النبأ العدد 53 شوال 1421 كانون الثاني 2001

 

 

c

 

حصاد الافكار في شهر    

منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني

العـــدوانية والسلوك الأجتمـــاعي

إتجـــاهات جديــدة في فهــم الســـلوك الأخلاقي

تعرضت هذه الدراسة لثلاثة من الاتجاهات الحديثة في فهم السلوك الاخلاقي، الأولى نظرية الأهداف الشخصية والسلوك الاخلاقي، مستعرضة احدث النتائج بالظروف المحرضة للعدوان سواء كانت شخصيه نفسية أم محيطية وتاريخية، والاتجاه الثاني يمثل مقاربة جديدة كنظرية موحدة لفهم العدوان والعنف ولفهم الغيرية أيضا، والاتجاه الثالث يمثل مقومات السلوك الاخلاقي كما وضعها ريست في نظريته الجديدة.

الاتجاه الأول...

نظرية الأهداف الشخصية في السلوك الأخلاقي (السلوك المؤيد للمجتمع)

لقد عمل ستوبstaub وزملاؤه طوال سنوات مضت في بناء نظرية الأهداف الشخصية وتهدف هذه النظرية إلى تطوير فهمنا للسلوك الاخلاقي والتنبؤ به.

قديما، كان ينظر إلى السلوك الاخلاقي على أنه شيء مستقل ومنفصل عن السلوك الاجتماعي باشكاله المختلفة، إلا أن الناس لا يسلكون سلوكا اخلاقيا أو مؤيدا للمجتمع إلا للافادة أو لبلوغ أهداف معينة.

فالسؤال: كيف يتم انتقاء الأهداف ؟ ثم ما الذي يحدد استمرارية هذه الأهداف ؟ هذا ما ركز عليه ستوب في دراسته.

الأهداف الشخصية.. دور الدافعية: تفترض هذه النظرية أن الناس متعضيات هادفة تطور دافعيات متنوعة تصبح اهدافا شخصية خلال النمو، وعندما تنشط هذه الأهداف أو تحرض يمكنها أن تؤثر بشدة في السلوك حيث تلعب دورا وظيفيا كناظم للصفات الشخصية المؤثرة في السلوك.

إنها تتضمن أيضا تفسير المواقف والأحداث، كما تقود إلى تفسيرات تحرض الحالة الانفعالية والوجدانية بحيث تزيد من الرغبة في بلوغ الهدف، كما إنها تدفع الشخص إلى مزيد من الممارسات لبلوغها.

إن الأهداف الشخصية يمكن اثارتها وتنشيطها عن طريق العوامل والخصائص البيئية سواء في ذلك البيئة الداخلية الذاتية للشخص (البناء النفسي، والأفكار والتخيلات) أو البيئة الخارجية.

ويتصف السلوك الشخصي المؤيد للمجتمع - وفقا لهذه النظرية - بالصفات التالية:

1- توجه إيجابي نحو الآخرين وتقويم إيجابي للكائن الإنساني.

2- اهتمام زائد بالخير العام.

3- الشعور بالمسؤولية الشخصية نحو الصالح العام.

الاتجاه الثاني...

نحو نظرية موحدة لفهم العنف (السلوك المناهض للمجتمع) والغيرية (السلوك المؤيد للمجتمع)

يعتبر إشباع الحاجة وبلوغ الهدف سلوكاً طبيعياً سواء كان على مستوى فردي أو اجتماعي. أما عدم بلوغ الهدف أو إشباع الحاجة فيدفع إلى سلوك غير طبيعي.. هنا ينشأ العنف أو العدوان. لذلك شدد بعض علماء النفس أمثال دولارد وميلر على أن العدوان ينتج دوماً عن حالة من الاحباط والفشل في بلوغ الأهداف.

إن دراسة الشروط المحرضة للعنف والعدوان تقود إلى دراسة الأفراد الذين يعتبرون كبش الفداء. وهؤلاء الأفراد يختلفون في طبيعتهم عن المجتمع الأصلي، وغالباً ما يتم انتقاؤهم استناداً إلى تبخيسهم في المجتمع، وقد يكون هذا التبخيس والحط من قيمتهم نتيجة للظروف الاجتماعية الموجودة التي تجعل هذه الفئة ضعيفة وتشعر بالنقص.

من الآثار النفسية لتحريض العدوان

1) بينت مختلف الدراسات انه عندما يتعرض الأفراد لتهديد أو احباط فانهم يحصلون على الرضا حين يتأذى الأفراد الذين أثاروهم واحبطوهم.

2) مشاعر الفشل أو عدم القدرة على بلوغ الأهداف الذاتية، قد تنتج عن وجود مثل هذه الظروف المحرضة للعدوان، والنتيجة هي ادراك الشخص للأذى وتفسيره للهجوم الذي تلقاه واثر ذلك في مفهومه عن ذاته.

3) يقود السلوك العدواني إلى نوع من التوازن المتخيل عند الشخص.. حين يؤدي العدوان أو العنف وظيفته كحاجة انفعالية وتحقيق مكاسب اجتماعية.

4) لقد اجريت دراسات متعددة لتحديد خصائص الشخصية التي يمكن أن تعمل على إثارة العنف والعدوان، وتوصلت إلى النتائج التالية:

1- إن الاحباط المزمن وحالة عدم الرضا قد يجعلان الناس اكثر قابلية للعدوان..

