عبد الله الفريجي

معوقات الصحوة

إنبثاق الصحوة و إتجاهاتها

برمجيات النهضة

يعد التقابل بين التراث والمعاصرة من أهم الإشكاليات التي ناء تحت ثقلها العالم الإسلامي منذ عصر (الأنوار) (اليقظة) وما تلاه مما عرف بـ(عصر النهضة) وحتى اللحظة الراهنة حيث لا يزال العالم الإسلامي يسعى إلى لحظة الالتحام بالعصر وعبور التراجع. فالتراث الذي هو منظومة ثقافية متكاملة تتجسّد من خلالها ذات المجتمع الإسلامي الحضارية يتعارض ويتقاطع مع المنظومة الثقافية التي تمثلها المعاصرة بما أنها حضارة مغايرة يراد استنباتها في مجتمعاتنا بعدما شعرت النخب إثر الغزو الغربي بهذه الهوة العميقة التي تفصلنا عن هذه الحضارة الغازية، وهكذا صارت (المعاصرة) أساساً لمحاولات الانقلاب على الواقع والتخلص من جوانب الضعف والالتحام بالعصر إما بعيداً عن التراث ولو جزئياً كما في بعض الاتجاهات التوفيقية، أو كلياً كما في اتجاهات (تغريبية)

برمجيــــــــات النهضــــة

ويمكن التمييز بين فترة (الأنوار) وعصر (النهضة) من خلال سيادة عنصر أساسي يتمثل بسعي النخب لجعل ما تؤمن به من أفكار ورؤى واقعاً حياً متحركاً بدلاً عن ما كان سائداً في عصر (الأنوار) من الاكتفاء بالنقد والتبشير، علماً أن هناك تكراراً للمصطلحات التي استخدمت في وصف (النهضة) الغربية. حيث اعتبرت مرحلة (الأنوار) هي المرحلة التي ساد فيها النقد للواقع ثم أعقبتها مرحلة النهضة ممثلة بالثورات والكشوفات العلمية وظهور الدول القومية وهذه المصطلحات ليست صادقة بالضرورة في وصف الواقع الإسلامي ولكننا نستخدمها جرياً مع ما هو متداول.

مع بداية عصر النهضة الذي يؤرخ له بدخول نابليون إلى مصر وشروع عمليات زرع معالم الحضارة الغربية تبدأ مسيرة جديدة تسعى فيها المجتمعات الإسلامية بالانفصال عن مرجعياتها الثقافية وهذا يعني بدء المرحلة التطبيقية التي حملت معها وعياً جديداً وهو نقد (النهضة) بالإضافة إلى نقد الواقع وبداية نشوء تيارات نهضوية متعددة تتصارع لإنضاج الطرح وإيصال النهضة إلى حالة من التحقق والإنجاز حتى لو اكتست بطابع صراعي عنيف.

وهنا لابد من تسجيل ملاحظة وهي أن المجتمعات تسير من حالة الوحدة التي كانت قائمة في ظل سيادة ثقافة التراث إلى حالة من التنوع والتعدد في الثقافة ثم إن هذه الصراعات التي استمرت ما يزيد على القرن من الزمان صارت تتقدم تدريجياً نحو التراث الذي حاولت مغادرته حتى يأتي أكثر الاتجاهات قرباً من التراث ألا وهو اتجاه الصحوة الإسلامية.

انبثاق الصحوة واتجاهاتها..

وللمتتبع أن يستنتج سير المجتمعات الإسلامية في دورة كاملة انطلقت من التراث ثم العودة إليه بصورة قوية في النصف الأخير من القرن العشرين وهذه العودة ليست اعتباطية إنما جاءت وليدة التجارب التي مارستها تيارات النهوض بحيث صار كل تيار وهو يخلي مكانه للتيار الذي يليه في قيادة مسيرة النهضة يؤشر على ضرورة حضور معين للتراث حتى جاء الاتجاه الأكثر دعوة للالتحام بالتراث وهو اتجاه الصحوة الإسلامية.

وهنا أيضاً يمكن استنتاج كون حركة النهضة حركة واحدة من حيث الجوهر حتى لو جاءت من خلال تنوع أيديولوجي وتناقض فكري وصراعات سياسية، ذلك أنها ليست إلا نزوعاً نخبوياً وجماهيرياً وتطلّعاً لمغادرة التخلف والضعف وبناء المجتمع الناهض القوي والمعاصر.

وقد أكد الأستاذ وجيه كوثراني هذا المعنى في دراسة له نشرتها مجلة المستقبل العربي بعنوان (أزمنة النهضة الثلاث) ناظراً فيها إلى الصحوة على أنها الطور الأخير في محاولات النهوض، وهي قراءة صحيحة للواقع تعني الإقرار بحركة الواقع نحو الحالة الأكمل على ضوء الدروس والتجارب..

