شاءت الإرادة الإلهية أن يسكن عند
بيته الحرام أحبّ خلقه إليه فأمر الخليل
بالرحلة إليه وأن يسكن هاجر وابنه إسماعيل
عند بيته الكريم وهكذا بدأت الرحلة برفقة
أمين الله جبرائيل فكان إبراهيم كلما مرّ
بأرض خضراء ينعة فيها الكلأ والماء قال
لجبرائيل: هنا، فيقول جبرائيل: لا حتى وصل إلى
ذلك الوادي اليابس الخالي من الأنس والطير
فقال جبرائيل هنا يا إبراهيم فسلم إبراهيم
نفسه وأهله وأولاده لإرادة الله تعالى.
وكان لسانه وقلبه داعياً رب العزة
والجلالة (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (إبراهيم:
37).
وبدعائه بيّن وضع الوادي الذي يرق
القلب له حيث لا مأوى يأوي إليه ولا شجر يستظل
به و زرع يقتات منه ولا ماء يقوى به ويدفع به
العطش ولكن مع ذلك كله له الشرف التام حيث هو
بجوار بيت الله الذي شرفه سبحانه واختاره أن
يكون باسمه يأوي إليه عباده لأداء مناسكهم
ولإظهار ولائهم، ثم أعقب الدعوة بذكر الغاية
من السفر والرحيل رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ) ودعا لهم لرفع الوحدة والوحشة
عنهم حتى تفد إليهم أفئدة من الناس وتهوي
إليهم قلوبهم مع دعوة الرزق المقومة لبقائهم
واستمرار حياتهم وقد استجاب الله هذه الدعوة
من القلب الحنون فجعل المكان كعبة وقبلة
للوافدين ومكاناً يتنسّك فيه الناسكون (وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) ومن هنا
بدأت الحركة الظاهرية نحو هذا البيت العتيق
الذي اعتقه الله من الغرق بل هو اعتق واقدم
بيت حيث قال تعالى:
(ِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً
وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ) (آل عمران:
96 - 97). هكذا جعل الله تعالى بيته مجلى عظمته
ومأوى ضيفه.. والتدبر في تلك الآيات يعطينا
النتائج التالية:
1-
إن البيت الكريم أول بيت وضع
لعبادة الله وتقديسه.
2- وانه للعالمين لا يختص به أحد (سواء
العاكف فيه والباد).
3-
هو بيت الله فكل عبد لله تعالى له
حق الوفادة إليه، وانه ملتقى الشعوب ولا يحق
لأحدٍ أن يمنع وافداً إليه.
4- انه مكان مبارك فكل وافد يحظى
بمقدار من البركة وبنوع منها.
5- انه(هدى للعالمين) فهو مكان هداية
بل منه تنطلق أنوار الهداية ومنه انطلق النور
النبوي الشريف (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ونور هدايته باقٍ إلى
يوم القيامة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
6- فيه آيات بينات فلا بد أن يلتفت
إليها الوافد ويشعر بها ويستزيد من نورها
ويستضيء بها.
7- أوجب الله تعالى على كل مستطيع
الوفادة إليه (مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً).
8-جعل ترك ذلك مساوياً للكفر.
9- جعل الداخل إليه داخلاً في
الأمان والأمن الإلهي فعلى الداخل أن يغتنم
ذلك ولا يخرج منه.
10-خلّد ربنا أثر إبراهيم الخليل
وجعل موضع قدمه ذكراً خالداً وعلامة لمقام
المخلصين ومنه نعرف أنه ينبغي احترام آثار
أولياء الله المقربين، وجعل الصلاة عنده
منسكاً للناسكين.
فجدير بالمسافر إلى تلك الديار
المقدسة أن يعرف انه سافر إلى مثل هذا المكان
اللائق بالاحترام والتقديس والتزود من
بركاته وبذلك يحظى بالشرف الأوفر والحظ
الأكبر ويفتح له في الحساب الإلهي صكاً
مفتوحاً وعطاءً جزيلاً فعليه أن يحافظ عليه
بتوثيق الصلة بالله والعمل الجاد والإخلاص
المستمر وهذا هو الحج الواقعي فلقد ورد عن أبي
جعفر (ع) حيث سئل لماذا سمي الحج حجاً؟ فقال:
حجّ فلان أي أفلح (البحار: ج96 ص2 ح1). فيكون الحج
هو الفلاح عند الله تعالى.