2- إن عدم الثقة في الآخرين أو التقويم السلبي لهم، يساهم في تحريض السلوك العدواني..

3- التمتع برؤية أذى الآخرين ومعاناتهم يعتبر خاصية نفسية أخرى تعمل على تحريض العدوان أو السلوك اللااخلاقي..

الاتجاه الثالث...

نظرية المكونات الرئيسية للسلوك الأخلاقي..

يمكن وضع العمليات البنائية المكونة للسلوك الأخلاقي في أربعة مكونات رئيسية هي:

1) تفسير الموقف وتحديد المسألة الخلقية (ويدخل فيه التعاطف الوجداني، ولعب الدور، والتأثير بسلوكيات الآخرين).

2) تقويم سير الفعل الأخلاقي لتبيان الطريقة التي تساعد في إطلاق أحكام القيم وتقرير ما يجب على الفرد فعله (وتدخل فيه عملية اتخاذ القرار، وتكامل القيم، وآليات الدفاع).

3) تنفيذ خطة الفعل الأخلاقي (ويدخل فيها الانا وعمليات تنظيم الذات).

فإذا كنا نملك معلومات عن هذه العمليات الأربع بالنسبة لشخص ما فإننا نكون قادرين على التنبؤ بسلوكه الأخلاقي..

مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 114-115

العنـــف الزوجــي

اختفاء 60 مليون امرأة عن التعداد السكاني في العالم سنوياً، قضية لم تقيد ضد مجهول، ولكن وفقاً للمؤشرات والاحصاءات العالمية قيدت ضد العنف، هذا ما تمت الإشارة إليه من قبل تقرير منظمة الأمم المتحدة (اليونيسيف) لهذا العام (2000)، إذ ثبت أن امرأة واحدة من بين اثنتين تتعرض لانتهاكات جسدية وجنسية داخل بيتها..

بينما عدد ضحايا العنف في أوربا من النساء قد ارتفع حتى فاق ضحايا الحوادث المرورية والأمراض الخطيرة (السرطان) في أوربا قاطبة سنوياً وذلك وفقاً لمصادر برلمانية اوربية.

كما إن وباء العنف انتشر في اتجاهات الأرض قاطبة حتى بلغ الصين والهند، إلا أن الهند تفردت بنوع من العنف تعاني منه النساء دون سواهن على مستوى العالم.. فظاهرة (حرق العروس) منتشرة في الهند حيث تقتل المرأة التي يعجز ذووها عن دفع المهر لأهل العريس، وقد فاق ضحايا هذه الظاهرة من النساء ضحايا النزاع المسلح في البنجاب..

ولأن العنف وباء عالمي افرزته الظروف والمتغيرات الاقتصادية التي مست كل شيء وحتى كيان الأسرة وافرادها.. فكان طبيعياً أن يقتحم الأسرة العربية باعتبارها جزءاً من هذا النسيج العالمي..

في هذا الصدد وحيال غياب 60 مليون امرأة من سطح الأرض بسبب عنف الرجل، فإننا اليوم لا نستغرب ارتكاب المرأة للعنف بشكل حاد ومفزع ضد الازواج وكأنه قد جاء انتقاماً من إرث وركام العنف الجاثم على صدور النساء سنين أو عبر العصور..

عن الأسباب التي افضت إلى بروز العنف كظاهرة على المستوى الاجتماعي والأسري ذكر الأخصائي النفسي علي فقيه أن العنف كسلوك لم يعد مستهجناً أو مستغرباً في مجتمعاتنا العربية وذلك في ظل تكرار صوره، مع الأطفال والأخوات والزوجات، فالعنف اصبح جزءاً من ممارسة الرجل من منطلق واقعه الاجتماعي الذي تربى عليه، والعنف لا يعني بالضرورة الضرب.. وإنما يمتد ليأخذ اشكالاً متعددة تبدأ من الاهمال والتجاهل والحرمان، إلى أن يصل إلى الاعتداء الجسدي، ورغم تمثل العنف الزوجي في صور كثيرة في مجتمعاتنا العربية، إلا إننا لا نستطيع تلمسه في شكل رقمي أو إحصائي وذلك لاعتباره من الأسرار العائلية.. إلا ما خرج منه إلى الشرطة أو المحاكم أو غيرها..

ويرى فقيه أن للتعليم دوره في تفادي العنف الزوجي، إلا إذا كان الزوج اقل في الدرجة التعليمية من الزوجة مما يدفعه لتعويض النقص - احياناً - بالتفوق العضلي.

كما أن لعمل المرأة دوره في التخفيف من حدة التصادم مع الأزواج نظراً لمحدودية وقت المرأة الذي عادة ما تستثمره بعد انتهاء دوامها.. في رعاية اطفالها وتأمين احتياجات اسرتها.. فلا يوجد لها مجال للمهاترات أو للدخول في مصادمات من أي نوع مع الزوج..

وحذر فقيه من تأثير المخدرات والمسكرات التي تدفع بالزوج لايقاع الأذى النفسي والجسدي على زوجته وهو فاقد للوعي. أما الدكتور احمد أبو العزايم مستشار الطب النفسي وعلاج الإدمان بالاتحاد العالمي للصحة النفسية فقد كشف مزيداً من الحقائق المذهلة على المستوى العالمي موضحاً بأنه قد ثبت احصائياً تعرض امرأة من بين ثلاث للعنف وللقتل كل 6 ساعات مما يعكس عدم احترام الرجل لحقوق المرأة عامة مع انعدام الوعي الاجتماعي بهذه الحقوق.. بخلاف عدم وجود قوانين لحماية المرأة من العنف الزوجي والأسري وخاصة في المجتمعات.