ووفق هذه القراءة فالصحوة ليست سوى امتداد لفكر النهضة حتى لو بدت في بعض جوانبها نقضاً لبعض اتجاهاتها الأيدلوجية، وإن النقد السلبي للصحوة ووصفها بالظلامية أو أية أوصاف أخرى فإنه يعبر عن الصراع الداخلي بين التيارات وما يتسم به من اللاموضوعية والمبالغة.

ويأتي في هذا الإطار الطرح المقصود لإشكالية التقابل بين التراث والمعاصرة كجزء من الحرب الإعلامية وليس بقصد الوصول إلى حلول للمعضلات وإنما يقصد به طعن الصحوة الإسلامية باعتبار أن المعاصرة تمثل الواقع القائم القوي والصحيح وباعتبار أن التراث يمثل الذات المدافعة ضد محاولات الإلغاء التي يمليها الواقع القوي الذي يفزر نفسه من خلال معطيات موضوعية تستند إلى العلم والاستناد إلى العلم نفسه يفضي بالضرورة إلى التكيف والتلاؤم مع الواقع.

ومن هنا فإن الصحوة هي اتجاه غير واقعي ينأى عن الخضوع للواقع ويعالج المشاكل من خلال الشعار الداعي للالتحام بالتراث أي أن الصحوة حالة من الخيال والحلم والطوباوية!.

لكن هذا النوع من النقد لا يستطيع الاستمرار لأنه هو بدوره يعود ليترك فسحة للتراث إذ لا سبيل لإنكار وجود جوانب مضيئة فيه تصلح للبقاء والمساهمة في تشكيل المستقبل الناهض وهو أمر تجمع عليه أغلب اتجاهات النهضة. ومن جهة أخرى فإنه يسود نقد للمعاصرة إذ أنها ومهما اتسمت بالقوة فإنها لا يمكن أن تخلو من نقاط خلل ليكون الحاصل هو ضرورة وجود تيار أكثر دقة في التعامل مع التراث ومع المعاصرة في نفس الوقت كما أن هذا النقد يتناسى أن ولادة الصحوة لم تأت من فراغ وإنما جاءت لوجود مبررات وأسباب موضوعية في الواقع، فجاءت تعبيراً عن مدى معين من الخلل الذي بدا واضحاً عند التيارات الأسبق حتى لو كانت تنطوي بدورها على مستويات من الخلل كسواها.

فمن المعلوم أن التيار الليبرالي والتيار الديني الإصلاحي كان كل منهما يسعى إلى تحقيق النهضة ولكن من موقع مضاد للآخر حيث كان الأول يريد فسح المجال واسعاً في الذات لاستيعاب الحضارة الغربية لكنه لم يكن يستطيع التفكير بقيام نهضة بدون حضور واضح للذات. أما بالنسبة للتيار الديني الإصلاحي فإنه كان يريد فسح أفق معين لاستيعاب الحضارة الغربية لكن الذات هي الحاضر الأول.

وهكذا يشترك التياران بأنهما يريان ضرورة الاستعارة من الحضارة الغربية والاختلاف هو في حجم وطبيعة هذه الاستعارة، كما أنهما يشتركان في ضرورة حضور الذات لكنهما أيضا يختلفان في المساحة الممنوحة لهذا الحضور.

ولا نريد هنا تكرار النقد الموجه لكل من هذين التيارين لأن حركة الواقع أسفرت عن تنحيهما كلاهما ووصول تيارات أكثر ابتعاداً عن التراث حتى أن بعضها كان يدعو إلى تنحية التراث الثقافي نهائياً وإلى الأبد لأنه يغذي حالة التراجع التي منيت بها الأمة!.

لكن سرعان ما بدت علائم الإعياء عليها وعاد التراث للحضور بقوة من خلال التيارات القومية وإن كان حضوره أقل بروزاً منه في التيارات الإسلامية لكنه في كل الأحوال كان حضوراً مهّد للصحوة ولبروز التيار الإسلامي، وهذا يعني احتواء كلا الطرفين على عيوب ومثالب مما يقتضي أن تقام الأحكام خارج إطار الحرب الإعلامية وعلى أساس الدراسة المستفيضة لما هو دائر والتخلص من السلبيات سعياً وراء اكتشاف الصيغة الأكثر قدرة على تحقيق النهضة.

