النبأ العدد 53 شوال 1421 كانون الثاني 2001

فائق محمد حسين

من أين استمدّ هذا الإمام الزاهد العابد الساجد، الملازم لمحرابه يصلي ويسبح ويرتل آيات القرآن الحكيم، كل هذه المعرفة العلمية الخارقة؟ من أي مصدر نهل كل هذه المعلومات الثرة والدقيقة؟ بحيث كانت له اليد الطولى في كل ثقافات وعلوم عصره!!

كيف تأتى له أن يتكلم بأسرار العلوم وحقائق الإسلام الكبرى وهو ابن سبع سنين حتى (ازدحم على بابه العلماء واقتبس من مشكاة أنواره الاصفياء) (1)؟ وغدا أثره كبيراً ومتميزاً في الفكر الإسلامي واصبح نهجه مصدر عطاء لا يتوقف!!

ممن اكتسب هذه الثقة العالية بالنفس بحيث يخاطب أتباعه: (سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي)(2)؟ ولم يقلها أحد قبله إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).

هذه الشخصية الفذة حملت الباحثين على الوقوف عندها وقفات تأمل وبحث طويلين... ولقد تساءل بعض هؤلاء ممن قعد بهم البحث وعجزوا عن استكناه شخصية الأئمة من آل بيت النبوة (ما لهؤلاء الأئمة وهم رجال الدين وسدنة الأخلاق النبوية وهذه العلوم الكونية؟!) (3).

وبعد أن ثبت أن كثيراً من العلوم والصناعات الغربية مشتقات من علومه، وقد سرقت من بلاد المسلمين وغلفت باسماء ومسميات أخرى، وبعد هذا العطاء الوافر الذي قدمه للبشرية في شتى مجالات الحياة، ماذا كان سيقدم لو قدر له أن يستمر في متابعة مشواره؟ ولو لم يدس له اللعين منصور الدوانيقي السم بالعنب؟!

هذه الأسئلة وغيرها حيرت ألباب العديد من العلماء والمفكرين فطرحوها منذ نور الكون باشعاع جعفر الصادق (ع)، وما زالوا يطرحونها.. ولا عجب في كل هذه الأسئلة المستغربة، فالحديث عن هذه الشخصية الغنية الفذة لم ينقطع معينه ولم ينضب مورده، لأنه الإمام الموسوعي الذي ستبقى حياته ميداناً خصباً يرجع إليه بالضرورة كل باحث أو مدقق في تاريخ الإسلام وتاريخ الثقافة والعلوم الإسلامية فمنها يستلهم المرء كل يوم شيئاً جديداً.

ولعل ابرز ما في شخصية الإمام الصادق (ع)، تلك الحالة النفسية التي عاشها في صدر حياته الشريفة بين الزهد من جانب والتأمل من جانب آخر، ثم هذا الواجب المقدس الذي ورثه الإمام في دمه عن جده سيد الأنبياء محمد (ص) والأئمة الهداة (ع) من بعده في الدعوة إلى الله وحده والدفاع عن دين الله في وجه دعاة الانحراف والضلال. دفاع من لا تأخذه في الله لومة لائم، فضلاً عما عرف به بيت النبوة من صبر وجلد وتحمل للمكاره، وما كانوا يلاقونه في طريق دعوتهم من عنت ومشقة واضطهاد من الأحزاب المناوئة لحزب الله، ومن القيادات الحاكمة من الامويين والعباسيين.

(كل هذه العوامل مجتمعة تركت أثرها في حياة الإمام الصادق وحركت الجوهر الفرد الكامن في شخصيته الفذة، كما كانت في نفس الوقت أشبه بالمصل الواقي ضد ما حاكه حوله اعداء بيت النبوة) (4).

ولئن كان بعض المفكرين يرون أن الأحداث هي التي تخلق الرجال وتصنع التاريخ كما يرى الفلاسفة الماديون امثال الفيلسوف الوضعي أوغست كونت والمؤرخ هيبوليت تين والروائي الطبيعي أميل زولا، متناسين الجانب الخطير في أعماق المصلحين، وأعني به طاقاتهم الروحية التي تدفع عجلة المادة وتصوغ حركة التاريخ فإني ارى رأي الفلاسفة العقليين الذين يقررون بان الرجال هم في المقام الأول الذين يخلقون الأحداث ويصنعون التاريخ. وإن التطور المادي لا يكفي وحده في صنعه فلولا الدور الكبير الهام الذي قام به هذا الإمام الجليل وهو سادس الأئمة من بيت النبي الطاهر، لما كانت هذه الشرارة الضخمة التي اوقدت مشاعل الثقافات الإسلامية.