ومما ساعد على تفاقم مشكلة العنف عربياً انتشار الأمية والفقر وزيادة معدلات البطالة التي تترك اثرها على الحياة الزوجية والأبناء بصفة خاصة.

وعن الآثار المترتبة على العنف الجسدي والنفسي الذي تتعرض له الزوجة من قبل زوجها على صحتها ونفسيتها وعلى اطفالها أشار د. أبو العزايم إلى ما ذكره الباحثون بجامعة هوبكنز بان ضحايا العنف اكثر عرضة للمشاكل الصحية التي من بينها الألم المزمن وسوء استخدام العقاقير والاكتئاب.

كما إن ارتفاع الضغط وأمراض الدم يأتي كمؤشر لما تتعرض له المرأة في حياتها من عنف سواء في طفولتها أو بعد زواجها.

أما الأطفال الذين يشاهدون ممارسات العنف من قبل الأب ضد والدتهم فإنهم عرضة في الغالب للإصابة بالاضطرابات النفسية والعاطفية مع اضطرابات في النوم وبالفشل الدراسي، إضافة إلى ما قد يصدر عنهم من أعمال عنف في سن الشباب وبعد الزواج..

جريدة الوطن: العدد 55

رؤيـــة عربيـــة مـن منظـــور علـــم الاجتـــمـاع النـقــدى

تأتي الألفية الثالثة في ظل تغيرات عميقة وسريعة شملت كثيراً من المجتمعات الإنسانية نتيجة للعولمة Globalization أو الكوكبية..

وباعمال العقل السسيولوجي في معطيات تلك التغيرات، على ضوء حصاد تاريخ القرن العشرين، والملاحظات الامبريقية المتنوعة ذات الصلة، يمكن رصد مجموعة من التحديات والآمال التي ترتبط بفرص متاحة لمن يعيها ويعد نفسه للتفاعل الإيجابي معها..

أولا:

بعد دخول الرأسمالية العالمية في مشكلات منها: الانكماش والركود والتضخم وانحسار الهيمنة على مجتمعات الكوكب، كان عليها أن تغير من اساليبها لتجديد فرصها الضائعة.. فكان لها في هذا التطوير العلمي والتكنولوجي أن طورت قوى الإنتاج وزيادة إنتاجية العمل.. وهو تطوير صاحبه تغير في أشكال علاقات الإنتاج الرأسمالي التي تبلورت من خلال الشركات المتعددة الجنسية وقد لجأت تلك الشركات إلى تكثيف المدخلات التكنولوجية على حساب حجم المشروعات وأعداد العمال، وإلى الانتشار الجغرافي للسيطرة على الفوائض والاسواق، من خلال انتشار فروع لها في الشمال والجنوب، والسيطرة على الأسواق بتنويع قاعدة المستهلكين.. وقد صاحبت نشاطاتها وتفاعلاتها مجموعة من التداعيات الاجتماعية والسياسية وفي الوقت نفسه صنع فرص الحركة التي لم تدرك متطلباتها..

ثانياً:

التغير في الكثير من أوضاع النظم والمؤسسات والقوى الاجتماعية والسياسية وعلاقاتها في الشمال والجنوب.

1) تغير الأدوار التقليدية الموروثة للدولة القومية Nation-State وخصوصاً أدوارها الاقتصادية، في ضبط الاستثمارات وتوجيهها.. ولهذا تزايدت معدلات الافقار والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لكثير من الفئات الاجتماعية.

2) أوجدت هذه التغيرات متفاعلة مع أخرى بدائل أتاحت فرصاً للتأكيد على أهمية المكون الاجتماعي في التنمية وضرورة المشاركة والتمكين لتلك الفئات فأتاحت فرصاً للتنشئة على الممارسة الديمقراطية، وتطوير آلياتها وقيمها مثل: المكاشفة والمحاسبة في مواجهة الفساد، وضرورة المشاركة في مواجهة تركز السلطة، وتدعيم الحقوق الاجتماعية والسياسية..

3) تفكيك بعض التكوينات الاجتماعية السابقة مثل: الأسرة والقبيلة والطبقة وما إلى ذلك لصالح أشكال وصيغ جديدة، مثل منظمات المجتمع المدني وجماعات المصالح والضغط، نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل، مثل الكثافة التكنولوجية أو تباعد أماكن العمل، وتغير العلاقات والقيم من المحسوبية والعاطفية والخصوصية إلى العملية والعقلانية والانجاز الفردي، وهي تغيرات اسهمت فيها ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات وتنميط قيم الإنتاج والاستهلاك.

وإذا كان هذا التفكك في مراحل الانتقال تصاحبه مشكلات اجتماعية مثل: التفكك الاسري، والعنف المادي والرمزي، والفردية وانتشار تعاطي المخدرات، فإنه من ناحية أخرى ينبه المجتمعات التي تريد أن تكون فاعلة في عالم التنافس المحموم إلى أن تعيد النظر في ركائز التنظيم المجتمعي لتوظيف التنوع الناتج عن التفكك في إطار وحدة القطر - والأمة وتبلور التجمعات الإقليمية على أساس المصالح المتبادلة للمشاركة والتعددية السياسية.