فالصحوة مجرد تيار يتميز عن بقية تيارات النهضة بجملة مميزات إلا أنها ليست سوى امتداد لها أكثر قرباً من الذات الحضارية وأكثر تماهياً معها رغم كون بعض اتجاهات الصحوة تحمل في أعماقها الكثير من النقد للتراث والحضارة الإسلامية، وبناء على هذا فإن في طياتها الكثير من الاتجاهات التي تتوزع بين من يتعصبون للتراث وبغض النظر عن مدى الالتحام بالتراث ولكن مع الصورة التي عاشتها التجربة في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبارها الأكثر نقاءً وقدرة على الولادة الجديدة.

إذن هناك تيارات تقليدية تريد الإبقاء على التراث غثه وسمينه واتجاهات تضع الصورة المثالية وتحاول الوصول إليها وهناك من يحاول تطعيم التراث بقدر معين مما أثبتت التجارب صحته..

فهي إذن اتجاه نهضوي يحتوي في داخله طيفاً من الاتجاهات المتباينة التي تكون مرشحة لإنتاج نهضة، بما انه ينطوي على نقطة قوته الكبيرة وهي الاستناد إلى التراث وهو الثقافة السائدة التي تجذرت خلال عشرات القرون وصارت أساساً لوجود حضاري ألفه الناس وامتزجوا به بحيث صار جزءاً من ذواتهم الفردية.

فإنها إذن مشروع نهضوي يحاول الالتحام بالعصر عبر طرح الذات بقوة وفق صيغة تمثل الرد على تداعيات الواقع وتحل الإشكالية فهي من جهة رفض لبعض طروحات النهوض وبديل لها إلا أنها مثل بقية التجارب كانت مركبة من طيف من الاتجاهات التي تتمايز عن بعضها.

وعلى هذا الصعيد استطاعت الصحوة عبور أول الاختبارات وهو اختبار إثبات الذات في الصراع لاحتلال موقع خاص في الساحة السياسية والثقافية وتمكنت في النهاية من احتلال موقع الصدارة ولذلك صارت تبعاً لهذا النجاح مطالبة بعبور مرحلة الشعار إلى مرحلة التطبيق وتحقيق المنجزات وهو المحك الذي يؤدي في كل مرة إلى ترنح أحد الاتجاهات.

وهكذا فإن كل اتجاه من اتجاهات النهضة وبغض النظر عن متبنياته الفكرية والأيديولوجية إنما جاء مدعيا قدرته على علاج أسباب التخلف ولكنه وقف عاجزاً بعد فترة عن أداء مهامه فهو يفسح المجال للنقد وينتهي إلى العزلة متيحاً لبديل آخر الفرصة لمواصلة السير على طريق تحقيق الأهداف، وعلى هذا الأساس فإن الصحوة عبّرت رغم جميع المؤاخذات عن الاتجاه الأنضج الذي كشفت التجارب السابقة عن كونه بديلاً ناضجاً ذلك أنه جاء تحقيقاً للشروط المطلوبة وتجاوزاً للمؤاخذات.

معـــوقــات الصحـــــوة

وهي (الصحوة) كذلك لأنها ولدت مستفيدة من جميع الدروس والتجارب السابقة وأنها خلقت إطاراً نظرياً عالج أهم الإختلالات التي مرت بها الاتجاهات الأخرى التي منيت بمرض الانفصال عن الواقع والفوقية وكونها تمثل النخب ولا تمثل الجماهيرية ولم تنجح إلا في خلق بثور معاصرة على الوجه الحضاري للأمة تختلف عن التيارات الجماهيرية في كل شيء ولم تستطع أن تتحول إلى ثقافة للأمة بحيث تشارك في فعل النهضة كل الطبقات والفئات مما دفع في أغلب الأحيان إلى اللجوء إلى القوة والاعتماد على الأنظمة الشمولية وممارسة أشد أنواع القمع والإرهاب لفرض الحلول وهو لم يسفر إلا عن مزيد من العزلة والضعف وتصاعد دوافع الثورة ضد النخب وضد طروحاتها ولم تتمكن من تجاوز العزلة ولم يتح لها إلا الزوال وتأخر إنجازات النهضة.

فالصحوة استطاعت وبمجرد الانتماء إلى التراث عبور هذه المعضلة وصارت تنتمي إلى أعماق المجتمع ولم تلق معارضة إلا من النخب ومن التيارات الأخرى فهي ومنذ البدء استطاعت علاج هذا الداء العضال، إلا أن هذا الإطراء لا يلغي كون الصحوة بهذه المثابة لا تزال تحتاج إلى مكمّلات تمنحها كامل الفرصة للتحول إلى حل كامل ونهضة حقيقية وهو الهدف المطلوب من جميع المخاضات والصراعات التي استغرقت ما يزيد على القرن من الزمان.