فالإمام الصادق لا يقف عند كونه عالماً ربانياً، ومجدداً في حياة الفكر الإسلامي فحسب وإنما يمتاز بسمات خاصة انفرد بها دون سائر المجددين من اعلام المسلمين. لقد كان ومنذ أواخر القرن الأول أمة وحده. أحدث بفضل تلقفه من علوم آبائه وأجداده أئمة أهل البيت (ع) دفعة قوية في تيار الثقافة الإسلامية كان من نتاجها رجال المذاهب الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وكان من ثمارها أيضا ظهور الكثير من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين.. فهذا الإمام الذي تنبأ باختراع الراديو والتلفزيون وآلات الترجمة حيث يقول: (يأتي على الناس زمان يرى ويسمع من يعيش في المشرق صورة وصوت من في المغرب.. وكل قوم يسمع الصوت بلغتهم) (5) توزعت علومه في شتى الميادين.. فكما كان رائداً في الفقه والحديث والتشريع الاسلامي، و الثقافة والفنون، ومناظراته فيهما وفي القياس وعدم مشروعيته في استنباط الأحكام، كان متبحراً في الطب والعلوم الكونية، أو ما اصطلح على تسميته إلى وقت قريب بالعلوم الدخيلة كعلوم الكيمياء والطبيعة والحيوان وعلم الإنسان!! وها هو دونالدسون يعد الإمام الصادق (مدرسة شبه سقراطية) (6) ويؤكد امير علي (إن المدرسة التي أسسها الإمام الصادق لم تغلق بوفاته بل ظلت تزدهر برعاية ابنه موسى الكاظم) (7) ويعطي الشهرستاني رأيه في الصادق فيقول (وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له اسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدة، ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحداً الخلافة قط، فمن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط) (8).

تولى الصادق الامامة بعد وفاة أبيه محمد الباقر (ع). وتعد تلك المرحلة نقطة فاصلة في تاريخ الشيعة وعهداً مهد لتوضيح قواعد مذهبهم وتركيزها. وكان عصر الصادق مؤاتياً من الناحيتين السياسية والثقافية. فمن الناحية السياسية كان عصره معاصراً لآخر زمن خلافة بني أمية وأوائل خلافة بني العباس.. فعلى اثر الانتفاضات التي حدثت في الدولة الإسلامية وخاصة قيام (مسودة) ضد دولة بني أمية للاطاحة بها والحروب المدمرة التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية وانقراضها. وعلى اثر هذا كانت الظروف مؤاتية ومساعدة لنشر حقائق الإسلام وعلوم أهل البيت التي طالما ساهم في نشرها الإمام الباقر طوال عشرين سنة من زمن امامته وقد تابع الإمام الصادق عمله في ظروف اكثر ملاءمة وتفهماً.. بعد أن خفت الرقابة على أئمة الشيعة في بداية العصر العباسي مما مكنهم من الانصراف كلية للعلم..

فبسبب انشغال العباسيين باسقاط الامويين حصل الإمام الصادق على فسحة واسعة في التدريس ونشر المذهب اكثر من كل الأئمة.. فعمل بكل جهد على بث التعاليم الدينية وتربية العديد من الشخصيات العلمية الفذة في مختلف العلوم والفنون والثقافة سواء في العلوم العقلية أو النقلية.. ونجح في مسعاه أيّما نجاح.. لذا عد عصره عصراً ذهبياً بحق.. حيث ازدهرت وانتشرت وكثر فيه تدوين معظم العلوم الإسلامية من الفقه والحديث والتفسير.. والجدل والأنساب واللغة إضافة إلى الشعر والأدب والكتابة والتاريخ والنجوم وغيرها.. هذا فضلاً عن ظهور علم الكلام الذي تأثر واضعوه بالعلوم اليونانية.

واستمر الإمام في عمله الدؤوب حتى أواخر حياته.. لذلك تعتبر الاحاديث المتواترة عنه وعن ابيه الباقر اكثر مما رويت عن النبي الاكرم والعشرة من الأئمة الهداة، إضافة إلى انه أحصي لهذا الإمام العملاق من المؤلفات الجادة والهامة ثلاثة وعشرين مؤلفاً أورد ذكرها العلماء والمؤرخون كابن خلكان وابن النديم صاحب الفهرست.

