خلق الله تعالى الوجود من العدم
وهو احسن، وخلق الحياة في الوجود وهي احسن،
وخلق العقل في الحياة في روح نفخها من أمره.
وهو احسن حين خلق البشر، واختار احسن البشر
ليرفع عنهم القصور فيكونون بذلك رسلاً يعلمون
الناس ويدعونهم إلى الإحسان من خلال عقيدة
الإسلام الكاملة متمثلة بما جاء به الكتاب،
وبما يصدر عن المعصومين(ع) تجسيداً ملموساً
لمعاني وتأويلات ذلك الكتاب دون خطأ أو خطل.
وتفاضلت عقول الذين يدينون
بالإسلام، بمقدار وعيهم وتطبيقهم لما جاء به
الكتاب ومتأسين بالأسوات الحسنة(ع) الذين
فرضت العقيدة الكاملة طاعتهم. وصار مقياس
التفاضل بالأحسن هو التقى (إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) ثم
يأتي الموت، وهو سنة حسنة فرضها الله تعالى
على العباد، فهل ينقطع بها الإحسان وسننه
التي لا تتبدل ولا تتحول؟ طبعاً لا إنما الموت
نقلة باتجاه الاحسن، حيث الأخرى هي الحيوان،
فيها يخسر المبطلون وهو احسن ويرتقي المحسنون
إلى حيث الدرجات التي لا حد لها في إحسان
المحسن جلا وعلا وهو احسن كذلك.
فالحسن في إحسان المحسن لا ينقطع،
فقد استمرت سنة الحسن في حفظ الوحي إلى ما شاء
الله تعالى بمعجزة القرآن الخالدة. بعد
انقطاع الوحي واستمرت رحمته تعالى متجسدة في
الأئمة(ع) إلى ما شاء الله تعالى في بناء
الخلق، بعد الختم بالمصطفى محمد(ص) وانقطاع
النبوة.
فالناس قبل الصيرورة مادة ميتة
فإذا صاروا إلى الاصلاب نطفاً انتبهوا، لأن
النطفة فيها استجابة حياة، وهو احسن.
والناس في الاصلاب نيام فإذا صاروا
إلى الارحام فعلقوا اجنة انتبهوا وهو احسن.
وبمقياس الحسن الرباني بكل معانيه نستطيع أن
نرى ونستنتج ونقول: الناس في الاجنة نيام فإذا
خرجوا إلى الدنيا انتبهوا وهو احسن، والناس
في الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا وهو احسن،
والناس في البرزخ نيام، فإذا قامت القيامة
انتبهوا وهو احسن، والناس في القيامة نيام
فإذا دخلوا الجنة انتبهوا وهو احسن، وإذا دخل
الطغاة والجبابرة والظالمون وأعوانهم النار
انتبهوا وقالوا: (شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ
هَذَا غَافِلِينَ) الاعراف 172. وهو احسن،
والناس في الجنة نيام كلما اجتازوا درجاتها
إلى الأحسن انتبهوا وهو احسن، فإحسان الله لا
ينقطع خلقنا ورزقنا وهو غني عنا، هدانا
بنوره، فأرسل الرسل(ع) وأنزل الكتب. وأقام
المعجزات لذلك، مع هذا تجد من يكفر، وتجد من
ينسب القبح إليه عن جهل أو علم. فالانسان كثير
الجدال، وحتى في كثير من مسائل العقيدة مع
ايمانهم بكمالها نجد من يفترض افتراضات ليس
لها في جوهر الحقيقة اصل، وتأخذ مع هذا حيزاً
من وقتهم وجهدهم.
فمسألة الجبر والاختيار مثلاً: هي
مسألة افتراضية ليس لها في الواقع من رصيد،
وأئمتنا(ع) ينادون بان (لا جبر ولا تفويض)، ومع
هذا تجدها ترد في أبواب التناحر والخصام، بما
يشغل الناس بما لا اصل له. ولقد رأينا أن الأصل
في الخلق وسنته هو الإحسان من المحسن سبحانه.
قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ
الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) السجدة 7.
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك 2.
وليس من الحسن في شيء أن يكون
الإنسان مجبراً في عقله فيفقد ميزة الحسن في
خلقه وهو العقل، ويعود كالحيوان أو الجماد،
وكذا فإن الإنسان ليس بخارج في خلقته العاقلة
عن سنن الحسن في اصل الكون فيكون مختاراً.
فالله تعالى حين خلق الخلق وهو
غنيّ عنهم، إنما خلقهم ضمن سنن احسانه، فله
سبحانه الصفات الحسنى والأمثال العليا، ولا
ينسب له القبح بحال من الاحوال، والعاقل يرى
ذلك ببداهة، وهو يدرك بكمال عقله أن كل
المقدمات التي تؤدي إلى نسبة القبح للمحسن
سبحانه باطلة، والقول بالجبر أو بالتفويض هو
من هذه المقدمات.