4) وإذا كانت الثورة التكنولوجية المتسارعة قد غيرت مفاهيم الموارد الطبيعية نتيجة لتزايد تصنيع مواد جديدة اكثر رخصاً وأفضت إلى انفجار معلوماتي جعل المعلومات قوة إنتاجية متزايدة التوظيف، ومن ثم تحقيق قيم مضافة إلى الاقتصاد، وضاعفت ثورة الهندسة الوراثية من الإنتاج النباتي والحيواني، فهي تؤكد جميعاً على دور العقل الإنساني في الفعل المطرد على صعيد الإنتاج..

ثالثاً:

إن الانصياع والتكيف السلبيين للكوكبية - العولمة - ليس قدراً محتوماً كما يشيع من أدلجوا العولمة، فثمة فرص للحركة، تحققت منها مقادير واضحة تظهرها تجارب الهند والصين والبرازيل وبعض دول جنوب شرق آسيا، وهي حافلة بالدروس والخبرات لمن يريد أن يستفيد.. كما أن سقوط الإمبراطوريات التي هيمنت على الكوكب عبر عدة عقود منذ القرنين التاسع عشر والعشرين، والنضال السياسي في مواجهتها يقدم خبرات ودروساً، إذا ما استلهمت في سياقات متغيرة يمكن أن تغير من الهيمنة السائدة على العالم في قلب مركز النظام الرأسمالي..

مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد 28، العدد 2

الحضـــارات حـــوار أم صـــراع

أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتبار سنة 1995م عاماً للتسامح وسنة 2000م لثقافة السلام وسنة 2001م عاماً للحوار بين الحضارات. وهي دعوات إنسانية في ظاهرها العام وربما لا تعكس النوايا الحقيقية لمطلقيها، وفي كل الأحوال فإن مثل تلك الدعوات وغيرها، لا تقلقنا بالقدر الذي تقلق غيرنا، وتجد لها صدى، ربما لا تجده عند غيرنا من الأمم وذلك:

1- لأن العرب في ماضيهم لم يعرفوا صراع الحضارات، فقد كانت الجزيرة العربية فضاء مفتوحاً للثقافات المتجاورة، اليهودية والمسيحية والفارسية والحبشية.

ولقد جاءت دعوة القرآن الكريم صريحة، واضحة في الدعوة للتعارف (الحوار): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات 49: 13.

2- (لم تعظم حضارة حضارات أخرى كما عظمت الحضارة العربية، الحضارات الأخرى، فأرسطو هو المعلم الأول وجالينوس فاضل القدماء والمتأخرين وسقراط أحكم البشر) (1).

3- العرب في صدام الغرب معهم (حروب الفرنجة 1096 - 1291م) كانوا في الحضارة أقوى مما كان الغرب فيه، فحدث بين الاثنين ما حدث بين روما وأثينا، لكن الفرق أن الغرب استمرّ في التواصل الحضاري مستفيداً من العرب حيث يرى د.حسن حنفي: (إنه بموازاة الغزو العسكري في أكبر عملية سلب في تاريخ الحضارة، قام الغرب بتأسيس علوم جديدة ( الأنثروبولوجيا - الاثنولوجيا - الاثنوجغرافيا) لتبرير هذا الصراع تحت عناوين ونظريات مختلفة، مثل التبادل الثقافي، التفاعل الثقافي، التداخل الثقافي. وهي في حقيقة الأمر ليست سوى غطاء نظري يهدف إلى محو ثقافة المركز لثقافات الأطراف والقضاء عليها، بينما حدث الانقطاع الحضاري لدى العرب بعد سبعة قرون من التواصل والازدهار)(2).

4- إن الغرب لم يكن يشكل تحدياً حضارياً للعرب حتى بدأت حروب الفرنجة وكان الأمر معكوساً، فالعرب هم الذين كانوا المشكل الحضاري للغرب حيث يرى صموئيل هنتنغتون -صاحب أطروحة صدام الحضارات - نفسه، إنه (ابتداء من سنة 1500م بدأ التوسع الضخم للغرب مع جميع الحضارات الأخرى وقد تمكن الغرب أثناء ذلك من الهيمنة على أغلب الحضارات وإخضاعها لسلطته الاستعمارية وفي بعض الحالات دمّر الغرب تلك الحضارات). وإن الصلات العربية الحضارية مع الخارج كانت تمثل أساساً في العلاقة مع فارس من جهة ومع اليونان من جهة أخرى وبدرجة أقل مع الصين.

إذن لماذا يريد الغرب، الصراع بديلاً عن الحوار؟!.

هناك شبه إجماع بين مختلف دارسي علاقة الشرق بالغرب على (أنها علاقة إشكالية ففضلاً عن كونها مثقلة بتركة تاريخية طويلة من الصراعات والمواجهات تمتد أكثر من ألفي عام فإنها تنطوي على أبعاد إيديولوجية تتصل بالفكر والدين والتصورات الكبرى في الحياة الإنسانية، وترتبط على نحو دقيق بمصالح دنيوية آنية ومستقبلية وتخضع لرؤى مستقبلية متباينة تخفي الكثير من مواقف كل طرف في هذه العلاقة إزاء الطرف الآخر.

