حيــدر البصــري         

haider@annabaa.org

تعريف اللاعنف

عرف اللاعنف من قبل المهتمين بتعريفات عدة نذكر بعضاً منها على سبيل المثال ثم نسجل ما يمكن أن يؤخذ على هذه التعريفات.

لقد عرف اللاعنف في الموسوعة السياسية من ضمن التعريفات التي ذكرت لمبدأ اللاعنف فيها بأنه:- (سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات وعن المعرفة الصارمة والعميقة للنفس)(1).

إن هذا التعريف يعتبر ؛ كما هو الحال في غالبية التعريفات التي قدمت للاعنف - فاقداً لشروط التعريف الدقيق التي تقتضي (ذكر ما يستلزم معرفة شيء آخر) (2) عند ذكر التعريف كما لم يقدم لنا صورة واضحة عن المعرف، فلم يرسم هذا التعريف تلك الصورة المبتغاة من وراء تقديم تعريف لأي مبدأ من المبادئ.

كما أن التعريف المتقدم لم يكن من نوع التعريفات المنطقية الدقيقة كتلك التي يكون فيها (التعريف بالجنس والخاصة) (3) وهي ما يصطلح عليها منطقياً بالرسم التام، ولم يكن من نوع التعريفات التي يكون التعريف فيها (بالخاصة وحدها) (4) أو كما يسمى منطقياً بالرسم الناقص.

ثم إن التعريف المتقدم - وهذا من أهم ما يؤخذ عليه - كان قد حصر اللاعنف بالجانب السياسي وأهمل غيره من الجوانب الأخرى، والمجالات التي لا تقل أهمية اللاعنف وفعاليته فيها عن أهميته ودوره في المجال السياسي وأعني بذلك المجال الاجتماعي، وبعبارة أخرى يمكن القول بأن هذا التعريف غير جامع(5).

وهناك تعريف آخر لـ(اللاعنف) وهو: (شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف) (6).

ويؤخذ على هذا التعريف ما أخذ على التعريف الذي سبقه بأنه قد ضيق أيضاً دائرة اللاعنف أكثر من سابقه فقد حصر اللاعنف بالتحرك السياسي فلم يشمل التعريف مرحلة ما قبل التحرك وتعبئة الجماهير وتثقيفها بثقافة اللاعنف.

وهناك تعريف آخر لـ(اللاعنف) يمكن عدّه التعريف الأفضل من بين التعريفات الكثيرة التي قدمت لهذا المبدأ، وإن كان لم يسلم من المؤاخذات في كونه يفتقر إلى الشروط الدقيقة والعلمية للتعريف ولكنه يبقى من أفضل التعريفات لـ(اللاعنف).

فقد عرف اللاعنف بأنه وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي يحاول أن يجعل قوة الضعيف وملجأه الأخير مرتكزاً على إثارة الضمير والأخلاق لدى الخصم، أو على الأقل لدى الجمهور الذي يحيط به(7) ويرمي إلى ترجيح كفة الحق والعدالة.

بين الــــلاعنـــــف والعنــــف

لا بد ونحن في صدد تحديد إطار مبدأ اللاعنف، ورسم صورة واضحة المعالم له من أن نتوسل بكل ما يمكن أن يوصلنا إلى هذا الهدف ومن هذه السبل معرفة اللاعنف من خلال نقيضه خصوصا ونحن نجد نقصاً كبيراً في مكتباتنا لبحوث تتناول موضوع اللاعنف.

لقد عرف العنف بأنه: (الغلظة والفظاظة في الأقوال أو الحركات أيضاً) (8).

كما عرف بأنه: الانتهاك لممتلكات الآخرين والتعدي على أرزاقهم وحرياتهم(9) وهذان التعريفان يمثلان الوجه المعنوي والاخلاقي للعنف، اما الوجه السياسي للعنف فقد عرف بأنه (استخدام للقوة بهدف الاستيلاء على السلطة أو الانعطاف بها نحو أهداف غير مشروعة) (10).

