قراءات في فكر الإمام الشيرازي

أحمـــد البـــدوي

تحتم علينا علوم المنهج - في تحديد معالجات أي موضوع معرفياً - تشخيص العلوم التي يمكن لها أن توجه مسار المفهوم - الحرية هنا - في إطار يبلور صورته في كل المديات، وبما أن المنهج المُسقط يتبع الموضوع وحيثياته، فبلا شك أن مفهوم الحرية يقع تحت مناخات العلوم الإنسانية والاجتماعية، لذا تدخل فلسفة التاريخ، وعلم الأديان المقارن، والتاريخ السياسي والاجتماعي، وعلوم الانثربولوجيا - علم الإنسان وسلوكه تاريخياً - الثقافية والسياسية، إضافة إلى علم اجتماع المعرفة...

منذ أن تشكل العقل الإنساني بنظم معرفية، ابتدأت في إطار الفلسفة بالمعنى الأعم (معرفة حقائق الأشياء)، أو ضمن المباحث الرئيسية الأولى:

1) مبحث الوجود (الانطولوجيا – Qntulogy).

2) مبحث المعرفة (الايبستمولوجيا – Epistemolugy).

3) مبحث القيم (الاكسيولوجيا – Axiolugy).

منذ ذاك وإلى يوم الناس هذا، والحرية أهم ركن في أوراقه، سواء عدنا إلى إطار الحضارات الأولى في مدونات التاريخ، كمسلّة حمورابي مثلاً في القانون الذي يمثل إطاراً للحريات الفردية والجماعية وحدودها، أو مع النصوص الأولى للفلسفة الإغريقية مع جمهورية أفلاطون (طرحنا لهذه النصوص التاريخية خارج عن محاكمتها مع طبيعة الحرية وحقها الطبيعي وانفلاتات هذه النصوص)، ويكفي في أهمية مسألة الحرية أن مبحث القيم، المبحث الرئيس للفلسفة، كان يتناول المبادئ الثلاثة: (الحق، الخير، الجمال) وينحصر بها، ومعروف أن شبكة هذه المبادئ هي التي توجه وتشرع حدود الحرية، فيما ترتبط به روح هذه المبادئ مع كيان الحرية، سيما مع أفق نظرية الحسن والقبح الذاتيين، في تقرير أن الحرية حق وخير وجمال.. وحسن الحق والخير والجمال وقبح أضدادها.

حينما نتصفّح التاريخ، لا نجد صفحة من زمانيته تخلو من أوجاع سلب هذا الحق، بل إن أكثر مرافقه هي تداعيات وإرهاصات الحرية، كما أنه إذا كان هناك مفهوم أخذ الزاوية الكبرى في التاريخ فهو بلا ريب. على أساس أن التاريخ من جهة يحكي قبل كل شيء العلاقة الرئيسية في التقسيم الثلاثي لمفاصل الرؤية الكونية أو حركة الإنسان: (إنسان – إنسان / إنسان – الله / إنسان – طبيعة). وبما أن الحرية منحصرة ابتداءً في حدود العلاقة (إنسان – إنسان). كان التاريخ والحرية متجاورين ويجريان تحت عاصفة واحدة، ويؤكد ذلك مناط قاعدة التدافع في مفهومها القرآني وسنتها الاجتماعية، بما أصّل في مقامه، فيما سمي (اصطلاحاً) بآية التدافع: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ) (البقرة: 251). أو:( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) (الحج: 40).

إضافة إلى أننا نجد أن أشهر بعدين في منحى التاريخ هما (الاستبداد والاستعباد) التي تقف الحرية والتحرر في وجههما، كما أن الأنبياء جاءوا من أجل رفع ذلك، كما يشي به النص التاريخي: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد) الأمر الذي جعل مسألة الحرية تتصدر الشعارات الثورية في جاذبيتها الجماهيرية، ومثالها الصارخ الشعار المزيف للثورة الفرنسية الكبرى عام (1778م)، حتى قال أحد مثقفيها – الذين صُدموا بواقعها – قولته المشهورة: (لأن أكون عبداً أطالب بحريتي خيراً لي من أن أكون حراً لا أساوى بالعبيد).

