وللمتتبع أن يستنتج سير المجتمعات
الإسلامية في دورة كاملة انطلقت من التراث ثم
العودة إليه بصورة قوية في النصف الأخير من
القرن العشرين وهذه العودة ليست اعتباطية
إنما جاءت وليدة التجارب التي مارستها تيارات
النهوض بحيث صار كل تيار وهو يخلي مكانه
للتيار الذي يليه في قيادة مسيرة النهضة يؤشر
على ضرورة حضور معين للتراث حتى جاء الاتجاه
الأكثر دعوة للالتحام بالتراث وهو اتجاه
الصحوة الإسلامية.
وهنا أيضاً يمكن استنتاج كون حركة
النهضة حركة واحدة من حيث الجوهر حتى لو جاءت
من خلال تنوع أيديولوجي وتناقض فكري وصراعات
سياسية، ذلك أنها ليست إلا نزوعاً نخبوياً
وجماهيرياً وتطلّعاً لمغادرة التخلف والضعف
وبناء المجتمع الناهض القوي والمعاصر.
وقد أكد الأستاذ وجيه كوثراني هذا
المعنى في دراسة له نشرتها مجلة المستقبل
العربي بعنوان (أزمنة النهضة الثلاث) ناظراً
فيها إلى الصحوة على أنها الطور الأخير في
محاولات النهوض، وهي قراءة صحيحة للواقع تعني
الإقرار بحركة الواقع نحو الحالة الأكمل على
ضوء الدروس والتجارب..
ووفق هذه القراءة فالصحوة ليست سوى
امتداد لفكر النهضة حتى لو بدت في بعض جوانبها
نقضاً لبعض اتجاهاتها الأيدلوجية، وإن النقد
السلبي للصحوة ووصفها بالظلامية أو أية أوصاف
أخرى فإنه يعبر عن الصراع الداخلي بين
التيارات وما يتسم به من اللاموضوعية
والمبالغة.
ويأتي في هذا الإطار الطرح المقصود
لإشكالية التقابل بين التراث والمعاصرة كجزء
من الحرب الإعلامية وليس بقصد الوصول إلى
حلول للمعضلات وإنما يقصد به طعن الصحوة
الإسلامية باعتبار أن المعاصرة تمثل الواقع
القائم القوي والصحيح وباعتبار أن التراث
يمثل الذات المدافعة ضد محاولات الإلغاء التي
يمليها الواقع القوي الذي يفزر نفسه من خلال
معطيات موضوعية تستند إلى العلم والاستناد
إلى العلم نفسه يفضي بالضرورة إلى التكيف
والتلاؤم مع الواقع.
ومن هنا فإن الصحوة هي اتجاه غير
واقعي ينأى عن الخضوع للواقع ويعالج المشاكل
من خلال الشعار الداعي للالتحام بالتراث أي
أن الصحوة حالة من الخيال والحلم والطوباوية!.
لكن هذا النوع من النقد لا يستطيع
الاستمرار لأنه هو بدوره يعود ليترك فسحة
للتراث إذ لا سبيل لإنكار وجود جوانب مضيئة
فيه تصلح للبقاء والمساهمة في تشكيل المستقبل
الناهض وهو أمر تجمع عليه أغلب اتجاهات
النهضة. ومن جهة أخرى فإنه يسود نقد للمعاصرة
إذ أنها ومهما اتسمت بالقوة فإنها لا يمكن أن
تخلو من نقاط خلل ليكون الحاصل هو ضرورة وجود
تيار أكثر دقة في التعامل مع التراث ومع
المعاصرة في نفس الوقت كما أن هذا النقد
يتناسى أن ولادة الصحوة لم تأت من فراغ وإنما
جاءت لوجود مبررات وأسباب موضوعية في الواقع،
فجاءت تعبيراً عن مدى معين من الخلل الذي بدا
واضحاً عند التيارات الأسبق حتى لو كانت
تنطوي بدورها على مستويات من الخلل كسواها.
فمن المعلوم أن التيار الليبرالي
والتيار الديني الإصلاحي كان كل منهما يسعى
إلى تحقيق النهضة ولكن من موقع مضاد للآخر حيث
كان الأول يريد فسح المجال واسعاً في الذات
لاستيعاب الحضارة الغربية لكنه لم يكن يستطيع
التفكير بقيام نهضة بدون حضور واضح للذات. أما
بالنسبة للتيار الديني الإصلاحي فإنه كان
يريد فسح أفق معين لاستيعاب الحضارة الغربية
لكن الذات هي الحاضر الأول.