من خلال ما تقدم من تعريفات للعنف نستطيع القول بان الصورة - صورة اللاعنف - قد اتضحت معالمها في كونها صورة من الروعة بحيث لا تمت إلى القوة بصلة، ومن خلال هذه الصورة يمكن تقديم تعريف لمبدأ اللاعنف فنقول:

اللاعنف هو: وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي تستبعد القوة في الوصول إلى اهدافها وتفتقد التعدي على حقوق الآخرين وتقوم على أساس الاعتراف بالآخر.

شــــــروط اللاعنــــــف والخنـــوع والاستـســلام

غالباً ما يؤخذ على اللاعنفيين بأنهم أناس جبناء خائفون استسلاميون، لجأوا إلى اللاعنف ودعوا إليه بدافع من ضعف نفوسهم، وقلة عزمهم، وعجزهم عن المواجهة. ثم إن القائلين بهذا لم يقفوا عند هذا الحد، وإنما سحبوا كلامهم هذا على منهج اللاعنف ككل واصفين إياه بأنه منهج الخنوع والاستسلام في حين تكشف لنا مراجعة كل من مصطلحي الخنوع والاستسلام على صعيدي اللغة والاصطلاح أنهما لا يفيدان معنى اللاعنف الذي سبق وان حددناه في تقديمنا لتعريفه والمقارنة بينه وبين العنف.

فالاستسلام يعني - لغة - الانقياد(11)، ومعلوم أن الانقياد يعني الخضوع من قبل طرف لطرف آخر دون أن يكون لهذا الطرف الخاضع أية مبادرة، أو شرط.

أما الخنوع فيعني (الخضوع والذل، خنع له وإليه يخنع خنوعاً: ضرع إليه وطلب إليه وليس بأهل أن يطلب إليه) (12) وليس هذا المعنى بأفضل حالاً من معنى الاستسلام.

وأما الاستسلام على الصعيد السياسي فيعني ( التسوية التي تقضي بالتنازل المهين أمام العدو كما لو كان انتصار العدو كاملاً بحيث افقد الطرف المنهزم إرادة القتال أو الحق في التمسك بمطالبه الحقوقية) (13).

فأين هذا من اللاعنف الذي سبق وأن عرفناه بأنه وسيلة من وسائل العمل السياسي الجاد يضع أصحابه نصب أعينهم هدفاً يرومون الوصول إليه في عملهم اللاعنفي وقد يصل بهم الأمر إلى التضحية النفيسة في بلوغ هذا الهدف، والهدف المنشود لـ(اللاعنفيين) - كما سبق وان ذكرنا - هو ترجيح كفة الحق والعدالة، وهذا الهدف لا يتناسب قطعاً مع الخنوع والاستسلام الذي رمي به اللاعنفيون.

إن اللاعنف وان كان يتضمن - كمفهوم - معنىً سلبياً إلا انه بعيد في واقعه عن السلبية بل (انه فعل إيجابي يتطلب الشجاعة المعنوية واستبسال الشهداء. إن السلبية التي تتضمنها كلمة لاعنف، ما هي إلا شرك لغوي: فأعمال المناضلين السلميين كلها إيجابية، فالذين يقدمون حياتهم على مذبح العدالة إنما يقدمون دروساً تربوية وقوة أدبية لخلاص البشر من الشر) (14).

ولو كان اللاعنفي استسلامياً فاقداً للخيار في قبال الطرف الآخر كما صوره البعض لما وجدته حين يواجه عدواً فاقداً لأدنى مقومات الضمير، وقد يئس من صحوة ضميره في خلال العمل اللاعنفي، يفضل خيار المقاومة العنيفة بدلاً من الموت ميتة رخيصة.

وشواهد هذا الأمر موجودة على مر التاريخ نستطيع قراءتها في مسيرة الأنبياء والأئمة باعتبارهم مصلحين يرفعون راية اللاعنف متمثلة في قوله تعالى على سبيل المثال:

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (15).