(وكان الإمام الصادق من اكثر أئمة الشيعة أسلاف الإمامية نشاطاً وعملاً على نشر علوم أهل البيت من جهة، والدفاع عن مذهبهم في وجه ممثلي الجماعات الأخرى، من المسلمين أو من الغلاة والزنادقة من جهة أخرى) (9).

ولقد حرص الإمام على تشجيع طلبته، الذين كان عددهم كبيراً ويزيد على أربعة آلاف طالب في مختلف العلوم.. وذكر منهم الشيخ الطوسي في (رجاله) ثلاثة آلاف ومائتين وسبعة.. وفي كتابه (الصواعق المحرقة) يقول شيخ الإسلام ابن حجر الهيثمي ما نصه (نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان) وروى النجاشي أن الحسن بن علي الوشاء قال: (أدركت في هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ تسع مائة شيخ، كل يقول حدثني جعفر بن محمد) (10) كان يشجعهم على كتابة ما يسمعون ويوصيهم بحفظ كتبهم.. وقال الشيخ المفيد في معرض كلامه عن الصادق (كان أنبه اخوته ذكراً وأعظمهم قدراً وأجلهم في الخاصة والعامة.. ولم ينقل عن أحد من أهل الآثار ونقلة الأخبار مثل ما نقلوا عن الصادق.. وإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من التقاة فكانوا أربعة آلاف رجل من اصحابه) (11).

وكان (ع)يقول (حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب وحديث علي حديث رسول الله (ص) وحديث رسول الله قول الله عز وجل) (12) وقال (نحن قوم لا نتبع الأثر، والله، ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولا نقول إلا ما قال ربنا) (13) ومن المفيد القول أن اكثر احكامنا بروايات الإمام الصادق (ع) ومنها اربعمائة اصل جمعت في أربعة كتب وهي من لا يحضره الفقيه، الاستبصار والتهذيب والكافي (وقد جمعت هذه الاحاديث في كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي في عشرين مجلداً وليس فيها إلا الأخبار الصحيحة المتقنة المنقولة عن الصادق (ع) وما كان فيه ضعيف فهو شاذ ومشار إلى ضعفه) (14).

ذات مرة قال الإمام (ع) لتلميذه عبيد بن زرارة (إن رسول الله (ص) قال قيدوا العلم، وفسّر له تقييد العلم، كتابته) ثم قال له: (احتفظوا بكتبكم فانكم سوف تحتاجون اليها) (15). وقد وردت اشارة يستدل منها أن الإمام الصادق كان يدرس طلبته احياناً كتباً معينة، قال زرارة: (أمر ابو جعفر (ع) ابا عبد الله فأقرأني صحيفة الفرائض فرأيت جل ما فيها على أربعة أسهم) (16).. كما وردت إشارة أخرى إلى أن الإمام الصادق (ع) كان يصحح مؤلفات تلامذته أحياناً. روى الحلي أن لعبيد الله كتاباً (عرضه على الصادق (ع) وصححه، وقال عند قراءته ليس لهؤلاء في الفقه مثله.. وهو أول كتاب صنفه الشيعة) (17).

ومن اشهر أولئك الذين تتلمذوا عند الإمام الصادق هم، زرارة ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطاق، وهشام بن الحكم، وأبان بن تغلب وهشام بن سالم وحريز وهشام الكلبي وجابر بن حيان الصوفي الكيمياوي وغيرهم (وقد حضر درسه رجال من علماء السنة مثل: سفيان الثوري وابو حنيفة مؤسس المذهب الحنفي والقاضي المسكوني والقاضي ابو البختري وغيرهم والمعروف أن عدد الذين حضروا في مجلس الإمام وانتفعوا بما كان يمليه عليهم الإمام أربعة آلاف محدث وعالم) (18).

يكشف محمد الخليلي في كتابه (طب الإمام الصادق) عن قدرة الإمام البالغة ومدى علميته وسعة اطلاعه.. في مجال الطب.. فبعد أن يتحدث عن طبيعة الأوبئة والأمراض المختلفة التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، ويسهب في شرح اعراضها وطرق انتقالها ووجه علاقتها بخالق الوجود ووحدانيته جل وعلا يعطي الدواء الشافي لكل منها بصورة دقيقة لا تقبل الخطأ..