ومع التحول الخطير الذي شهده عالمنا المعاصر باتجاه القطب الواحد، يطرح بعض المفكرين الغربيين ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية مفهوم (صدام الحضارات) مبدأ يحكم التطورات المستقبلية التي يرغبون في تحققها وتحويلها إلى واقع يعزز الهيمنة الأمريكية على العالم وأمركته وعلى الرغم مما يعتور هذا المفهوم من مغالطات نظرية وما ينطوي عليه من تجاهل فجّ لحقائق التاريخ الإنساني فإنه يظفر برواج مغرض في دوائر صنع القرار في الغرب -وخاصة في واشنطن - التي ترغب أن يسود العالم مناخ من المواجهات والصراعات تؤدي فيه دور الحَكم والمقرر وتفيد من حسم هذه الصراعات والمواجهات بحلها بطريقتها الخاصة وهو حل يكفل مصالحها الدنيوية ويحقق مراميها الغريبة والبعيدة ويفرض في نهاية المطاف قيمها التي تسوغ سيادتها وهيمنتها على سائر العالم(3).

إن قسماً كبيراً من المهتمين بالموضوع داخل المنظمات الدولية - كما يشير د. غليون - يعتقد أن الحوار بين الحضارات يمكن أن ينتج تفاهماً بين الحضارات المختلفة أو ثقافة عالمية واحدة مشتركة قائمة على استيطان التعددية وقبول الاختلاف في المرجعية الثقافية وقد تم اختراع الاسم المناسب لهذه الثقافة وهو ما يدعونه (ثقافة السلام)، والتي تستند برأيهم إلى ثلاثة مفاهيم متداخلة ومترابطة هي:

1) السلام.

2) الحوار.

3) التسامح.

وليس هناك من عوائق من جانب العرب تعيق تلك الأسس، فالسلام بالنسبة لنا هو في صلب العقيدة الدينية في جناحيها: المسيحي والإسلامي، فالأرض التي اختارها الله موطناً أولياً لأقدم أنبيائه، لا يمكن أن تكون أرض حرب بل أرض سلام، ولهذا نجد أن السلام يشكل طريقة التخاطب الاجتماعي (السلام عليكم) ونجد أيضا أن من أسماء الله الحسنى، السلام وليس الحرب، فنسمي الأولاد باسم (عبد السلام)، وهو أمر تنفرد به شعوبنا، حباً بالسلام وتعميقاً له في نفوس الأجيال.

وكذلك الأمر بالنسبة للحوار والتسامح، فالتسامح في المفهوم العربي، وفي حقيقته هو ظاهرة حضارية وفضيلة أخلاقية وهو جزء من العدل، وبالتالي (فهو يتيح حق الاختلاف والخلاف، ففلسفة التسامح لا تعني الاعتراف بما يقوله المرء بل باحترام ما يقوله) (4).

ويتجلى التسامح في أروع وأرقى صوره في عالمية الدعوة، فالإسلام دعوة عالمية وكذلك المسيحية:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء 21: 107.

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) البقرة 2: 256.

(اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) إنجيل مرقس 16: 15.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس 10: 99.

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) النور 24: 22.

(إن أخطأ إليك أخوك فوبخه وإن تاب فاغفر له وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً أنا تائب فاغفر له ) إنجيل لوقا 17: 3 -4.

هذا على مستوى النص الديني، أما على مستوى الحديث:

عن الرسول الكريم (ص) جاء: (ليس منا من دعا إلى عصبية)، وفي خطبة الوداع (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). وفي رسالة بولس إلى أهل غلاطية:

(ليس هناك يهود وإغريق ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى فكلهم سواء في يسوع المسيح). وفي رسالته إلى أهل كورنثوس: (المحبة لا تسقط أبداً، اتبعوا المحبة).

وإلى أن تستقيم الرؤية الغربية للأمور وتتحقق العدالة الاقتصادية بين مجلس إدارة العالم (الدول الصناعية السبع) وبقية العالم فإن الحديث عن حوار الحضارات يصبح نوعاً من اللعب الفكرية المجردة الترفيه، ويراد منها التعمية على الأسباب الحقيقية للصراع والتي جعلت من الغرب ينفق على كلابه وقططه وعطوراته ما يكفي لإطعام شعوب العالم الثالث الفقيرة!!.

مجلة النهج - العدد60/ 2000م

الأمـــة والدولـــة: الرهان الجـديــد

على خلفية المتغيرات العالمية، ومسارات التطور السريع الذي يجري في المعمورة على مختلف الصعد والمستويات. في هذه المرحلة التاريخية المليئة بالتحولات والاستحقاقات التي تختلف أشكالها ومضامينها على مجمل ما واجهته دول العالم العربي والإسلامي خلال المراحل السابقة.

 

وحتى لا تزداد أزمات الواقع العربي والإسلامي سوءً واستفحالاً، نحن بحاجة إلى جهد متواصل لاستيعاب المتغيرات وإدراك المتطلبات الجديدة. وهذا الاستيعاب هو نتيجة استحقاق وسعي متواصل، وثمرة تحرر وفعل نوعي في مختلف مجالات الحياة. فالاستيعاب العميق لمتطلبات اللحظة التاريخية، هو الخطوة الأولى في مشروع وقف الانحدار وصناعة المنجز الحضاري. لذلك نرى أن الوقت قد حان ليقتحم المسلمون المعاصرون فضاء العمل السياسي المدني والسلمي، الذي يأخذ على عاتقه تعميق متطلبات التحول الديمقراطي في الوطن العربي والإسلامي.