وقوله تعالى: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (16).

وهذا الإمام الحسين (عليه السلام) حين رأى الأمور قد صارت إلى اثنين لا ثالث لهما إما العيش ذليلاً وإما الوقوف والموت بعز، وبعد استفراغ جهده في محاولة منه لإيقاظ ضمير العدو بالطرق السلمية تجده اختار طريق الموت، وقد عبر الإمام (عليه السلام)عن هذه الزاوية التي حصرت فيها الأمور بقوله: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة... ) (17).

ولقد صار الإمام الحسين (عليه السلام) ملهم اللاعنفيين في عصرنا الحاضر حتى أنك تجد رائد اللاعنف الأول في العصر الحديث، ومحول اللاعنف إلى منهج سياسي أعني به المهاتما غاندي يقول كشاهد ودليل على ما سبق أن قلناه من أن اللاعنف بعيد كل البعد عن الخنوع والاستسلام فهو يقول في ذلك (تعلمت من الحسين بن علي كيف أكون مظلوماً فانتصر) (18).

وكدليل أكثر قوة على ما قلناه تجد غاندي نفسه يقول مستلهماً الدرس من الإمام الحسين(عليه السلام): (إذا لم يكن هناك خيار إلا بين العنف والقبر فإنني أنصح بالعنف) (19).

اللاعـنـــــــف صــــوره وميـــادينــــــه

لقد أخطأ بعض الباحثين ممن خاضوا غمار البحث السياسي في حصرهم مبدأ اللاعنف في الميدان السياسي كما ورد في الموسوعة السياسية حيث عرفت اللاعنف بأنه: (سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية،...) (20).

وكما عرفه سيمون بانتر كذلك بأنه: (شكل من التحرك السياسي... ) (21).

إن هذا الحصر لمبدأ اللاعنف في النطاق السياسي لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال، وذلك أن الإنسان الذي كرم بالعقل، والذي تميز به عن غيره من المخلوقات لزم من تكريمه هذا من قبل خالقه أن يكون العقل للاستعمال في كافة المجالات، والعلاقات التي يقيمها هذا الإنسان مع غيره.

ومنطق العقل، ومنهجه يختلف عن منطق العجماوات التي تعتمد العنف والقوة في تعاطيها مع غيرها فمنطق العقل هو إمكانية انتهاج أساليب الحوار والتفاهم في العلاقات التي تربط الإنسان مع شركائه على الأرض.

وبما أن علاقات الإنسان متنوعة، ومختلفة فمنها ما ينحصر في نطاق أسرته، ومنها ما يخرج عن هذا النطاق ليشمل القبيلة، والمجتمع، وبناءاً على هذا الاختلاف تختلف ميادين اللاعنف وحسب التقسيم التالي:

1 - اللاعنف السياسي: وينحصر نطاقه في ميدان علاقة الإنسان بالدولة.

2- اللاعنف الاجتماعي: ويشمل هذا جميع العلاقات التي تربط الإنسان بغيره من أبناء مجتمعه.

3- اللاعنف الديني: ويتناول هذا القسم ميدان الأخلاق، والدعوة إلى الله.

اللاعنــــــــف المطلــــــق

تطرق البعض من الذين راقتهم فكرة اللاعنف في طرح هذه الفكرة في إطارها الصحيح المقبول عالمياً فلم يتنبه للشعرة الفاصلة بين اللاعنف وغيره من المفاهيم التي لا تمت إليه - في واقعها - بصلة تذكر من قبيل مفهومي الخنوع والاستسلام السابقي الذكر اللهم إلا في الاسم وحسب.

فاللاعنف المطلق طرح يشوه الصورة الحقيقية الناصعة التي يكون عليها مفهوم اللاعنف وإن كان هناك وجود لطرح اللاعنف المطلق فإنما هو موجود في فكر هؤلاء الذين يطرحونه مما يحسبونه على اللاعنف في حين أن اللاعنف بعيد عنه.