وكان يملي على تلميذه الفضل بن عمرو الجعفي من دروس طوال، أوضح فيها هيئة العالم وتأليف اجزائه وكيفية خلق الإنسان وتكوينه وولادته وتغذيته وغرائزه وطبائعه وبيان الدماغ، وإنه مركز الحواس، وما فيه من سائر الأعضاء ثم حديثه عن الحيوان وأنواعه والحكمة في خلقه مع تفنيد أقوال الخصوم. كما تحدث عن نظام الكواكب العجيب وعقلانية تنظيم الأجواء وعلاقة الإنسان بها رابطاً كل ذلك بعقيدة وجود الله ووحدانيته..

وفي الكيمياء.. فمما لا يحتمل الشك أن جابر بن حيان وهو ما هو عليه من العلم بالكيمياء وبعض العلوم الطبيعية والرياضية كان تلميذاً مباشراً عند الإمام الصادق والمعروف جداً أن أبا الكيمياء الحديثة هذا كان يفتتح كل رسالة من رسائله الكيمياوية الموجودة الآن في المكتبة الوطنية في لندن بقوله (حدثني سيدي جعفر بن محمد الصادق) (19).

وفي كتابه (الإمام الصادق ملهم الكيمياء) يقول هولميارد (إن جابر تلميذ جعفر الصادق وصديقه وقد سعى جابر أن يحرر الكيمياء بارشاد أستاذه من أساطير الأولين التي علقت بها) (20).

وكتب ابن خلكان (وكان تلميذه ابو موسى جابر بن حيان قد ألف كتاباً يشتمل على أوراق تتضمن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة) (21).

وفي علوم الفقه والشريعة الإسلامية لم يترك الإمام (ع) شاردة ولا واردة إلا وأشار إليها.. وروى أبو بصير: إن الإمام الصادق تحدث عن الشريعة الإسلامية ومدى استيعابها واحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها فقال: (فيها كل حلال وحرام) و(فيها كل ما يحتاج الناس إليه. وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش.. أي الغرامة التي يدفعها الشخص إلى آخر إذا خدشه) (22).

وقد اعترف بفضل الإمام جميع علماء السنة.. وتحدث الدكتور حامد حفني داود أستاذ كرسي الأدب العربي ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة فقال (إن الإمام جعفر الصادق المتوفى سنة 148هـ وهو رافع لواء فقه الشيعة كان استاذاً للإماميين السنيين أبي حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة 150هـ وابي عبد الله مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ) (23).

وقال سفيان الثوري حين سمع حديث الإمام (هذا والله يابن رسول الله الجوهر! فقال الإمام: بل هذا خير من الجوهر.. وهل الجوهر إلا حجر).

وأبو حنيفة مؤسس المذهب الحنفي كان يعزو نجاته من الوقوع في مفارقات فقهية إلى تلمذته على الإمام الصادق، ويقر للامام بالاستاذية وفضل السبق فيقول (لولا السنتان لهلك النعمان) (24) يقصد بهما السنتين اللتين قضاهما دارساً عند الإمام واغترف خلالهما من علم الصادق وعبّ من منهله الفياض.. وكان جوابه لمن استفتاه (في رجل وقف ماله للامام، فمن يستحق ذلك المال؟) إن (المستحق هو جعفر الصادق لأنه هو الإمام الحق) (25) (ولأن أعلم الناس باختلاف الأقوال أعلمهم جميعاً وأفقههم) (26) وفي أطرف استدلالاته على أعلمية الإمام ما جاء على لسانه حين حاول المنصور أن يتحدى الصادق بعلم أبي حنيفة وهو الذي تتلمذ على يد الإمام مع كثرة من كبار الفقهاء والمجتهدين فبعث اليهما حتى إذا أتياه قال المنصور لأبي حنيفة: سل عما بدا لك. فيقول أبو حنيفة (جعلت اسأله ويجيب الاجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن اربعين مسألة فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء.. فبذلك أحكم أنه أفقه من رأيت) (27).. وفي رواية أخرى قال أبو حنيفة (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد لما أقدمه المنصور بعث اليّ فقال يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من المسائل الشداد، فهيأت له اربعين مسألة ثم بعث إلى أبي جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عيه وجعفر بن محمد جالس، عن يمينه فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور فسلمت عليه وأومأ إليّ فجلست ثم التفت إليه فقال يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم. ثم التفت إليّ المنصور فقال يا أبا حنيفة: الق على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول انتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة.. ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) (28). (هذه القصة التي رواها أبو حنيفة كافية لأن تضع أيدينا على مفتاح القضية (السياسية هي الأساس) ويرحم الله الشيخ محمد عبده حين لعنها ولعن مشتقاتها ومتعلقاتها) (29).