ومن الأهمية في هذا الإطار، الاعتقاد أن فض الاشتباك بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، هو من ضرورات التحول الديمقراطي - السلمي، وذلك لأن استمرار المماحكات، وتعاظم عوامل التوتر بين الطرفين، يؤدي فيما يؤدي إليه إلى اشتعال الحروب الداخلية، واستفحال نزعات العنف والقتل والكراهية والتعصب، وتعاظم خيارات التطرف والاستئصال. ولا ريب أن هذه المظاهر والصور، كلها مناقضة لمتطلبات التحول الديمقراطي - السلمي. وليس من شك أن بقاء الوضع العربي والإسلامي على حاله، يعني فشل المشروع التاريخي للدولة الوطنية الحديثة، وإخفاقاً لكل النخب السائدة سياسياً وثقافياً واقتصاديا واجتماعياً. فالإخفاق شامل، وأسبابه وموجباته متوفرة في كل الدوائر والمؤسسات والحقول. وأمام هذا الإخفاق، نحن بحاجة إلى عملية إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل، لأنها المدخل الفعال لتفعيل هذه المجتمعات وإعادة حيويتها وتخليصها من توتراتها الداخلية.

وفي سبيل الوصول إلى مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي نؤكد على الأمور التالية:

الحوار بين النخب

1- ضرورة الحوار بين النخب في العالم العربي والإسلامي، وتوطيد أسباب التواصل الثقافي والسياسي بينها. ولا شك أن تدشين مرحلة الحوار الجاد بين نخب الأمة، سيؤدي إلى إرساء قواعد وتقاليد للتواصل الثقافي والسياسي. ومن الطبيعي أن تكريس خيار التواصل يفضي إلى نضج ثقافة سياسية واجتماعية، ذات طابع ديمقراطي وسلمي. وهذا يساهم مساهمة كبيرة في إرساء قواعد وثقافة مواتية للمصالحة بين الدولة والمجتمع.

من الانغلاق إلى الانفتاح

2- دائماً النمط الاجتماعي المغلق، والذي لا يمد جسور التعارف والانفتاح مع الآخرين، يتحول إلى نمط اجتماعي يحتوي أو يتضمن الكثير من عوامل الخطر والتقسيم الاجتماعي، لأن هذا النمط المغلق يغذي نفسه بعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرين كمبرر دائم لاستمرار عقلية الكانتونات الاجتماعية. ونظرة واحدة إلى خريطة الدول العربية الاجتماعية لنرى كيف أن عقلية الكانتون والقطيعة الاجتماعية مع الآخرين هي القاعدة الصلبة التي كرست مفهوم التقسيم والتفتيت الاجتماعي. لهذا فإن السلم المجتمعي، لا يتحقق على قاعدة هذه العقلية التي تصنف وتفرق ولا تؤسس وتجمع. وإنما السلم المجتمعي يتحقق على قاعدة عقلية نبوية، تجمع ولا تفرق وتبحث عن القواسم المشتركة قبل أن تبحث في نقاط التمايز والافتراق.

نحو إجماع وطني جديد

3- إن العالمين العربي والإسلامي أحوج ما يكونان اليوم إلى الإجماع الوطني الجديد، الذي يستوعب جميع القوى والتيارات في أطر منسجمة مع بعضها البعض لمواجهة التحديات والعمل معاً من أجل تنفيذ التطلعات الممكنة، ولا شك أن طريق الإجماع الوطني، لا يمر عبر الاستفراد بالحكم والقوة واستخدام أساليب القهر والإقصاء. لأنها تزيد من التشظي، وتساهم في تنمية العصبيات والعقليات الدوغمائية. لذلك نرى أن بوابة الإجماع الوطني المطلوب، واصطفاف جميع القوى والنخب في إطار مشروع جامع، هو إصلاح الوضع السياسي في المجالين العربي والإسلامي. والإصلاح هنا لا يعني إيجاد بعض الشكليات القانونية والدستورية، أو الإعلان الدائم عن ضرورة الإصلاح والتطوير، وإنما يعني بالدرجة الأولى تغيير وتطوير شروط الممارسة السياسية، وتوسيع دائرة النخبة السياسية، وتأسيس العملية السياسية على قواعد أكثر عدالة والتزاماً بقيم الأمة وخصوصياتها الحضارية والتاريخية. ودون ذلك ستزداد حالات الاغتراب عن الدولة في المجالين العربي والإسلامي، وستتآكل الشرعية وستستشري عوامل الانفجار في المحيط المجتمعي كله.

تجسير التواصل بين النخب والشعوب

4- إن ردم الفجوة القائمة بين النخب السياسية السائدة في المجالين العربي والإسلامي وعموم الشعب العربية والإسلامية، بحاجة إلى توفر الإرادة السياسية الصادقة التي تأخذ على عاتقها ردم الفجوة وإنهاء الهوى المتوفرة في المحيطين العربي والإسلامي. وردم الفجوة ليس خطاباً بلاغياً يتفوه به الزعيم، أو منشوراً يوزعه الحزب السياسي، وإنما هو ممارسة سياسية مستديمة، تستهدف إزالة أسباب هذه الفجوة، وتوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لردم هذه الفجوة عبر عمل سياسي نوعي يشترك في إنجازه نظام الحكم وقوى المجتمع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية..

وخلاصة الأمر: أننا نرى أن هذه العناصر الأربعة، توفر مشهداً تتكامل فيه علاقة وأنشطة الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، وتزول إلى حد بعيد كل أسباب وموجبات التوتر والنزاع المفتوح بين الطرفين. وأن هذه العناصر بمثابة البوصلة الضرورية لمصالحة الدولة والمجتمع والخروج من تداعيات التوتر الشاملة.