إن اللاعنف المطلق أمر ممجوج حتى من قبل أكثر الناس لاعنفاً كغاندي على سبيل المثال، فهاهو غاندي يصرح بمشروعية، إن لم نقل وجوب العنف في بعض الموارد حين يقول:

)إذا لم يكن هناك خيار إلا بين العنف والقبر، فإنني أنصح بالعنف) (22).

إذن فاللاعنف المطلق فكرة طرحت ومنشؤها إما عدم الفهم الصحيح لمبدأ اللاعنف من قبل أولئك الذين طرحوا هذه الفكرة ونسبوها إلى اللاعنف، وإما أن يكون العنفيون أو أعداء اللاعنف هم من روج لهذه الفكرة.

فنحن في الواقع (لا يسعنا القول بوجود لاعنف مطلق، فإن الذين اختبروا تجربة العمل اللاعنفي لطالما تجنبوا استعمال هذه العبارات. ولكن وبالمقابل، فإن خصوم اللاعنف هم الذين تحدثوا عن لاعنف مطلق ليتمكنوا من التنديد به على نحو أفضل) (23).

لقد تحدث رائد اللاعنف أعني به غاندي عن هذه النقطة بما تمكن من خلاله التمييز بوضوح بين اللاعنف واللاعنف المطلق الذي لا وجود له إطلاقاً، وإنما هو اسم لمعنى آخر أقحم هذا الاصطلاح للدلالة عليه.

يقول غاندي في تعليقه على مجموعة من أبناء شعبه حين تركوا منازلهم وهربوا من الشرطة التي شنت هجوماً على قريتهم، والتي نهبت أموالهم ونساءهم، حيث إنهم برروا هربهم بامتثالهم لأوامره وتعليماته باللاعنف علق على كل ذلك في قوله:

)أردت أن أراهم يقفون كالترس بين الأعظم قوة وبين الأكثر ضعفاً... والحق أنه دليل بعضٍ من شجاعة أن يدافع الناس عن مقتنياتهم بحد السيف، ويصونوا كرامتهم ودينهم) (24).

ويقول كذلك: (إني أفضل ألف مرة أن أخاطر فألجأ إلى العنف على أن أرى عرقاً بأسره يتعرض للإبادة) (25).

بل تراه يصرح بأوضح من هذا كله باستبعاده لوجود فكرة اللاعنف المطلق قائلاً:

(بما أننا لسنا أرواحاً طاهرة، فإن اللاعنف الكامل نظري تماماً كخط إقليدس(26) المستقيم) (27).

إذن ففكرة اللاعنف المطلق لاوجود لها، وإنما طرحت جهلاً، أو قصداً من قبل خصوم اللاعنف كما سبق ذكره.

شـــــــروط الـــلاعنـــــف

لم يكن اللاعنفيون قد طرحوا فكرتهم هذه مطلقة دون قيود وشروط تميزها عن غيرها وتحدد ضوابطها، وإنما ذكروا لـ(اللاعنف) شروطاً نذكر منها:

1- يفترض اللاعنف فيمن يمارس هذا النهج (وعياً كاملاً بالخطر المحدق وقوة قادرة على مواجهة هذا الخطر بالعنف في حال عدم وجود خيار آخر).

2- الوعي العالي والضبط الشديد للنفس وللغريزة (وهذا الضبط يتحول إلى محاسبة دقيقة للذات على المستوى الشخصي ويصبح مربحاً على المستوى الاستراتيجي) (28).

إن اشتراط الضبط الشديد للنفس في ممارسة العمل اللاعنفي إنما جاء بسبب تحول مبدأ اللاعنف - رغم كونه المنهج الأصيل الذي يفترض أن تسير الحياة البشرية على ضوءه - إلى مبدأ غريب على الفكر البشري والحياة البشرية، إذ إن المنهج السائد في الحياة البشرية قوامه أن(أي إنسان أو أية مجموعة أو منظمة أو طبقة إجتماعية عندما تجابه بالعنف فإنها ترد بالعنف) (29) حتى تعارف البشر على هذا الخط من السلوك بحيث صار غريباً المجابهة باللاعنف.

