط ألباناً وجبناً وعسلاً وأمثال ذلك، ثم يخرجون بعد تناول الطعام على تلك الهيئة التي كانوا عليها من النوح والبكاء ويستمر الحال إلى ما بعد العصر) (40). ولقد نشط قرّاء المقتل في عملهم، يدفعهم عشق الولاء لأهل البيت (ع) والحب لخدمة الحسين (ع) مستفيدين من جيل الرواد الذين سبقوهم، ومحاولين في الوقت ذاته تحسين مستوى خطابهم والإطلاع على أحوال آل البيت واكتساب المعرفة من أحاديثهم والإلمام بثقافة القرآن والسنة النبوية، لمواجهة الدعايات المضللة التي راحت تشنها القوى الحاقدة إذ أخذت تجوب شمال إفريقيا بالذات لبث سمومها وتشويه صورة الإسلام الناصعة. وعلى أثر مجيء الصفويين إلى الحكم في إيران في بداية القرن السادس عشر الميلادي وإعلان المذهب الشيعي الإثنا عشري مذهباً رسمياً للبلاد (قامت الاحتفالات بيوم عاشوراء في كل عام ثم تطورت مراسم العزاء خلال القرن التاسع عشر وانتشرت في جميع أنحاء إيران) (41). وبعد إيران التي تأثرت مجالسها بمراسم العزاء في العراق انتشرت مجالس العزاء الحسيني وبكثافة وامتدت إلى الهند وآذربيجان التركية والأناضول... لكن ذلك لم يكن أمراً سهلاً وهيناً إذ واجه المنبر الحسيني عراقيل وصعاب ليس في البلاد البعيدة فحسب، بل في العراق أيضاً (خلال حكم السلاجقة والعثمانيين حيث أصدر الولاة في العراق مراسم لمنع أو تحريم أو التضييق على مراسم العزاء الحسيني مما أجبر شيعة بغداد على أن يقيموا مجالس التعزية في بيوتهم ولكن بصورة سرية، خوفاً من السلطات العثمانية خصوصاً في بغداد والكاظمية) (42). ومع حقد الأتراك وتطرفهم ومحاولتهم فرض السطوة على الفكر الشيعي، قاوم المسلمون في العراق ببسالة، ومضوا يمارسون الشعائر الدينية وإقامة العزاء في شهري محرم وصفر على نفس الوتيرة السابقة أو أقل منها أحياناً.. وكردّ فعل مباشر على كل تلك المضايقات قام الشيخ فخر الدين الطريحي (ت1085هـ) بتأليف كتاب (المنتخب) متبعاً أسلوباً جديداً من أجل تطوير المنبر الحسيني وتحديد مهامه وتوزيع المجالس حسب الليالي.. إذ أورد في كل ليلة أو مجلس قصيدة شعرية تناسب المقام وتتناول مصيبة تلك الليلة، وما يزال الخطباء يرجعون إلى ذلك الكتاب حتى يومنا هذا. ولقد ساعد على تطوير مراسم العزاء الحسيني وتشجيع أنصار الحسين على المضي قدماً في إقامة طقوسهم وكسر الحصار المفروض عليهم، تقاعس الأتراك عن حمايتهم، وظهر ذلك جلياً إثر هجوم زمرة الوهابيين الحاقدة على الإسلام والمسلمين على كربلاء والنجف (1802- 1804م) واستباحتهما وإضرام النار في ضريح الإمام الحسين (ع) ونهب ما فيه من نفائس وكنوز ثمينة، مما ترك آثاراً كبيرة وأليمة، ألهبت حماس الخطباء والشعراء وألهمتهم خطباً وقصائد ومراثي عبرت عن شعورهم بالغضب.. (وكان بعض الشعراء والخطباء قد اعتبروا هجوم الوهابيين على كربلاء يماثل ما جرى في كربلاء من قتل وتشريد حين هجم جيش الأمويين على الإمام الحسين وأهله وصحبه يوم عاشوراء، وإن هذه الحادثة هي إعادة لمأساة كربلاء من جديد.. ) (43). وطوال خمسة عشر عاماً تابع المنبر الحسيني نشاطه دون توقف رغم كل محاولات السلطة العثمانية من منعه أو التقليل من مجالس العزاء، وخلال حكم الوالي العثماني داود باشا (1817-1831م) جرت محاولات عديدة للتضييق على مراسم العزاء الحسيني أو منعها، لاعتقاده بأن العزاء الحسيني هو إحدى وسائل الدعاية التي تقوم بها الدولة الإيرانية ضد الدولة العثمانية (وفي تلك الفترة اضطر شيعة بغداد إلى إقامة مجالس التعزية في السراديب بعيداً عن العيون والرقباء والأسماع كما اضطروا إلى ترك امرأة تدير الرحى في صحن الدار لكي لا يسمع