كما إننا نجد أهم النصوص التاريخية للعصر الحديث التي تنسب لها هذه التغيرات الثورية هي نصوص العقد الاجتماعي مع هوبز وجان جاك روسو، وإن قننت بآفاق أخذت بالإنسان إلى مهالك الليبرالية في عالم ما يسمى بـ(التفاهة، والآلية، والموت في الروح).

إضافة إلى ما تمليه عضوية هذا المفهوم من أهمية في معادلة السيل الحضاري بما نراه – ضمن مبحث له أسسه – وهي (وعي + حرية = إبداع)، بل إن العلاقة بين (الوعي والحرية) علاقة جدلية، فحرية بلا ثقافة (بكل أبعادها) لا يكون معها وجود حضاري، كون الديمقراطية لمن لا يجيدها (وعياً) اعتداءً عليها أو كما في مقولة (الحرية لمن لا يجيدها اعتداءٌ عليها)، وكذلك ثقافة (وعياً) دون حرية.. اختناق وذبول.

وبهذا الحضور التاريخي المرهق للشعوب والإنسان مع مسألة الحرية، يمكن أن ندخل إلى الإلحاح المعرفي، والاقتران الطويل، والمجاورة الجهادية مع مسألة الحرية للإمام الشيرازي، وتأكيده عليها، فلم تخلو أكثر مؤلفاته من ذلك، بل نجد أن أغلب تأسيساته لمناطق مفاهيمية أخرى وخوضه فيها، ينطلق من أصالة هذا المفهوم لديه، فالذي يبدو أن الإمام الشيرازي يسهب في حديثه عن الحرية لأنها قيمة أساسية في الأيديولوجيا التي يؤمن بها، أي (الإسلام)، فضلاً عن حيويته الشخصية ذات الطابع العملي الجاد، كما يظهر من حجم تأليفاته، ومن نشاطه السياسي المستمر. لذا نجده يتناول الحرية الاجتماعية باعتبارها عنصراً مقوماً وبارزاً في نظريته السياسية.

ولا ريب أن قاعدته الفكرية الاجتماعية الإسلامية لها دور فعّال في اتجاهه هذا، كما أن لتجاربه دوراً آخر في توجهه للموضوع بهذه الكثافة.

ولعلّ هذا هو السبب في حديثه المملوء مرارة عن الديكتاتورية، فالذي يقرأ للإمام الشيرازي وهو يستعرض كلامه عن الظلم والطغيان والاستبداد يلمس بوضوح شفافية روحه، وعواطفه، ويدرك بفطرة صافية مدى ما يتمتع به هذا الإنسان من روحية متحررة(1).

وعلى غير عادة بعض المفكرين أو علماء الدين، لم يقفز الشيرازي على الأسس الرئيسية أو يتجاوزها.. أو التيه في جذورها المعرفية الأصل، وهذا ما دأب عليه وما هو معروف في مؤلفاته التي تمثل بلا شك إطاراً مجدياً راكزاً لمنظومة فقهية – أو قانونية بالمعنى المعاصر – بأسسها النقلية والعقلية في سمت التحليل والتفكيك للموضوع والحالة المعالجة.

مع دخول الإمام الشيرازي بمسألة الحرية لم يفته المنهج المتداول في الدخول بمسألة (الأصالات) أصالة الفرد أو المجتمع، أصالة العقيدة أو أصالة البيئة، أصالة الغريزة، أصالة التاريخ، أصالة الإنتاج أو الاقتصاد، أصالة الحجر وأصالة الحرية وما إلى ذلك، فنجده (دام ظله) يبتدئ بحثه: (الأصل في الإنسان الحرية، في قبال الإنسان الآخر) (2)، والإشارة واضحة في المقطع الثاني (في قبال الإنسان الآخر) إلى البعد العلائقي في الاجتماع البشري (إنسان – إنسان) – بما نقحناه في مقدمة الدراسة – وموقعه في الصورة الحضارية، وتأكيداً لدلالته السابقة ما نجده في سياقه اللامق: (إذ لا وجه لتسلّط إنسان على إنسان آخر وهو مثله) (3). وموضع كلمة (مثله) في نص الإمام تشير إلى أسٍّ مهم في منزع الحرية وهي المساواة.