3- إن اللاعنف لا يمكن اعتماده كوسيلة من وسائل الدفاع عن أية قضية كانت كيفما اتفق ودون تنظيم وهيكلة مدروسة، فاللاعنف يقوم على أسس وقواعد يسير وفقها اللاعنفيون في كفاحهم من أجل أية قضية.

4- لا يكون اللاعنف في خدمة قضية ظالمة ولا يمكن له أن يكون كذلك، وإنما يكون في خدمة القضايا العادلة فحسب،(ذلك أن اللاعنف لا يقوى على الدفاع عن قضية ظالمة دون أن يتنكر لنفسه، ودون أن يؤول إلى دمار نفسه) (30).

فسر كون اللاعنف يدافع عن القضايا العادلة بهذا الأسلوب السلمي وراء تحير الأنظمة - على الأغلب - في التعامل مع ممارسيه بالعنف، أو عدم جدوائية العنف في تلك الحالات، وإلا فلو كان اللاعنف يمارس الدفاع عن القضايا الظالمة لكان في أسلوبه مبرر لضربه من قبل الأنظمة، وعدم الوقوف موقف المتحير إزاءه.

مــــــزايا الـــلاعنــــــف

1- يتميز اللاعنف عن غيره من أساليب الدفاع عن القضايا - سواء السياسية منها أم الاجتماعية - في أنه يلجأ إلى تحكيم العقل، الذي يميز الإنسان عن غيره، في حل القضايا التي يتبناها ويغلّب جانب العقل قدر الإمكان على غيره من الجوانب.

2- يختصر على الناس الخسائر البشرية والمادية التي يكلفها غيره من الأساليب.

3- يبتغي أفضل النتائج وبأقل الإمكانيات والجهود.

4- (إن ميزة اللاعنف في نضاله ضد الظلم تكمن في أنه لا يصيب بالعذاب سوى الذي يستخدمه) (31) دون أن يتعدّى أثر ذلك الضرر إلى غيره، في حين يتعدى أثر الضرر الذي يتسبب به العنف إلى الأبرياء إن لم نقل أن حصتهم من الضرر تفوق تلك الحصة التي يتحملها مستخدمو أسلوب العنف ذاتهم.

فالمناضلون اللاعنفيون في حال ارتكبوا(بعض الأخطاء في الطريق - طريق نضالهم - فإن من شأن هذا ألا يؤذي الآخرين) (32).

الديـــــــن والــلاعنـــــف

يستطيع الباحث القول وبضرس قاطع أن الأديان السماوية - على أقل التقادير - تحمل في ثناياها مبدأ اللاعنف، وذلك أنها تصدر عن وحي السماحة والرحمة الإلهية، حيث إنها لم تكن قد أتت بغير ما يتضمن مصلحة البشرية ونفعها.

ولكن مما تجدر الإشارة إليه هو أن البعض حاول - جهلاً أم قصداً - أن ينسب إلى الأديان الإلهية ما لا يمتّ إليها بصلة من قبيل العنف وما يرتبط به من الأمور، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك من تطرف في طرحه لقضية التسامح، والعفو، فنسب إلى الدين ما يحط من قيمته من قبيل ما نسب إلى الدين المسيحي - النصرانية - من أمور.

فقد ذكر البعض أن من تعاليم المسيحية السكوت على الظلم وعدم الرد، وذلك إقتداءاً بما نسب إلى روح الله المسيح (عليه السلام) في ذلك.

فقد ورد في إنجيل متّى في عظة يسوع الكبرى لتلاميذه التالي:

(... سمعتم أنه قيل: (العين بالعين والسن بالسن) أما أنا فأقول: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر، ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك فاترك رداءك أيضاً ومن سخرك أن تسير معه ميلاً واحداً، فسر معه ميلين) (33).