فإذا سلمنا بضرورة الانتماء إلى التراث كأساس فإن هناك الكثير مما يلي تبني هذا الأساس لابدّ من توفره وهو يعني البحث في داخل اتجاهات الصحوة عن الاتجاه القادر على الالتحام بالعصر بحيث يكتب له السيادة على الاتجاهات الأخرى ويتخلص من جميع عوامل الفشل التي كشفت عنها التجارب التي سبقت ظهور الصحوة فضلاً عن ما كشفت عنه الصحوة نفسها.

فنحن إذن أمام صراع داخلي بين نفس تيارات الصحوة من أجل ترشيح التيار الأكثر قدرة على خلق النهضة، إذن لا يمكن القول بأن مجرد الانتماء للتراث يكفي وأن جميع الاتجاهات تتساوى في قدرتها على النهوض. فما دام النهوض لا يزال حلماً فإن حركة النضج لا تزال تتواصل لتضيف المزيد من المعالم والمؤشرات على الخيار الأكثر قدرة على تحقيق أهداف الأمة أو بعبارة أخرى القادر على حل إشكالية التراث والمعاصَرة.

وإن هدفاً من هذا النوع سوف لن يكون ممكناً ما دامت النهضة مستمرة بالاعتماد على الشعار أكثر من الدراسة العملية للواقع وهي من أهم المؤاخذات على محاولات النهوض منذ الأفغاني وحتى اللحظة الحاضرة ذلك أنها جميعاً تحمل الصور المراد تحقيقها دون أن تستطيع إنجاز مشروع يحدد كيفية إنجاز هذه الصورة وقد كان التبرير قائما على إنها كانت محاولات ولدت في أجواء الصراع مع الاستعمار ولذلك فإنها لم تتمكن وليس لديها الفرصة الكافية لممارسة التفكير الناضج وتحديد الأنساق الفكرية البديلة لما يراد تنحيته.

وهكذا فإننا سنقف أمام نفس العقبة التي وقفت أمامها تجارب النهوض السابقة وهي إفساح المجال للفكر لقيادة التجربة وهو ما يعادل دراسة الواقع بطرفيه الذات والآخر وبالتالي التوصل إلى المسارب التي يمكن المرور منها عملياً، وليس كما ساد في المراحل السابقة من الركض وراء الشعارات والطروحات النظرية واستنساخ التجارب والتي باءت جميعها بالفشل إن لم تكن قد فاقمت الواقع المتردي.

وكل ذلك يعادل انقلاباً في الواقع الذي ساد منذ فجر النهضة وحتى اللحظة الراهنة وهو تبعية الفكر للسياسة وتحول دوره إلى دور تبريري لا يكشف عن الأخطاء والاختلالات إلا بالمقدار الذي يسمح به السياسي وإن إعطاء الفكر مثل هذا الدور يساوق إلغاءه إذ إن الفكر إذا لم يضطلع بالريادة فإنه سوف لا يساوي شيئاً في معادلة التحول.

إن هذا الانقلاب لا يعني بأي حال تبادل الأدوار بين السياسي والمفكر بل يعني الاتساق والتكامل فالفكر له القدرة على اكتشاف المسارب والأنساق والطروحات، والسياسي يمتلك القدرة على تحقيق كل ذلك بأفضل طريقة.

إن القدرة التي يمتلكها السياسي على الحركة والتنفيذ لا تنبع من إلهامات السياسة فقط بل إنها مؤطرة بما يمكن للمثقف والمفكر من إضاءات ووصايا يقف وراءها العلم والتجربة.

وقد شخص بعض المفكرين أن التراجع في التاريخ الإسلامي نشأ أصلاً عن الفاصلة أو الفجوة الحاصلة بين المثقف وعالم الدين والسياسي بحيث أن حركة السياسي صارت تتجه بعيداً عن ما يوصي به العالم وكان التراجع في البداية غير محسوس إلا أنه صار محسوساً فيما بعد وعلى وجه الدقة عندما بدأ الغزو الغربي للبلاد الإسلامية.

إذن لكي تكون الصحوة مشروعاً نهضوياً قوياً وناجحاً فإنها لابد أن تعالج هذا الانفصال فالعالم والمثقف لابد أن يكون دورهما متسقاً مع دور السياسي ثم بعد ذلك تحتاج الصحوة إلى إنجاز الإطار العام الذي يحتوي كافة التنوعات سواء التأريخية منها أو المعاصرة فإن الصحوة سوف لن تصبح تياراً نهضوياً ما لم تصبح تياراً لكافة الفئات الأيديولوجية والأثنية والمذهبية دون أن يعني ذلك الإلغاء بل خلق القدرة على اللقاء والتفاعل في السعي البنّاء لإنجاز الهدف المشترك.