وهذا مالك بن أنس صاحب المذهب المنسوب إليه وأحد تلاميذ الإمام وكان يختلف إليه لأخذ العلم منه وما كانت لديه أية غضاضة أن يصرح بأعلميته وعلو منزلته وورعه فيقول (جعفر بن محمد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال، إما مصل أو صائم وإما يقرأ القرآن. وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق، فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً) (30).

وفي مناظراته العديدة مع مختلف الفقهاء يبيّن الإمام الصادق قوة الإيمان وأهمية العلم.. قال (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين امرين) مثبتاً بذلك خطأ الجبريين الذي ينصّب في نفي صفة العدل عن الباري سبحانه وتعالى، لأنه يحاسب الإنسان على افعال هو موجدها فيه دون دخل للمخلوق في ذلك.. وخطأ القدريين الذي ينصب في نفي قدرة الله وسلطانه على مخلوقاته وكلاهما متطرف بعيد عن الحقيقة(31).

وكان الإمام الصادق على يقين تام بأن الاتجاه الحسّي والاعتماد فقط على التجارب الحسّية والتقليل من قيمة الادراكات العقلية والتحليلات الذهنية إنما هو اتجاه سطحي قصير النظر يعود بالانسان القهقري إلى حدود الحيوانية، ويمكننا مشاهدة هذا اللون من الاتجاه في طول التاريخ بين العامة المتصفة بسطحية النظر والمحرومة من الرشد العقلي الكافي. فبنوا اسرائيل مثلاً بعد أن رأوا كل تلك المعجزات التي كانت كل واحدة منها كافية لتمزيق حجب الظلام المسدولة أمام ابصار الباحثين عن الحق.. فإنهم في طريق عودتهم من مصر صادفوا معبداً للأصنام فاستيقظ في أنفسهم حب الرب المحسوس الملموس.. فأصروا على موسى قائلين: (اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) الاعراف 138، وقالوا لموسى (ع) صراحة (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) البقرة 55، ومن ثم عبدوا العجل متأثرين بهذه الدوافع.. واستغل فرعون سطحية هؤلاء في التفكير وتغاضيهم عن آيات موسى (ع) ومعجزاته الواضحة ولكي يضلل الناس فقد أمر وزيره (هامان) بأن يبني له صرحاً شاهقاً يصعده ليرى أهناك اله في السماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) القصص 38.

ونلقى اليوم أيضا في عصر الانفتاح العلمي وازدهار المعرفة التجريبية العالم الفلاني ذا الاتجاه الحسي أيضا يبحث عن الروح تحت مشرط التشريح، ويعدّ بعض رواد الفضاء عدم وجدانهم الله سبحانه فيما وصلوا إليه من فضاء، دليلاً على صدق المذهب المادي، ولم يستطع التقدم الذي أحرزوه في العلوم التجريبية أن يضيف شيئاً إلى نضجهم العقلي، لكي يدركوا أن الشيء المجرد إذا كان موجوداً فإنه لا يمكن أن يناله مشرط التشريح، ولا يمكن أيضا أن يرى في الفضاء الوسيع من قبل رواد الفضاء.

وإذا بنينا على إنكار كل ما لا نشاهده تحت المجهر أو بوساطة المنظار أو برؤيته في المختبر أو في الفضاء، فكيف نستطيع قبول كثير من الحقائق العلمية اللا محسوسة من قبيل الأمواج الكهربائية المغناطيسية؟ وبأي حاسة من الحواس قد شاهدناها؟

وإذا اختار أحد أن يحكم فقط على أساس الحس والتجربة، فلابد له من السكوت إزاء ما وراء الحس. وأن لا يحكم بشأنها إثباتاً ولا نفياً، وحينئذ لا يحق له أن ينفي احتمال وجود ما وراء الطبيعة..