إن هذا الأمر غريب على المسيحية في حقيقته، وإنما نسب إليها من أولئك الذين حاولوا استغلال الدين المسيحي في تحقيق مصالح شخصية، وإلا فكون النصرانية على هذا المستوى من دعوة الناس إلى الخضوع والاستسلام مرفوض حتى من قبل اللاعنفيين فضلاً عن غيرهم.

فاللاعنف لا يتبنى (العذاب الروحاني الذي راج في الأوساط المسيحية، وهذا العذاب الروحاني على أية حال غريب عن المسيحية الحقة. لأن هذه الروحانية كانت في الواقع روحانية خنوع حيث تمجد الخيبة في هذه الدنيا وكأنها ضمانة لكسب الآخرة) (34).

فلئن عهد - لو سلم جدلاً - عن السيد المسيح (عليه السلام) قوله المتقدم، فلقد عهد عنه قوله كذلك: (من لم يكن له سيف فليبع رداءه ويشتريه) (35).

خلاصة القول أن حركة اللاعنف هي حركة دينية في أساسها.

اللاعنــــــف في الإســـــلام

إن الأمر الأهم في بحثنا هذا هو إثبات مبدأ اللاعنف في الدين الإسلامي وذلك من خلال إثباته في أهم مصدر للشريعة الإسلامية، والذي يعد الوثيقة الإلهية المتفق على صدورها عن وحي الحق أعني به القرآن الكريم.

لقد (اعتبر الإسلام أهم عامل ساعد على انتشاره بين الناس وبناء دولته العادلة في المدينة بالرغم من جميع الفتن والاضطرابات التي عصفت به كان هو سياسة الأخلاق السمحة والأساليب الرحيمة التي مارسها رسول الله مع أصدقائه، وأعدائه) (36) تلك التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (37).

إن صاحب الرسالة النبي محمد (صلى عليه وآله وسلم) عاش في مجتمع يتفشى فيه الظلم بأشكاله المختلفة وذلك ما دفعه باعتباره مصلحاً اجتماعياً - علاوة على كونه نبياً - إلى التفكير جدياً برفع أسباب الظلم من ذلك المجتمع وإحلال سياسة الرحمة والسلام فيه.

)كان النبي يمتلك إحساساً عميقاً بالعدل، وقد وجد الظلم والقهر منتشرين في المجتمع الذي نشأ فيه. فسعى إلى تأسيس نظام منسجم يعترف فيه بمعيار واضح للعدل) (38).

)ولئن سلم النبي بفضيلة الشجاعة وغيرها من الفضائل، فقد شعر شعوراً قوياً بالحاجة إلى تأكيد القيم الدينية والأخلاقية لكي يحد من القسوة والخشونة. ولهذا السبب نجد أن القرآن والسنة كثيراً ما ينهيان المؤمنين عن التعصب والقهر... وفي القرآن الكريم أكثر من مئتي موضع ينهى الله تعالى فيها عن الظلم بكلمات من الظلم، والإثم، والضلال) (39).

خلاصة القول أن الكلام عن اللاعنف في الإسلام يمكن إن يتركز في ثلاثة محاور رئيسية تبعاً للتقسيم الذي سبق أن قدمناه لموارد اللاعنف وميادينه وهذه المحاور هي:

1- اللاعنف الديني.

2- اللاعنف السياسي.

3- اللاعنف الاجتماعي.

اللاعنـــــف الديــنـــي..

تقدم أن مبدأ اللاعنف إنما هو مبدأ ديني، أطلقته الأديان، كما أن اللاعنفيين في غالبيتهم العظمى من المتدينين - بغض النظر عن كون أديانهم سماوية أم غيرها -.