إزاء ذلك يعالج الإمام الإشكالية في بعدها الإلهي حتى يحيط بتأصيل العلاقة الثنائية (إنسان – الله) ليتمم الرؤية الكونية للإنسان، ووجه حركته، ومن دون فاصل مع نصه السابق، وهذه المباشرة في طرق البعد الثاني تدل على أهمية البعد الثاني الإلهي في تنسيق صورة الأول الإنساني المستقل يقول: (كما أن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه) (4)، وقد يثار في المقام تناقضاً تحمله الصورتان (حرية وعبودية)، إلا أن ذلك إشكال متوهم بدوا، وليس له قناة، وذلك لاختلاف الجهة (كما في الاصطلاح المنطقي) فالحرية والعبودية ليس كلاهما لجهة الإنسان الآخر.. وإنما الأولى.. لجهة الإنسان والثانية لجهة الله سبحانه.

إذن هناك ترابطية تكميلية لاتناقضية في حرية الإنسان من جهة وعبوديته من جهة، وذلك إذا نظرنا إلى غاية الإنسان في مفهوم الخلافة في الأرض فكلا الجهتين يعملان في خط واحد باتجاه الكمال وأداء الأمانة وتحقيق إرادة الله تعالى سواء العبودية أو الحرية، بل يمكن اعتبار العبودية لله في وجهها الثاني هي الحرية الإنسانية.

الاستناد الفقهي للمسألة:

يجذِّر الإمام الشيرازي حق الحرية في صورتها الفقهية، بعودته إلى نصوص عديدة تدلّ على سعته الاستقرائية المعهودة، وعلى تنقيبه في التراث ليلتقط أكثر عدد من الدلالات التي تحاول أن تعطي حجية المفهوم وأبعاده، وأعطى لبعضها أهمية استدلالية، بينما لم يلحظ منها الأستاذ محمد غالب أيوب في كتابه القيم (ملامح النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي) إلا نصّين(5)، ارتأى أنهما الأهم في الدلالة عند الإمام، وعلى ما اعتقد خرج بهذا بما وجده أن الإمام استشهد بهما مستقلين في مجال آخر(6)، لكن فاته النص الأهم دلالياً (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) بما تسمى في علم القواعد الفقهية بـ(قاعدة السلطنة)، لأن اتخاذها شكلاً (تقعيدياً) ومنبثقة عن علم مستقل بذاته لا يخرج عنه إلا من امتلك حجية اجتهادية، يؤيد أولويتها الاستدلالية عند السيد الإمام(7)، سيما أنه يتناول بحوثه في عمق اجتهادي، لا سطحي كتابي فما ارتآه الأستاذ محمد غالب أيوب من نصّين هما:

1) لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً.

2) الناس كلهم أحرار.

إضافة إلى النصوص الأخرى التي ارتأى بها السيد الإمام الشيرازي منزلتها العلمية تقع فوق التواتر(8).. فمنها:

1) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ) (الغاشية: 21 – 22).

2) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق: 45).

3) (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).

5) (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6).

إضافة إلى نصوص أخرى، تتعاضد بالدلالة مع ما سلف.