قال الإمام الصادق (ع) مخاطباً أحد الزنادقة الحسّيين: أقمت بتفتيش كل نقاط الأرض والسماء ثم ما وجدت الله فيها؟ فأجاب: كلا.. فقال له الإمام: إذن كيف يمكنك أن تنكره؟

فأصحاب الاتجاه الحسي إذن لا يحق لهم إنكار وجود الله أو الروح أو الوحي الإلهي أو الحياة الخالدة بعد الموت، ولابد لهم من قبول الاحتمال بشأنها ولابد لهم من تنظيم سيرهم بشكل يصونهم من الضرر اللانهائي المحتمل(32).

وذكر المرتضى في الأمالي أنه: روي عن الإمام الصادق (ع) أنه سأله محمد الحلبي فقال له: هل رأى رسول الله (ص) ربه؟ فقال: نعم.. رآه بقلبه. فأما ربنا جل جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين ولا تحيط به اسماع السامعين.

وفي مجال العلوم الكونية والطبيعية فإن مساهمات الإمام الصادق لم يقصد إليها في الواقع، قصداً مباشراً وإنما جاءت عرضاً خلال مناظراته للعلماء الدهريين.. أي الفلاسفة الماديين، ورداً على تحدياتهم للإسلام.. وقد دلت هذه المساهمة الهامة على حقيقة أن المعرفة لله يؤتيها من يشاء من عباده (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ومصداقاً لقوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ) كما أنها تدل أيضا على أن المعارف الكونية قد يعلّمها الله لمن يشاء من صفوة عباده دون معاناة أو سابق تجربة.. وهذه معان لا يدركها إلا أهل التوحيد الاكبر الذين يفقهون صلة المخلوقات بالخالق عز وجل ومن ثم فإن معرفة الصادق بالعلوم الكونية وأجابته على اصعب المسائل التي وجهها إليه الدهريون تعتبر من هذا الطراز من التوحيد والمعرفة الشاملة بالخالق سبحانه إذ لم يكن لديه معلم للكيمياء ولا معمل يقيم فيه التجارب الطبيعية.. ومع ذلك نجده يشير إلى حقائق علمية لا مناص من تصديقها..(33).

ولعل في الرواية التالية ابلغ دليل على مدى حجية الإمام الصادق في افحام الدهريين والرد عليهم. (فقد بلغه أن الجعد بن درهم جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وحشرات. فقال الجعد: أنا خلقت هذا لأنني سبب تكوينه. فقال الإمام: ليقل كم هي؟ وكم الذكران والإناث إن كان خلقها؟ وكم وزن كل واحدة منها؟ وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجعه إلى غيره...

قال ابن حجر: بلغ ابن درهم كلام الإمام الصادق فأفحم ورجع عن غيه) (34).

واصل الإمام الصادق (ع) هذا العطاء المتنوع بروح وثابة وعقل يقظ متفتح، حتى قدم المنصور.. فتغير الأمر على الإمام في أخريات حياته حين بدأ الاختناق والتشديد على يد هذا الحاكم العباسي الظالم الذي قام بايذاء السادة العلويين وعرضهم لأعنف أنواع التعذيب واقساها، وقتل بعضهم مما لم يشاهد نظيره في زمن الأمويين مع ما كانوا يتصفون به من قساوة وتهور. (مارس العباسيون القتل الجماعي للعلويين وذلك بسجنهم في سجون مظلمة وتعذيبهم والقضاء على حياتهم.. كما إنهم قاموا بدفنهم وهم أحياء في أسس الأبنية والجدران) (35).

فالمنصور وقبله وبعده أسلافه وأحفاده من أمويين وعباسيين كانوا يرون في آل البيت خطراً يهدد كيانهم بالزوال، لما كانوا يرون، فيهم من الثورة والنقمة على الحكام لوقوعهم في مفارقات تتنافى مع صميم مبدئهم فكانوا لذلك لا يألون جهداً في العمل على الحد من نفوذهم بابعاد اكبر عدد ممكن من الناس عنهم. وكانت لهم إلى ذلك وسائل وطرق قد يكون من أيسرها تعريض ائمتهم للمواقف المحرجة بأمل النيل منهم وكسب بعض الاعتبارات الزائفة كي يتسنى لهم أن يصولوا بذلك على اتباعهم.. كموقف المناظرة مع ابي حنيفة السابق ذكره. لكن الذي حدث هو العكس تماماً فتصريح أبي حنيفة وبعده مالك بن انس وامثالهما من كبار العلماء في تلكم العصور كان كافياً لان يجمع القلوب على هذا الإمام العظيم.