مجلة الكلمة: العدد 27

آليـــة عمـــل المقـاومـــة اللاعنفيـــة

تفكيك سيكولوجي في كيفية تحرير الإرادة من علاقات القوة

يذكر (دانييل جولمان) في كتابه (الذكاء العاطفي) أنه كان متوجهاً إلى شارع ماديسون في مدينة نيويورك وكان يوماً شديد الحر والرطوبة من أغسطس ووجوه الناس عابسة متجهمة، وعندما صعد إلى الحافلة استقبله رجل أسمر اللون في منتصف العمر وعلى وجهه ابتسامة دافئة وحيّاه بود: مرحباً كيف حالك؟ ثم لاحظ أنه يفعل نفس الشيء مع كل من صعد الباص وكانت ملامح الدهشة تبدو على وجه كل راكب، ولأن الجميع استغرقهم المزاج الكئيب فلم تحظ تحية السائق بالرد إلا من عدد محدود منهم. يقول جولمان: ومع تقدم سير الحافلة وسط الزحام الخانق إلى وسط المدينة حصل تحول بطيء وسحري فلم يك السائق ينفك عن التعريف بكل محطة مع التعليق اللطيف على الأبنية والناس وإطلاق النكات، لقد تغيرت نفسية الناس فعلاً مع الحديث فلم ينزل أحد إلا حياه بود وحب. إن هذه القصة تحكي الأثر المتبادل للعواطف. ويدخل الحب والعنف تحت هذا القانون فالعواطف تولد مثيلاتها والعنف يفجر مزيداً من العنف. وأمام أخبار المذابح المروعة في السودان والجزائر في ديسمبر من عام 2000 للميلاد يجب وضع (ظاهرة العنف) تحت التشريح السيكولوجي.

(أولاً) العنف لا يحل المشكلات، بل يزيدها تعقيداً، لأن كل دورة تنتهي بتحطم أحد الطرفين الذي يستعد للجولة المقبلة بطاقة أعلى عن ما بداخلها مما يحرض الغالب على التسلح بالأفضل، ومهما كانت النتيجة فإن هذه الدورة المجنونة لا تكف عن الاتساع والتدمير وتبادل الأدوار. وهذا يفتح الوعي على فهم الحديث الذي يحكي قصة الرجلين الذين احتكما إلى السيف، كان الصحابة يرثون القتيل ويرونه مظلوماً فلا يستوي في الميزان مع القاتل: (هذا القاتل فما بال المقتول؟)، فردتهم الحكمة النبوية إلى فهم (الآلية النفسية) لولادة الحدث بأنهما كانا ينطلقان من نفس القاعدة (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، وقضية القاتل والمقتول هنا هي من سبق ويكن لأي طرف أن يأخذ مكان الآخر، ولم يكن نهي المسيح (ع) للحواري بطرس أن يغمد سيفه من فراغ، (من أخذ السيف بالسيف يهلك).

وفي الدراسة المشوقة التي أجراها المؤرخ البريطاني توينبي عن التاريخ ودورات العنف والعنف المضاد أن ظاهرة الحرب بين الدول كانت تأخذ تسلسلاً متتابعاً من الفعل ورد الفعل بحيث أن كل جولة كانت أشد هولاً في إيقاعها من سابقتها، وهذا اللولب الصاعد من تراكب القوة ومضادها أوصل العالم إلى حافة الانتحار الكامل لكل الأطراف. وجرت القاعدة أن من يخوض الحرب لا يقدم عليها وهو يريد الانتحار.

(ثانياً) العنف مشحون بالمشاعر السلبية التي تثقل النفس وهي ضارة بالعضوية. ليسأل الإنسان جسده في حالات التوتر هل هو بخير؟ العنف يقوم على التوتر الذي يعصر المعدة ويضخ الأدرينالين إلى الدم فيرفع الضغط ويحبس المثانة.. إلخ. أما مشاعر السلام فهي تغمر الروح بفيض من السعادة الداخلية كما وصفها الشاعر الألماني غوته في أبيات (آلاف من الأقواس تتواثب وتتلاقى من النجم الوضيء إلى الطين الوضيع تتزاحم وتتدافع لتجد سلامها الأبدي وأمنها الأزلي في الله).

جاء في كتاب (الأخلاق إلى نيقوماخوس) لأرسطو: (أن يغضب الإنسان فهذا أمر سهل ولكن أن تغضب من الشخص المناسب وفي الوقت المناسب وللهدف المناسب وبالأسلوب المناسب فليس هذا بالأمر السهل).

(ثالثاً) العنف يقوم على (تحطيم) إرادة الآخر وإلغائه وتصفيته جسدياً بالقتل، وهذا يصلح تفسيراً لتعطل ولادة الديمقراطية في العالم العربي. فالشرط الأول لولادة الديمقراطية هو (تحييد العنف).

وإذا كانت الديمقراطيات الغربية أباحت قتل الحاكم الظالم وإزالة الطواغيت بالعنف، فإن أسلوب الأنبياء لا يعتمد تغيير (اللاشرعية) باللاشرعية، بل بالشرعية. فهذا هو الفرق بين آلية عمل الديمقراطيات الغربية وأسلوب الأنبياء. وهذه الآلية ما زالت غائبة عن الفكر السياسي في العالم العربي ودخلت الأمة في ضباب حالك من الاهتداء إلى آلية واضحة لتصحيح المسار.