المارة في الشارع صوت من يقرأ التعزية) (44). وبقي الحال كما هو عليه حتى انعقاد صلح عام (1821م) بين داود باشا والحكومة الإيرانية، فانتهز البعض هذه المناسبة فأقاموا مجالس العزاء علناً.. وكان الشيخ موسى كاشف الغطاء أول من اقام مجلس عزاء في داره بالنجف الأشرف. وكان الشيخ محمد نصار النجفي المتوفي عام (1824م) أول خطباء وشعراء المنبر الحسيني الذي أقام في داره مجلس العزاء الحسيني وقرأ بنفسه التعزية. (ويعتبر الشيخ نصار النجفي من أشهر شعراء المراثي الحسينية في وقته وقد بقيت مراثيه التي كتبها باللغتين الفصحى والعامية الدارجة حتى وقت قصير تتداول في مجالس التعزية في العراق من قبل الخطباء والقراء، كما أصبحت نموذجاً فلكلورياً قلّده عدد كبير من شعراء المنبر الحسيني فيما بعد) (45). وفي سنة (1831م) أصبح علي رضا والياً على العراق وكان بكداشياً متصوفاً يميل إلى التشيع، فمنح انصار الحسين (ع) الحرية في إقامة طقوسهم الدينية، وجرّاء ذلك تطورت مراسم العزاء ونمت بسرعة وأخذت تقام بصورة علنية ومكثفة (وحضر الوالي شخصياً أحد مجالس التعزية الذي أقامته إحدى العوائل الشيعية في بغداد يوم عاشوراء (21/3/1831م) كما كان يستمع إلى الشاعر صالح التميمي وهو يلقي عليه قصائد يرثي بها الإمام الحسين (ع) في شهر محرم من كل عام) (46). انتشرت مجالس العزاء في العراق وتنوعت، وكان للمنبر الحسيني دوره المتميز والفاعل في تأجيج المشاعر وإلهاب النفوس، وشحذ الهمم والدعوة إلى مقاومة الظلم والعدوان، والثبات أمام كل التحديات.. وإذا اقتصرت مجالس العزاء الحسيني على شهري محرم وصفر من كل عام وبخاصة يوم عاشوراء، فإن المنبر الحسيني ظل وما زال طوال العام مستمراً بشتى المناسبات الدينية والاجتماعية لشرح مأساة الطف الدامية، التي شكلت في الحقيقة أول مأساة في الإسلام باعتبار كل يوم هو عاشوراء وكل أرض هي كربلاء. ولأن الحسين الشهيد (ع) كان وسيبقى يمثل الصراع الدائم بين الحق والباطل كانت المنابر الحسينية وما تزال الهاجس المرعب الذي يقض مضاجع الطغاة والظالمين، لذا ما أن حل الوالي الجديد لبغداد مدحت باشا حتى فرض أوامره الصارمة بمنعها، لكنه جوبه بالرفض التام من قبل قطاعات الشعب الفاعلة ورجال الدين الذين أفتوا ضده فلم يجد بداً من التراجع (حاول الوالي مدحت باشا منع مواكب العزاء وهدد بمعاقبة كل من يقيمها، غير أنه اضطر إلى إلغاء ذلك المنع بسب الاحتجاجات العديدة التي أبداها أهل بغداد وتدخل الباب العالي.. ) (47). ولم تعد مراسم العزاء الحسيني وطقوسه ظاهرة دينية شعائرية فحسب، وإنما غدت ظاهرة اجتماعية سياسية شعبية لها خصوصية وفرادة في العالم الإسلامي.. ولأنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمأساة الطف وبتاريخ الحزن والشهادة اتخذت بمرور الزمن معنى وخصوصية لدى أبناء العراق وسمة من سمات شخصية المسلم في الوسط والجنوب وغدت من أهم التقاليد والموروثات الدينية لديهم.. وبسبب إدراكه أهميتها، كونها لعبت وتلعب دوراً هاماً وفعالاً في المعتقدات الروحية للإنسان المسلم، حيث تخلق أجواءً دينية وثقافية يمكن توظيفها اجتماعياً وسياسياً في المناسبات الدينية، عمل الشيخ كاظم السبتي (ت1374هـ) في أواخر القرن الهجري الماضي على وضع منهجية جديدة للمنبر الحسيني لتواكب مسيرة تطوره وتحافظ على خصوصيته.. وذلك بتحديد وتثبيت الأسس المتينة في بناء المدرسة المنبرية الحديثة، ولقي منهجه صدىً طيباً لدى الخطباء.. ومنذ احتلال الإنكليز للعراق عام (1917م) تغير الموقف، وحل في نفوس القائمين على المواكب الحسينية الشك والريبة في خطط ونوايا المستعمر، الذي