المتابع لمؤلفات السيد الإمام يجد أن عودته الاستدلالية في مقام الحرية تنصب أكثر الأحيان على قاعدة السلطنة، سيما مع اعتماده دلالة لفظ (.. وأنفسهم) في المتن، كما أن النصين اللذين ذكرهما الأستاذ محمد غالب أيوب، صريحان في أصالة الحرية والحق الذاتي لتكوين الإنسان فهي كما يرى الإمام الشيرازي: (ليست من الحقوق الموضوعة، حتى يعطيها إنسان لإنسان آخر، أو يسلبها من إنسان آخر) (9)، أي إنها ولدت بمولده له ومنه، وليس إضافة خارجية، وإنما طبيعية، ذاتية، بما أرادها الله سبحانه حكمةً وعدلاً منه، كي يصار إلى الاتزان مع الأمانة والاختبار اللذين لا يتمّان إلا بالحرية.

ومع أن الفلاسفة طرحوا المسألة (أصالة الحرية) بأشكال مختلفة في (الحرية الملتزمة) و(حرية الكمال) و(الحرية النفسية) و(حرية الاستقلال الذاتي) وكلٌّ له مباحثه، إلا أن الإمام الشيرازي في نظريته عن الحرية يمسّ هذه الصور والمعاني بوضع المسألة تحت إطار فعاليات النفس الإنسانية (بما يشرحه من مباحث فلسفية في المسألة بتفكيك العلاقة العضوية في الفعل والفاعل والإرادة والكمال والغاية والحركة).

فلكون الإنسان مخلوقاً (غائياً) يتوق إلى الكمال، فالغاية مرتبطة بسوابق إرادية، كما إنها مرتبطة بسوابق من التصور الذهني، ليتوائم الإدراك مع الإرادة نحو الغاية.. ولا يوصل بينهما إلا جسر الحرية.

يقول الإمام الشيرازي في شرح المنظومة:

(كل فاعل – حتى الفاعل بالطبع – يستتبع غاية ومقصداً، فالإنسان الذي يريد بسيره غاية هي ملاقاة صديق، أو ما أشبه.. ثم إن العلة الغائية لها (ماهية) و(وجود)، فماهيتها هي علة فعل الفاعل.. كما أن (وجود) الغاية معلول لفعل الفاعل (...) فالغاية علة لحركة الفاعل نحو الفعل) (10).

إضافة إلى ما يعرضه الإمام من محاكمات عقلية وانتزاعات من الواقع الاجتماعي على أساس المصلحة والمفسدة، والحسن والقبيح بما لهما من تلازم في أفق قاعدة الملازمة وهذا ما توجهت به أغلب فصوله في الحرية أو معالجاته المتفرقة، فكلما استدعى الأمر التأسيسي ارتباطاً بمفهوم الحرية، سيما إذا وجه كلامه إلى تهم الغرب ليتسق معهم فيما يأخذون به كنظرية معرفة بعيداً عن النقل والنصوص(11)، اتكاءً على ما يتفق به العقلاء وما يعرضه الواقع ليقف في أنه قبيح ليس في عرفه فالعرف قد يكون نسبياً، وإنما في ماهيته الفاسدة المفسدة.

صور الحرية في الفكر الإسلامي لدى الإمام الشيرازي:

مع تكاثف وازدحام شبكة العلاقات الاجتماعية في قنوات العصر يوماً فيوماً، تتكاثف صور الحرية في كل قناة، حسب اقتضاءاتها، كما نجدها في المدرسة الإسلامية، تحت إطار ما يسمى أحياناً بالحرية المشروطة أو الملتزمة أو المسؤولة. بما قننت في حرية كل فرد حسب مهنته ودوره وارتباطه ومهنته بباقي شبكة العلاقات، وهذا ما يقف قبال المدرسة الغربية في مفهوم الحرية التي هي أقرب إلى مفهوم (الانفلات) أو (الفوضوية) و(المشاعية) و(العبثية) منه إلى الحرية بالمعنى الواعي، لذا نرى الإمام الشيرازي ينبه إلى منهج التوازن في الحرية الإسلامية متكئاً على نص قيمي؛ الفضيلة خصلة بين جناحين لا إفراط ولا تفريط فيقول: (الحرية، وهي كون الإنسان حراً حقيقة، فلا فوضى، ولا كبت صريح أو مغلف، وهي لا توجد إلا في الأنظمة الإسلامية) (12)، ومن ثم فهناك صورة للحرية ومصاديق تأخذ حدودها الخاصة حسب موقعها من شبكة العلاقات في المجتمع وأثرها ويسرد لنا ما يقارب مئة نموذج وصورة للحرية، كل يعطيه الإسلام صورته التشريعية التي تحافظ على حرية الآخرين وحرية النفس وكمال المهنة، ومنها:

(حرية البيع، العبادة، الشراء، الرهن، الضمان، الاختراع، الكفالة، الصلح، التأمين، الشركة، المضاربة، المزارعة، حيازة الأرض، حيازة المباحات، الوديعة، العارية، الإجارة، الوكالة، الوقف، الصدقة، الهبة، العطية، السكنى، النكاح للرجل والمرأة، الطلاق، الخلع، الرضاع، السفر، الإقامة، فتح المحل، الإقرار، الجعالة، إصدار مجلة، امتلاك محطة إذاعة، في العمل، في إبداء الرأي، التجمع، الأحزاب، الإمارة، الولاية،.... الخ) (13).

وهذا ما قدمه ضمن كتابه الحريات لإبداء الشمولية في الحرية الإسلامية وعدم توقفها على الخطوط العريضة كما أن هذه الحريات يمكن أن تجد نفسها في نطاق الأوعية الرئيسية للمجتمع في حركته وهي:

1- الحرية الفكرية.

2- الحرية الاجتماعية.

3- الحرية السياسية.

4- الحرية الاقتصادية.

أو ضمن الأطر الثلاثة: (إنسان – إنسان / إنسان – الله / إنسان – طبيعة)، فحرية القلم، والأديان، والفكر وغيرها تدخل مع البعد الأول، وحرية الزواج والسفر، والإقامة، مثلاً للثاني، كذلك حرية إنشاء الأحزاب، والنقابات للثالث، كما حرية البيع، والإجارة، والوكالة، والصدقة.. الخ في البعد الاقتصادي.

الاقتضاءات النظرية للتأهيل:

تستدعي المقولات العقلانية الاجتماعية والسياسية في جرع الحرية الممنوحة طرح مسألة التأهيل، فالمجتمع الذي لم يؤهل ويرقّى في وعيه، ثم تمنح له هذه السعة والفضاء الشاسع من الحركة التي تهبها الحرية، سيلحق ضرراً مؤكداً بنفسه واجتماعه، لذلك كانت مسألة المنح المجاني وفي أي الأحوال موضع جدل عند كثير من علماء الاجتماع والسياسة. إلا أن الفكر الإسلامي لم يترك الحبل على غاربه في هكذا شأن، بل إن مجموعة الأحكام الإسلامية تمثل ضابط وموجّه ومؤهّل لجو الحرية.. ضمن بعدين، البعد الدنيوي وتتكفله الأحكام والبعد الأخروي.. بما يمثله من رادع لكل خطوة تجاوزية، تتلاعب في معطيات الحرية كما أن البعد الدنيوي، لم يخل ويغفل عن ناظم يصون المسألة، كما مع قضية الحجر على السفيه والمجنون، والقاصر، ثم إنه حتى عنوان (حتى يرشد) هو دلالة سامقة في قضية التأهيل.. لتلاصق واتحاد الرشد والتأهيل دلالياً في الجوهر، إضافة إلى قوانين الردع من قصاص وحدود، وديات، وتعزير، الأمر الذي جعل الإمام الشيرازي يناقش المتهمين لهذه القوانين وابتعادها عن الحرية يردّ شبهتهم بقوله: (خرج عن هذا الأصل استعباد أسرى الحرب، إذا رأى الإمام صلاحاً (...) ومن يزعم أن الاسترقاق إهانة لكرامة الإنسان! نسأله: هل هو أكثر إهانة أم سجنه؟ لاشك أن السجن أكثر إهانة، لأنه تقييد لحريات كثيرة، بينما الاسترقاق تقييد لحريات قليلة، فإذا جاز السجن، جاز الاسترقاق بطريق أولى، كما أن من يزعم أن القصاص في العضو قسوة، نسأله: هل القتل أكثر قسوة أو القصاص؟ فإذا كان القتل جائزاً، كان قصاص بعض الأعضاء جائزاً بطريق أولى) (14).