إن الله تعالى هو المحسن قديم
الإحسان، بدأ الخلق بالرحمة والاحسان وفق سنن
في ذلك قضاها وحكّمها في كون الخلق، ولذا فإن
الحسن لا يرى إلا من خلال الطاعة لتلك السنن،
وبهذا جعل سبحانه الحسن هدفاً بذاته في هذا
الكون، وأمر بالعدل والاحسان (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) والعدل
هو تجسيد الحق في الواقع، والحق هو الصدق
الثابت، والثبات هو في سنن الله الحسنة فلا
تبديل ولا تحويل لها، ولذا يكون العدل أدنى
درجات الإحسان، وجعل الجزاء سنة حسنة لاعادة
العدل إلى نصابه في حالة تعديه، وشرع للعدل
والإحسان سنناً، ومن السنن الحسنة جعل سبحانه
البلاء سنة لاختيار الأحسن من عباده وكلما
كان البلاء عظيماً كلما كان المختار احسن،
وبذلك اختار الأئمة والأنبياء(ع)، وجعلهم
الوسيلة إليه والسبيل إلى الإحسان
بمحاكاتهم، فهم الأسوات الحسنات، وأمر
بالاقتداء بهم، وأمر بطاعتهم وقرنها بطاعته.
إذن من هذه المقدمة علمنا أن
للاحسان سنناً أمضاها الله تعالى في خلقه
وأرسل الرسل بدعوة الناس إليها، وبثها وثبتها
من خلال كتب أنزلها ومعجزات أقامها، وإن
الختم كان بالحبيب محمد(ع)، فتوقف الوحي لا
يعني توقف تلك السنن أو نهايتها، فاحسان
المحسن لا يتوقف ورحمته متصلة، فقد كتب على
نفسه الرحمة، إذ إن حفظ القرآن بعد انقطاع
الوحي هو مضاء سنة الله تعالى في الإحسان
والرحمة إلى البشر، وقد أكد سبحانه هذا في ذات
القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، أما دعوته
سبحانه الناس إليه كونها سنة حسنة فقد استمرت
ولم تنقطع ولا تنقطع ممتدة في المعصومين(ع)
ممن اختارهم بعلمه وطهرهم وأذهب عنهم الرجس
وأمر الناس بمودتهم والرجوع إليهم وقرن طاعته
سبحانه بطاعتهم وجعلهم الوسيلة إليه، فكانوا
هم شركاء الكتاب، كما كان الرسل أمناء
الكتاب، وبذلك مضت سنته سبحانه في الناس.
حفظ مجسدات الوحي الصادقة في
الإمام المعصوم
طبقاً لسنن إحسان المحسن في خلقه
التي لا تبديل ولا تحويل لها، امتدت مهام
النبوة في الإمامة، فكانوا آل بيت النبي(ع)
أحسنهم بمقياس الطاعة لله تعالى في سننه
الحسنة ليجسدوا معاني الوحي في الواقع حسناً
وعدلاً يدرك بالحواس، باعتبار أن القرآن هو
الوحي المحفوظ من اجل بناء البعد الموضوعي
والبعد الروحي لعقيدة الإسلام الكاملة في
نفوس الذين يؤمنون بإمامتهم وعصمتهم، وتتم
هذه المعاني من خلال سنة بلاء الله تعالى.
فلقد رأينا عظمة الأئمة(ع) بما لا
ترقى إليه عظمة أحد من الخلق من خلال عظمة
البلاء الذي تعرضوا له وكانوا أهله وموضع
بيان معاني وحي الله، وهكذا لازمت العترة
الطاهرة من آل النبي(ع) الكتاب في حفظ الدين،
وعصمة الناس من الضلال.
وبهذا صارت العقيدة الكاملة لدين
الإسلام محفوظة كاملة في ثلة من المؤمنين
الذين انجذبوا بمحبة أهل بيت النبي(ع) لما
جسدوا من حسن العقيدة الكاملة بياناً واضحاً
لا لبس فيه، لان مجسدات الوحي في الواقع هو
البيان الذي وعد الله تعالى عباده بقوله جل
شأنه: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
وقد جاء ذلك البيان في ما تعرضت له
العترة الطاهرة(ع) من بلاء، وصاروا بذلك هم
القرآن الناطق، وهو الصورة الحقيقية لحفظ
القرآن في بعده الروحي، كما تكفل المحسن جل
شأنه بحفظ البعد الموضوعي من التحريف.
فعلى سبيل المثال لولا الوقفة
المبدئية للإمام علي(ع) من معاوية بالرغم من
انه(ع) كان يمكنه أن يقبله ثم يقيله، ولولا
الوقفة المبدئية للإمام الحسن(ع) من معاوية
أيضا المثبتة في شروطه عليه، ولولا الوقفة
المبدئية للإمام الحسين(ع) ضد يزيد، بما ترتب
على تلك الوقفة من مصيبة مشهودة، لا زالت تعيش
حية في النفوس تحيي العقيدة الكاملة بفصولها
إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولولا
مواقف الأئمة(ع) من الطغاة والظلمة، لولا كل
هذه المواقف لصارت نقلة الخلافة من الرسول
إلى غير أصحابها قضية مسكوتاً عنها. ولصار
الأدعياء هم الذين يجسدون معاني الوحي ولضاع
الإسلام إلى الأبد، وهذا مخالف لسنة الله
تعالى في الإحسان، فلا يكون.