أظهر وجهين متناقضين في آن واحد، ففي الوقت الذي أخمد انتفاضة الشيعة، وثورة العشرين الباسلة، بالحديد والنار وحاصر مدينة النجف، وأعدم قادة الثوار فيها، ونفى آخرين إلى مستعمراته البعيدة، وجد نفسه مضطراً للانحناء أمام العاصفة (اتبع الإنكليز سياسة الترغيب والتحبيب فأخذوا برعاية المواكب الحسينية بصورة خاصة وأجازوا إقامة المآتم والسبايا) (48). ولم تكن الجماهير الثائرة بحاجة إلى إجازة ورعاية، إذ شهدت مدن العراق الرئيسية وبغداد بالذات قيام مواكب العزاء بوتيرة عالية وثوب جديد.. (وأخذت مواكب العزاء تقيم مراسمها في ساحة الصحن الكاظمي وفي جامع الخلاني ببغداد) (49). إن الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني للعراق كان قد ساعد على رفع روح التضامن والأخوة بين الفرق والطوائف الدينية في العراق وبصورة خاصة بين الشيعة والسنة (بحيث أخذت بعض العوائل السنية تقيم مجالس التعزية في بيوتها) (50). وفي عام (1921م) وعند تأسيس الحكومة العراقية الأولى أعلن يوم عاشوراء عطلة رسمية لأول مرة احتفاءً بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) وسمح بإقامة مراسيم العزاء الحسيني.. وفي العام (1935م) حاولت الحكومة العراقية منع مواكب العزاء غير أنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً.. إذ إن وحدة الرأي وتكاتف أنصار الحسين الذين تتلمذوا على يديه، وأخذوا من مدرسته المعين الذي لا ينضب عطاؤه دروس الفداء والاستقامة والصبر والشجاعة، وجعلتهم تواقين إلى الحرية والإباء ولا يخضعون لأي حكم ظالم، أفشلت كل قرارات المنع، وجعلت لواقعة الطف الحضور الدائم في حياة العراقيين الثقافية والاجتماعية والنفسية.. إن وجود خطباء من الطراز الأول يعملون على مدار السنة يغذون الأبناء بحب آل البيت (ع) ويذكرونهم بفداحة المصاب وعظم الرزية وبوحشية بني أمية، جعلت من حادثة الطف التاريخية واقعاً حياً ملموساً وكأنها تحدث كل عام، وحفزتهم على الاقتداء بالحسين وأصحابه الذين استشهدوا معه، وعلى استيعاب معاني الثورة الحسينية واستلهام روح النضال والكفاح والتضحية منهم.. ولما كان المنبر الحسيني من أهم العوامل المؤثرة في شخصية العراقي، لاستنهاض هممه، إذ وفر للكثير من الشباب والكبار فرصة ذهبية لتلقي الثقافة الدينية والتاريخية وفي إبراز فضائل الأئمة (ع) ومناقبهم، والتذكير بما حل بهم من مآسي والتعرف على أبطال الإسلام وعظماء الرجال، وكان له الفضل الأكبر في حفظ تماسك المجتمع، وإشاعة روح الفضيلة والإصلاح والتقوى في نفوس المسلمين.. كان الواجب يقتضي دائماً التفكير في تطويره ودفعه قدماً إلى الأمام. وفي عام (1965م) حاولت حكومة عبد السلام عارف منع إقامة العزاء الحسيني، ومصادرة كلمة الحسين غير إنها جوبهت بإرادة حديدية وعزيمة قوية، أفشلت خططها، وفي عام (1966م) سمحت حكومة عبد الرحمن عارف بإقامة العزاء الحسيني، وأظهرت تسامحاً في ذلك (وبثت إذاعة بغداد صبيحة يوم عاشوراء نصاً كاملاً لمقتل الحسين (ع) بصوت القارئ الشهيد عبد الزهراء الكعبي في محاولة لاستمالة الجمهور واحتواء مشاعره) (51). لعب المنبر الحسيني الدور الأبرز في تاريخ العراق الحديث وفي فترات الاضطراب السياسي والقلق الاجتماعي، حيث تدخل الخطباء والجماهير الحسينية في دعم القوى الوطنية الفاعلة، وكذلك الحركات والأحزاب الدينية والسياسية، وكان يحرك الشارع ضد الطغاة من الحكام، لذلك عمل النظام ومنذ سيطرته على الحكم في انقلاب (1968م) على تحدي الشعور الديني والشعبي، وحاول الالتفاف على العزاء الحسيني ومنعه، واتخاذ إجراءات حازمة وقاسية ضد