لذلك يومئ أن الغرب استعبدوا بمثل ذلك الطريق مئتي مليون إنسان، بل العقلية الغربية الاستعمارية (والتي تبعتها الشرقية الشيوعية) في الاستعمار وهضم حقوق الشعوب، هي نفس تلك العقلية الاستعبادية القديمة، لبست ثوب العصر، والحقيقة هي الحقيقة، وإن كانت الآن ظهرت في صورة أبشع(15).

حـــــدود الحريــــــة:

كما هو معروف (أصولياً) أن الأحكام الإسلامية قائمة على أساس المصالح والمفاسد الواقعية الخارجية، كونها تمثل مقاصد الشريعة، وهي الأفق الأنقي والأحكم في مصاف العقلانية الاجتماعية، إزاء كل الفلسفات التي تقوم على أساس البراغماتية أو الميكافيلية أو الوجودية في حدودها وغاياتها بما أفرزه الواقع المعاصر من انتكاسات في الشطر الغربي ومستنسخيه في الشطر الشرقي.

فالسيد الإمام (دام ظله) يبقى مع أصالة الحرية بما هي مصلحة.. إلا أنها إذا تعدت إلى مفسدة ما سواء على النفس الحاملة للحرية أو على المرتبطين معها، فهنا ترجع إلى الحدود الأصلية التي تعالجها في الفكر الإسلامي القاعدة المشهورة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).. هذه القاعدة الحقوقية والتي يمكن لها تغطية كل القنوات (المئة) التي ذكرها الإمام الشيرازي في صورة الحرية بما عرضها في كتابه (الحريات)، فحرية الإنسان إذا وصلت إلى حدّ الضرر، رفع القدر الزائد.. لذا يقرر الفكر الإسلامي.. بأن قاعدة الحرية (قاعدة السلطنة) محكومة بقاعدة لا ضرار.

لم نأت إلا على الخطوط العريضة والمقتطفات من هنا وهناك بما عالجه الإمام الشيرازي لهذه المسألة الملحّة.. وإلا فهناك منظومة حقوقية للسيد يمكن اقتطاعها من مؤلفاته.. وما أخذت هو ما وجدته يتواءم واقتضاء الطرح..

الهـــوامــــش  :

(1) غالب أيوب، محمد، ملامح النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي، بيروت – دار المنهل، ط1، 1411هـ، ص26.

(2) الحسيني الشيرازي، محمد، السياسة، بيروت – دار العلوم، ط6 1407هـ، ص213.

(3) ن.م، ص213.

(4) المصدر السابق.

(5) غالب أيوب، مصدر سابق، ص20.

(6) السياسة، مصدر سابق، ص214.

(7) ينظر الاستدلال بالقاعدة ضمن موضعه المنعزل عن النصين في كتابه السياسة، ص216.

(8) ينظر الحسيني الشيرازي، محمد، الصياغة الجديدة، مركز الفكر الإسلامي: ط1، 1405هـ، ص310.

(9) السياسة، مصدر سابق، ص214.

(10) شرح المنظومة، ص312، نقلاً عن غالب أيوب، مصدر سابق، ص22 – 23.

(11) انظر المعالجات المتفرقة عقلياً في أبواب الحرية ضمن كتبه، السياسة، الصياغة الجديدة، السبيل إلى إنهاض المسلمين.

(12 ) الشيرازي، السبيل إلى إنهاض المسلمين، بيروت – مؤسسة الفكر الإسلامي، ط8، 1421هـ، ص341.

(13) الصياغة الجديدة، مصدر سابق، ص216-221.

(14 ) السياسة، مصدر سابق، ص214.

(15 ) ن.م، ص215.