لقد جرت الرياح على عكس هوى المنصور مما ضاعف من خوفه وعمل على تقليص نفوذ الإمام وهو ما فعلته كل السلطات السابقة واللاحقة ولو باستعمال الشاذ من الأساليب كتشويه المذهب بالدس والكذب عليه وكم افواه معتنقيه عن التبليغ له وملاحقة دعاته ومؤيديه بتعريضهم لأعظم الأخطار كالقتل والسجن والتشريد إلى غير ذلك من صور التعذيب والتنكيل مما عرفه تاريخ تلكم العصور..

لقد اصدر المنصور امراً باحضار الإمام الصادق من المدينة، وكان قد احضر إلى العراق مرة بأمر السفاح العباسي، وقبلها إلى دمشق بأمر هشام بن عبد الملك الأموي مع أبيه.. وبقي الإمام في بغداد مدة من الزمن تحت المراقبة وقد عزم المنصور على قتله وتعرض لايذائه وفي نهاية الأمر سمحوا له بالعودة إلى المدينة فرجع وقضى بقية عمره هناك مراعياً التقية، منعزلاً في داره حتى استشهد مسموماً بأمر المنصور..

وبعد وصول نبأ استشهاد الإمام إلى المنصور أمر واليه في المدينة أن يذهب إلى دار الإمام بحجة تفقد أهله.. وطالباً وصية الراحل ليطلع على خليفته من بعده كي يسهل القضاء عليه وقتله.. وكان المنصور يستهدف من وراء ذلك القضاء تماماً على موضوع ومسؤول الإمامة والتشيع معاً.. (ولكن الأمر كان خلافاً لتآمر المنصور.. فعندما حضر الوالي وفقاً للأوامر المرسلة إليه قرأ الوصية، فرأى أن الإمام قد أوصى لخمسة.. الخليفة نفسه ووالي المدينة وعبد الله الأفطح ابن الأمام الاكبر وموسى ولده الأصغر وحميدة ابنته وبهذا باءت مؤامرة المنصور بالفشل) (36).

الهوامش:

1 - الحنفي البسطامي، مناهج التوسل، 106 - رسالة اصول الدين للطباطبائي: 280.

2 - ومضات من حياة الإمام جعفر الصادق، 26.

3 - الشيعة والسنة في الميزان، د. حامد حفني، 139.

4 - الشيعة والسنة في الميزان، 132-135/ من مقالة للدكتور حامد حفني داود.

5- بحار الأنوار، ط 1333، هـ13/135-168.

6 - دوايت سن - عقيدة الشيعة، 132.

7 - أمير علي، مختصر تاريخ العرب، 209.

8 - الشهرستاني، الملل والنحل، 5/334.

9 - عبد الله فياض، تاريخ الامامية، 150.

10 - الطوسي، الرجال، 31.

11 - المفيد، الارشاد، 249.

12 - أصول الكافي للكليني، 1/53.

13 - بحار الانوار، ج1.

14 - محمد علي الحسني، رسالة اصول الدين، 277.

15 - الطوسي، الأمالي، 95.

16 - الكليني، الكافي، 81.

17 - الطوسي، الرجال، 56.

18 - ارشاد المفيد، 254 - الفصول المهمة، 204.

19 - حسن الصفار، أئمة أهل البيت، 63.

20 - محمد علي الحسني، رسالة أصول الدين، 278.

21 - ابن خلكان، 1/125.

22 - محمد باقر الصدر، المدرسة الاسلامية، 183.

23 - في سبيل الوحدة الاسلامية، 75.

24 - الآلوسي في تحفته، 8، ط1.

25 - محمد امين غالب، تاريخ العلويين، 140.

26 - الطباطبائي، رسالة أصول الدين، 280.

27 - جامع اسانيد أبو حنيفة، 1/222.

28 - في مناقب أبو حنيفة، 1/173.

29 - محمد تقي الحكيم، قصة التقريب بين المذاهب، 10.

30 - تهذيب التهذيب، 2/104 - الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، 4/90.

31 - محمد رضا المظفر - عقائد الإمامية، 24.

32 - محمد تقي مصباح، محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، 36.

33 - الشيعة والسنة في الميزان، 141.

34 - لسان الميزان لابن حجر، 2/105.

35 - اثبات الوصية، 142.

36 - الشيعة في الإسلام، محمد حسين الطباطبائي، 184.