إن نظرة إلى الأديان الإلهية الحقة تكشف لنا صحة هذا المدعى، وبما أن الأديان - غير الدين الإسلامي الحنيف - كانت قد طالتها يد التحريف، فإن الواقع الذي كانت عليه نستطيع الوقوف على حقيقته من خلال القرآن الكريم، وكذلك من خلال سيرة النبي الأكرم وأهل بيته(عليهم السلام) ، هذا على سبيل العموم، أما ما في الدين الإسلامي مما يدل على مبدأ اللاعنف فأكثر من أن يحصى عداً عن طريق مصادر الشريعة الإسلامية.

إن المطّلع على الدين الإسلامي وتعاليمه، وعلى سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته يتبين له بما لا يقبل الشك أن الإسلام - من جهة الدعوة إليه - (يرفض التبشير بأساليب عدوانية كما تقوم بذلك الجماعات التبشيرية المسيحية) (40) وغيرها في سبيل دعوة الناس إلى الأديان التي تعتنقها.

لقد حذّر القرآن الكريم من الوقوع في مطب العنف في ميدان الدعوة إلى الإسلام وذلك في قوله تعالى على سبيل المثال:

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ )(41).

لقد أدرك الإسلام بأن العقيدة إنما ترسخ مع تقبل المبادئ المدعو إليها بالأسلوب الهادئ والحوار في جو من المودة والسلام بخلاف ما لو تم ذلك بأسلوب العنف.

(فبما أن كل العقيدة قضية بالاقتناع الذاتي، فإن الإكراه فيه محاولة قاصرة في الأساس، ولكن الآية الكريمة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) تحرم هذه المحاولة رغم أن القصور بحد ذاته لا يوجب بالضرورة التحريم) (42). هذا من جهة الدعوة العملية إلى الإسلام، أما الدعوة إلى الإسلام من خلال السلوك العملي الذي كان يمارسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وأصحابه، فإن التاريخ مليء بتلك القصص المثالية التي طالما أدخلت الكثير إلى الدين الإسلامي، فلم نشأ ذكر هذه القصص وذلك لطول المقام في ذكرها ولسوف نأتي على ذكر بعض من هذه القصص في تطبيقات هذا الفصل، وكذلك في الفصل الثاني من هذا البحث.

اللاعـنـــف السـيـــاســي..

إن الفترة التي حكم الدين الإسلامي الأرض خلالها - الحكم الإسلامي الحق - بحيث امتدت أطراف الدولة الإسلامية إلى أرجاء الدنيا، فدخل أوربا وغيرها من القارات، مليئة بما يعتبر نهجاً مثالياًَ لسياسة الدول.

لقد ربط الدين الإسلامي بين اللاعنف ونمو الدول وازدهارها، فاعتبر اللاعنف وكل ما يمت إلى هذا المبدأ بصلة من عوامل دوام الأمم والدول، فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) (أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور.. وأن إمامتنا بالرفق والتأليف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه) (43).

وكما عد الدين الإسلامي اللاعنف من عوامل دوام الدول، ففي المقابل عد العنف والظلم والشدة في سياسة العباد من عوامل زوال الدول وفنائها.

إن هذا الربط الإسلامي بين اللاعنف ودوام الدول، وبين العنف وفنائها، يمكن أن يرقى إلى مستوى نظرية سياسية، وقانون يجد الإنسان تطبيقاته حين يتجول بين صفحات التاريخ بصورة عامة، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى وصاياه لواحد من ولاته: (إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها... والله سبحانه وتعالى مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء في يوم القيامة... فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله... ) (44).

اللاعنــف الأجتماعـــي ..

أما اللاعنف الاجتماعي، والذي يتمثل فيما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان سواء على صعيد الأسرة، أم المجتمع، فإن الدين الإسلامي يرسم لنا من خلال أحكامه صوراً لهذه العلاقات ملؤها الحب والتسامح والعفو.