يعتمد (العنف) تحطيم إحدى الإرادتين أثناء الصراع، أما اللاعنف فيعتمد (التقاء) الأطراف واندماجها. والحقيقة هي في مكان ما في منتصف الطريق وليس هناك من يملك الحقيقة الحقيقية النهائية. ونحن نسبح في اللحظة الواحدة بين الخطأ والصواب ونقترب ونبتعد عن الحقيقة بقدر الصدق والجهد والوسائل المتاحة. وهذا يحرر جواً رائعاً من الحوار ليمتزج الطرفان في الوصول إلى اكتشاف الحقيقة طالما لم تعد ملكاً لأحد، بل تولد بالتدريج من خلال تزاوج الأفكار. يقول ليسنج من فلاسفة التنوير: (لو أن الله وضع الحقيقة المطلقة في يمناه وجعل الشوق الخالد إلى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزاماً لي ثم قال لي اختر بين اليدين إذاً لجثوت ضارعاً أقول يا رب اعطني الرغبة إلى البحث لأن الحقيقة المطلقة هي لك وحدك).

(رابعاً) العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة. واللاعنف شجرة مباركة جذورها الحب وثمرتها الأمن والسلام. وأهم ما فيها تحرير إرادة الإنسان من (علاقات القوة) ومنحه السلام الداخلي العميق والطمأنينة الروحية كما وصفها إبراهيم (ع) عندما تذوقها: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ). هناك علاقة جدلية بين الكراهية والإكراه والخوف والجريمة وكما يقول عالم النفس السلوكي سكينر: (إن العواطف تتبادل التأثير فالإحباط يولد العدوانية). وآلية عمل (المشاعر السلبية) تنقلب على صاحبها ولا يتحرر من أسرها إلا بالانتقال إلى مشاعر السلام التي تملأ نفس صاحبها بالغبطة.

(خامساً) اللاعنف ينشط في الجو العلني النظيف المعقم. أما العنف فلأنه ينوي الغدر والأذية فيتسلح، والتسلح يجب أن يغطس إلى الأعماق المظلمة، والظلام يترافق مع العمى فلا يمكن لخطط التسلح أن تناقش علناً بل هي أسرار حربية. ومن هنا تعانقت (التنظيمات السرية) والعنف والخوف. ومن هذه الأجواء الملوثة ولدت مصيبة الانقلابات العسكرية في العالم العربي ومعها نموذج الإنسان الخائف. والكل يفكر بنفس الطريقة العنفية في تغيير الأوضاع، مما أحدث استعصاء في الأوضاع السياسية وضعها في ثلاجة تاريخية تجمدت فيها مفاصل الحراك الاجتماعي.

(سادساً) أخطر ما يواجه اعتياد حمل السلاح وجعله لغة تفاهم سهلة وسريعة أن أصحابها يقعون في عشقه وعبادته كصنم جديد من حيث لا يشعرون. إن الحوار مزعج وطويل ويحمل مفاجآت لأصحابه في احتمال اكتشاف أخطائهم. أما الطلقة فتحل المشاكل بدون كل هذا الصداع.

(سابعاً) قامت مدرسة (علم النفس التحليلي) بتشريح النفس لفهم آليات (اللاوعي) وكيف يتدفق (السلوك)، وإننا نعرف اليوم في علم الصحة النفسية أن من يقتل بآلية الدفاع عن النفس يفعلها بسهولة ولكن من يقتل أعزل مسالماً يقع تحت وطأة الذنب أنه قاتل وليس بطلاً.

فهذه آليات نفسية لا نفقهها ولا نسخرها. وهو الهدف الذي روته القصة القرآنية عن صراع ابني آدم، فالقاتل لم يعرف طعم الراحة حتى ندم (فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ) والندم هو أول التوبة والاعتراف إنه أخطأ في تصرفه، وهو يعني بكلمة ثانية أن المقتول قد اصبح شهيداً لأنه استطاع أن يمنح موقفه الاستمرار بعد موته.

في الواقع كل كلامنا لا قيمة له ولا يعني شيئاً ما لم يتشكل تيار جماهيري يشق طريقه على نحو ميداني تطبيقي يغير قناعات الناس إن هذا الأسلوب هو خير زكاة وأقرب رحماً.

يروى عن غاندي أن أعمال العنف عندما اشتدّت في كلكتا بين المسلمين والهندوس واحتار السياسيون في ضبطها هب فاعتكف هناك في بيت مسلم وأعلن الصيام حتى الموت أو تتوقف أعمال العنف، وعندما انزاحت نوبة الجنون عن الناس وتوقف الغوغاء عن القتل جاءه هندوسي يقول: إن المسلمين قتلوا ابني، فقال له غاندي هل أدلك على عمل يدخلك الجنة؟ أن تربي ولداً مسلماً قتل والداه وأن تحرص أن ينشأ مسلماً كما تمنى له ذلك والداه..

جريدة الشرق الأوسط - خالص جلبي

الهوامش:

1 - المسألة الحضارية: زكي الميلاد ص64.

2 - في الثقافة السياسية: د. حسن حنفي ص40- 44.

3 - انظر مجلة الآداب: العدد 4/ 3 ص4 عبد النبي اصطيف.

4 - أنظر من عناوين المجتمع القادم: سهيل عروسي ص198. على دروب الثقافة الديمقراطية - بو علي ياسين ص47.