كل من يخالف أوامره، وجرى الضغط على القائمين بمراسيم العزاء وقام بتدابير وإجراءات غاية في الوقاحة والتعسفية لتقييد حريتها، ومنع المسيرات الشعبية، وبلغت ذروتها في عام (1977م) حين تحدت الجماهير أوامر السلطة واتجهت إلى كربلاء مشياً على الأرجل (وسرعان ما تحولت المسيرة إلى تظاهرة شعبية عارمة واصطدمت مع الشرطة، وعندما وصلت المسيرة إلى منتصف الطريق الذي يربط بين النجف وكربلاء اصطدمت بالجنود الذين صوبوا بنادقهم نحوها، مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى واعتقال مئات الأشخاص، كما ألقي القبض على عدد من علماء الدين.. ) (52). ومع كل ما حصل لم يتوقف المنبر الحسيني عن أداء دوره في السنوات السابقة رغم التضييق والحصار وأحكام الإعدام التي طالت العشرات من رجاله. وهكذا انتشرت المنابر الحسينية ولأول مرة في التاريخ بشتى أنحاء المعمورة ابتداءً من استراليا حتى الولايات المتحدة بفضل أبناء الرافدين المهجرين والمهاجرين، وعلى عكس ما سعى يزيد وأئمة الكفر إلى محو صورة آل البيت وطمر تراث الحسين، فبقي وزالوا، ومُدح وذموا. |
المصـــادر : |
(1) تاريخ الطبري: 6/242، مثير الأحزان: ابن نما 26. (2) تاريخ الطبري: 6/243. (3) مستدرك الوسائل: 2/207. (4) ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: محمد مهدي شمس الدين 235. (5) المصدر السابق. (6) كامل الزيارات: 175. (7) بحار الأنوار: 44/282 - 44/278. (8) الأوائل: إبراهيم الحموي 48. (9) كربلاء شهر حسين: 137. (10) لواعج الأشجان: محسن الأمين 176. (11) الطبري 6/293. (12) مقاتل الطالبيين: لأبي الفرج 121 - دائرة المعارف الحسينية: للكرباسي 1/94. (13) الطبري: 6/265. (14) (15) (16) الاحتجاج للطبرسي 2/30، 165، 32. (17) تراث كربلاء: سلمان هادي آل طعمة 32، خزانة الأدب: للبغدادي 2/138. (18) الطبري: 6/271. (19) بحار الأنوار: 10/167. (20) موسوعة العتبات المقدسة: جعفر الخليلي 8/257. (21) ديوان الفرزدق: دار صادر 6. (22) الطبري: 6/214. (23) دراسات حول كربلاء: إبراهيم الحيدري 709. (24) الطبري: 3/417. (25) مدينة الحسين: محمد حسن الكليدار 2/73. (26) الأخبار الطوال: أبو حنيفة الدينوري 17، الإمامة والسياسة: ابن قتيبة 2/130. (27) تنقيح المقال في علم الرجال: آغا بزرك. (28) كامل الزيارات: 326. (29) المصدر السابق: 104. (30) تاريخ المآتم الحسينية: محمد رضا الكتبي 2/17. (31) الصلة بين التصوف والتشيع: الشبيبي 1/98. (32) تاريخ المآتم الحسينية: 1/8. (33) نهضة الحسين: هبة الدين الشهرستاني 173. (34) الكامل في التاريخ: ابن الأثير 7/55، وفيات الأعيان: لابن خلكان 2/434. (35) بحار الأنوار: 10/294، أعيان الشيعة: 4/304. (36) مقاتل الطالبيين: 203. (37) المنتظم لابن الجوزي. (38) الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية 136. (39) نهضة الحسين: هبة الدين الشهرستاني 163. (40) تاريخ الشيعة: محمد حسين المظفر 188. (41) تاريخ براون: 28. (42) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق: علي الوردي 2/18. (43) تاريخ العراق بين احتلالين: عباس العزاوي 6/144، آل سعود: جبران شامية 106. (44) لمحات اجتماعية: علي الوردي 2/110. (45) شعراء الغري: علي الخاقاني 12/324. (46) (47) لمحات اجتماعية: 2/110، 111. (48) جريدة العرب: 11 محرم - 18ت1/1918م، لمحات اجتماعية: 4/347. (49) جريدة العرب: 8/10/1919م. (50) لمحات اجتماعية: 5/173. (51) دراسات حول كربلاء: إبراهيم الحيدري 167. (52) العراق: حنا بطاطو 3/405، سنوات الجهر: علي القيم 136. |