وأول الصور المثالية لتلك العلاقات الاجتماعية التي أرادها الدين الإسلامي أن تعم بين أبنائه هي صورة المؤاخاة التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين والتي كان لها انعكاساتها الإيجابية، والأثر البالغ في إزالة كل أسباب الحقد، والتباغض الموجود في القلوب فيما لو كانت موجودة بين بعض من آخى بينهم كما هي الحال بين قبيلتي الأوس والخزرج في يثرب، وكانتا تعيشان حرباً تأكل المال والرجال حتى أطل عليهما الإسلام، وتشرفت وتنورت أرضهم بنور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصار الأعداء بفضل سياسة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمؤاخاة أخوة.

أما العلاقات الأسرية في نطاق الإسلام، فقد فرضت أحكام الدين الإسلامي على من يعيش في كنف هذه المؤسسة الاجتماعية الراقية أن يستبعد كل سبب للعنف في ذهنه وذلك أن هذه المؤسسة لا يمكن أن تسير السير الصحيح إلا إذا ساد الحب والتسامح والعطف بين أبناءها.

الهــــوامــــــش  :

(1)عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987م، 4/320

(2) محمد رضا المظفر، المنطق، ط3، مكتبة بصيرتي، قم، 1408هـ، 1/100.

(3) محمد رضا المظفر، المنطق، ط3، مكتبة بصيرتي، قم، 1408هـ، 1/100.

(4) محمد رضا المظفر، المنطق، ط3، مكتبة بصيرتي، قم، 1408هـ، 1/100.

(5) د. معن زيادة، الموسوعة الفلسفية العربية، ط1، معهد الاتحاد العربي، 1986م، 279.

(6) مجموعة من الباحثين، غاندي صانع اللاعنف، ط1، مركز اللاعنف وحقوق الإنسان، بيروت، 1996م، 43.

(7) د. عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، 5/385.

(8) محمد المهدي النراقي، جامع السعادات،ط3، منشورات جامعة النجف الدينية، العراق،1283هـ، 1/302

(9) الموسوعة السياسية، 4/256

(10) المصدر السابق،.4/256

(11) ابن منظور، لسان العرب، منشورات أدب الحوزة، رقم 1405هـ، 12/293.

(12) المصدر السابق 8/79.

(13) موسوعة السياسية،1/171.

(14) موسوعة السياسية،5/387.

(15) البقرة / 256.

(16) الكهف / 29.

(17) تاريخ ابن عساكر.

(18) المهاتما غاندي رجل الشرق.

(19) موسوعة السياسة، 5/387.

(20) موسوعة السياسة، 4/320.

(21)غاندي صانع اللاعنف، 43.

(22) موسوعة السياسة، 5/387.

(23) استراتيجية العمل اللاعنفي / 60.

(24) غاندي، كل البشر أخوة /54.

(25) كل البشر أخوة، 54.

(26) وهو خط جغرافي وهمي لا يرى بالعين، وإنما هو خط افتراضي لا حقيقي.

(27) استراتيجية العمل اللاعنفي، 60.

(28) موسوعة السياسية، 4/320.

(29) موسوعة السياسية، 4/حرف غ.

(30)غاندي صانع اللاعنف،43.

(31) كل البشر أخوة،40.

(32) المصدر السابق، 41.

(33) عبد الهادي عباس، حقوق الإنسان، دار الفاضل، دمشق، 1995، 1/135.

(34) استراتيجية العمل اللاعنفي / 17.

(35) جريدة المجد، فقرة ثابتة.

(36) فاضل الصفار، الحكومة الديمقراطية أصولها ومناهجها / 234.

(37) آل عمران / 159.

(38) د. مجيد خدوري، في مفهوم العدل في الإسلام، ط1، دار الحصاد، دمشق، 1998م، 24.

(39) المصدر السابق، 25.

(40) فيلفرد مراد هوفمان، الإسلام هو البديل، ط1، بيروت، 1993م، 122.

(41) الغاشية / 21.

(42) الإسلام هو البديل، 123.

(43) الحكومة الديمقراطية، أصولها ومناهجها، 235.

(44) نهج البلاغة، كتاب 53.