وهكذا يشترك التياران بأنهما
يريان ضرورة الاستعارة من الحضارة الغربية
والاختلاف هو في حجم وطبيعة هذه الاستعارة،
كما أنهما يشتركان في ضرورة حضور الذات
لكنهما أيضا يختلفان في المساحة الممنوحة
لهذا الحضور.
ولا نريد هنا تكرار النقد الموجه
لكل من هذين التيارين لأن حركة الواقع أسفرت
عن تنحيهما كلاهما ووصول تيارات أكثر
ابتعاداً عن التراث حتى أن بعضها كان يدعو إلى
تنحية التراث الثقافي نهائياً وإلى الأبد
لأنه يغذي حالة التراجع التي منيت بها الأمة!.
لكن سرعان ما بدت علائم الإعياء
عليها وعاد التراث للحضور بقوة من خلال
التيارات القومية وإن كان حضوره أقل بروزاً
منه في التيارات الإسلامية لكنه في كل
الأحوال كان حضوراً مهّد للصحوة ولبروز
التيار الإسلامي، وهذا يعني احتواء كلا
الطرفين على عيوب ومثالب مما يقتضي أن تقام
الأحكام خارج إطار الحرب الإعلامية وعلى أساس
الدراسة المستفيضة لما هو دائر والتخلص من
السلبيات سعياً وراء اكتشاف الصيغة الأكثر
قدرة على تحقيق النهضة.
فالصحوة مجرد تيار يتميز عن بقية
تيارات النهضة بجملة مميزات إلا أنها ليست
سوى امتداد لها أكثر قرباً من الذات الحضارية
وأكثر تماهياً معها رغم كون بعض اتجاهات
الصحوة تحمل في أعماقها الكثير من النقد
للتراث والحضارة الإسلامية، وبناء على هذا
فإن في طياتها الكثير من الاتجاهات التي
تتوزع بين من يتعصبون للتراث وبغض النظر عن
مدى الالتحام بالتراث ولكن مع الصورة التي
عاشتها التجربة في عصر الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) باعتبارها الأكثر نقاءً وقدرة على
الولادة الجديدة.
إذن هناك تيارات تقليدية تريد
الإبقاء على التراث غثه وسمينه واتجاهات تضع
الصورة المثالية وتحاول الوصول إليها وهناك
من يحاول تطعيم التراث بقدر معين مما أثبتت
التجارب صحته..
فهي إذن اتجاه نهضوي يحتوي في
داخله طيفاً من الاتجاهات المتباينة التي
تكون مرشحة لإنتاج نهضة، بما انه ينطوي على
نقطة قوته الكبيرة وهي الاستناد إلى التراث
وهو الثقافة السائدة التي تجذرت خلال عشرات
القرون وصارت أساساً لوجود حضاري ألفه الناس
وامتزجوا به بحيث صار جزءاً من ذواتهم
الفردية.
فإنها إذن مشروع نهضوي يحاول
الالتحام بالعصر عبر طرح الذات بقوة وفق صيغة
تمثل الرد على تداعيات الواقع وتحل الإشكالية
فهي من جهة رفض لبعض طروحات النهوض وبديل لها
إلا أنها مثل بقية التجارب كانت مركبة من طيف
من الاتجاهات التي تتمايز عن بعضها.
وعلى هذا الصعيد استطاعت الصحوة
عبور أول الاختبارات وهو اختبار إثبات الذات
في الصراع لاحتلال موقع خاص في الساحة
السياسية والثقافية وتمكنت في النهاية من
احتلال موقع الصدارة ولذلك صارت تبعاً لهذا
النجاح مطالبة بعبور مرحلة الشعار إلى مرحلة
التطبيق وتحقيق المنجزات وهو المحك الذي يؤدي
في كل مرة إلى ترنح أحد الاتجاهات.
وهكذا فإن كل اتجاه من اتجاهات
النهضة وبغض النظر عن متبنياته الفكرية
والأيديولوجية إنما جاء مدعيا قدرته على علاج
أسباب التخلف ولكنه وقف عاجزاً بعد فترة عن
أداء مهامه فهو يفسح المجال للنقد وينتهي إلى
العزلة متيحاً لبديل آخر الفرصة لمواصلة
السير على طريق تحقيق الأهداف، وعلى هذا
الأساس فإن الصحوة عبّرت رغم جميع المؤاخذات
عن الاتجاه الأنضج الذي كشفت التجارب السابقة
عن كونه بديلاً ناضجاً ذلك أنه جاء تحقيقاً
للشروط المطلوبة وتجاوزاً للمؤاخذات.