فمثلاً نحن اليوم نجد في غير الثلة
المؤمنة، بمذهب آل النبي، من يقول مثلاً إن
قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) إن
أولي الأمر هم الحكام مهما كانوا، وينفيه
قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ)
وذلك بسبب أنهم أضاعوا البعد الموضوعي
المحفوظ بعد أن فرقوا بينه وبين الشريك الذي
لا يفترق عنه ففقدوا الاثنين معاً. إن هذا
المفرق هو الذي أدى إلى انحراف العقيدة
الكاملة بدين الله تعالى بسبب صيرورتها إلى
دين لغير الله تعالى. إن التزام الشراكة بين
القرآن والعترة معاً يبقي العقيدة في امتداد
سنة الرحمة والإحسان غير المنقطعة الله تعالى
في الناس، وإن التفريط بأحدهما هو تفريط في
الآخر يعود بالمفرط إلى اللمة في الاعتقاد،
وبذا تفتقد ديانة المفرطين معاني الكمال في
عقيدة الإسلام ولا يجدون لذلك تفسيراً إلا أن
يقولوا (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ) الزمر 56.
وجود القيِّم الذي هو في حالة حرب
مع معاني الترف في الإنسان
وقد وصفه الإمام الحجة(عج)، بأنه (من
كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه
مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن
يقلدوه).
وهذا المضمون في تحديد القيّم هو
نتيجة حتمية لوجود حقيقي في العقيدة الكاملة
وواقعي لحفظ بعدي العقيدة متمثلاً بمذهب
العترة(ع). فبسبب البيان الواضح المجسد لمعاني
الوحي المحفوظ في القرآن من قبل الأئمة
المعصومين(ع) صارت صفات القيم الذي توجه إليه
الأمة في وضوح تام. فهذا القيّم، إنما يتصدى
لحفظ الدين نيابة عن المعصوم المحتجب(ع)،
طبقاً لسنن الله الحسنة في الرحمة والإحسان،
ولا تخلو الأرض منه. ولذا فإن وجود هذا القيم
بمعنى النيابة أو الوكالة للمعصوم، يعني انه
يعطي من امكاناته العلمية وطاعته الممكن
الحسن، ويعد بالأحسن، وذلك هو المضمون الذي
يتناسب مع صدق استمرارية الإحسان إلى الناس
في سنن المحسن سبحانه التي لا تنقطع.
إن غياب الإمام المعصوم(ع)، هو الذي
أبرز ضرورة وجود القيم، ومن هذا صار للغياب
معاني ضرورة الاجتهاد في الدين وتعدد
القيمومة لتوفر شروطها وصفاتها في عدد من
المجتهدين، وهذا بالضرورة يؤدي إلى تعميق
الوعي بمعاني العقيدة الكاملة للدين
الاسلامي، لأن مع وجود الإمام المعصوم وفي
موقعه من العقيدة، لا ضرورة للاجتهاد وقطعاً
لا تعدد فيه، أما غيابه فأوجد الضرورتين معاً.
مما يؤدي أيضاً بالحتم إلى اتساع البعد
الروحي للعقيدة كما وكيفاً، أي يتسع بوعي
المجتهد عرضاً وبتعدد المجتهدين طولاً بما
يمنع على القيم أن ينحرف وإن انحرف بدى
انحرافه واضحاً، إزاء من لم ينحرف.
وهذا المعنى لا يتوفر للكمال إلا
في عقيدة الثلة المؤمنة بمذهب أهل البيت(ع)
الأطهار، يحفظونها طبقاً لسنن الله تعالى
التي لا تتبدل ولا تتحول، وعلى ضوء هذه
المعرفة نلحظ:
1) إن اعلان الحرب على الترف
والمترفين من قبل القيّم على العقيدة في دين
الله تعالى وعلى مذهب آل محمد(ع)، هو دافع فعلي
واضح في نظام المرجعية والتقليد.
2) إعلان الحرب على الترف والمترفين
شعيرة في دين الله ومذهب آل محمد(ع)، يستذكرها
المؤمنون من خلال استذكار بلاءات ومصائب آل
محمد(ع)، وبذلك يتم البيان ويتعمق الوعي في
ماديات البعد الروحي للعقيدة عندهم.
وعلى ضوء هذا، فإذا فقد القيّم صلة
المحبة والولاء التام للائمة المعصومين(ع)،
بما يعني الولاء من بغض لأعدائهم والظالمين
عموماً، فَقَد ذلك القيّم مهمته في حفظ
الدين؛ لأنه صار إلى حيث اللمة والنفاق في
العقيدة.