2000 تشرين الاول |
1421 رجب |
العدد |
|
مجلة |
لا ضرر ولا ضرار في الإسلام |
السيد جعفر الشيرازي |
الشريعة الإسلامية، شريعة سهلة سمحة. سهلة لأنها فُصلت على مقياس الإنسان وطبقاً لفطرته وحاجاته - الجسدية والنفسية -، ومن الواضح أن كل ما يلبي حاجة الإنسان يسهل عليه طلبه والعمل من اجله مهما كانت العوائق في طريقه، ومن هنا جاء تحمل المصاعب والمشاق في كسب الرزق وطلب العلم و... سمحة لأنها لا تقيد الإنسان في حركته إلا بمقدار ضرورته، فلا عوائق في نشاطه حيث فسحت المجال امامه وأعطته حريته لينطلق في هذا الكون الرحب، فحثته على العلم والمعرفة وعدم الاكتفاء بالانجازات التي حصل عليها (وقل رب زدني علماً) و(من تساوى يوماه فهو مغبون)...(من لم يكن في زيادة فهو إلى النقصان). وكلمة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) كلمة اطلقها الرسول(ص) لتخترق حواجز الزمان والمكان وتصك اسماع البشرية لتكون حجة عليهم. فأولاً: أحكام الإسلام ليست موجبة للضرر بل كلها نفع. وثانياً: لا يسمح الإسلام بضرر الإنسان للآخر وحتى ضرره على نفسه كما انه لا يسمح بمطلق الضرر حتى على الحيوانات والطبيعة. |
نحن جميعاً نحتاج إلى تنظيم حياتنا في كل جوانبها، حتى نضمن حاجاتنا المختلفة والكثيرة، ومن هنا جاءت القوانين المتعددة التي تخضع المجتمعات لها حتى في حال فقدان الدولة المركزية كما في المجتمعات البدائية والجاهلية. لكن آلية وضع القانون قد تكون بشكل غير صحيح، فقد تغفل أو تجهل الطبيعة البشرية، أو تحكمها الحواجز الوقتية والمكانية، أو تسيطر عليها الاهواء والمصالح الشخصية، فتنشأ القوانين الضررية التي تتحكم بمصير المجتمع فتضره اكثر مما تنفعه، وكنموذج على ذلك المجتمع الجاهلي الذي كانت تتحكم فيه الحروب والغارات والنهب والأسر و... نتيجة للجهل بأن المكاسب تحصل بطرق افضل وخسائر أقل. وإذا عرفت طبيعة الإنسان من جهة وحاجاته من جهة أخرى وضمن آلية صحيحــة، وقتها يتم وضع ما يناسب طبيعته وصولاً لافضل الطرق إلى حاجاته، وهذا هو ضد الضرر وعين النفع. بنظرة سريعة للتشريع الإسلامي نلاحظ الأمرين بوضوح وذلك في الجوانب المختلفة. 1- الجانب المعنوي: ليس الإنسان جسم بلا روح، ولا حاجة منحصرة في الماديات فقط، بل الأمر يتعدى ذلك فله روح لها حاجاتها التي تلبى بالمعنويات، اوجب الإسلام المقدار الضروري منها وسنّ غير الضروريات أيضا كي تكتمل الشخصية المعنوية للمؤمن، فمنها: * العبادات من صلاة وصوم وحج و... التي توجب الطمأنينة والراحة النفسية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) هذه الطمأنينة التي تجعل الإنسان يتحمل المصاعب والمشاق ويقع فيها فلا ييأس ولا ينهار ولا ينتحر فعن رسول الله(ص) (افضل الناس من عشق العبادة فعانقها، واحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما اصبح من الدنيا: على عسر أم على يسر)(1) وعن الإمام الصادق(ع): (ما كلف الله العباد إلا ما يطيقون، إنما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلفهم من كل مأتي درهم خمسة دراهم، وكلفهم صيام شهر في السنة، وكلفهم حجة واحدة، وهم يطيقون اكثر من ذلك)(2). * ومنها الفضائل الاخلاقية من حسن خلق، وحسن ظن، ومحبة للآخرين، و.... مما هي مكونات أو مكملات لشخصية الإنسان. 2- الجانب الجسدي: مثل: * النظافة: من وضوء وغسل وبيان للمطهرات والنجاسات. * الأطعمة والاشربة: المحللة منها والمحرمة، حيث تم تحريم الخبائث التي تضره والطيبات التي يحتاج إليها. 3- الجانب الاجتماعي: مثلاً في العلاقات الزوجية التي يجب أن تبنى على المودة والرحمة (ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). 4- الجانب الاقتصادي: المتمثل في: * قلة نسبة الضرائب مما لا يكون اجحافاً وضرراً على الناس، توزيعها توزيعاً عادلاً يمنع من تكسرها وطغيانها. قال الله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل) (لكيلا تكون دولة بين الأغنياء منكم) (إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل). * الحث على الانفاق. * تحريم الربا. * وغير ذلك مما هو كثير. |
قال رسول الله(ص) لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فالاسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً(3). هذا الحديث وغيره من الأحاديث الشريفة، يبين قانوناً عاماً أقرّه الإسلام وهو أن الضرر مرفوع فلا أحكام الإسلام أحكام ضررية، ولا يرضى بضرر ايّ إنسان. واليكم هذه اللوحة المبهرة من سيرة الرسول(ص): عن الإمام الباقر(ع) قال: إن سمرة بن جندب كان له غدق (أي نخلة) في حائط لرجل من الانصار وكان منزل الانصاري بباب البستان، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة فلما تأبّى، جاء الانصاري إلى رسول الله(ص) فشكا إليه وخبّر الخبر، فارسل رسول الله(ص) وخبره بقول الانصاري وما شكا، قال إذا اردت الدخول فاستأذن، فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع، فقال لك بها غدق يمد لك في الجنة،، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله(ص) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار(4) وفي رواية أخرى قال رسول الله(ص) لسمرة: انطلق واغرسها حيث شئت(5). من ملاحظة هذه السيرة الوضاءة يتضح لنا عدة أمور: 1) كل إنسان تراعى حقوقه في املاكه فلا يحق إيذاؤه بأي شكل من الأشكال. 2) إذا امكن دفع الضرر بالصورة السلمية وبدون مشاكل فهو المرجح فلذا نرى الرسول(ص) طلب من سمرة الاستئذان اولاً، فلما لم يرضخ سمرة لذلك عرض البيع عليه ورفع القيمة في المساومة، ولما رآه غير راض عرض عليه مساومة اخروية وهي نخلة في الجنة، ولما رآه متعنتاً لا يرضى إلا بالضرر على الانصاري ولم تبق وسيلة إلا القوة أمر الرسول(ص) الانصاري بقلع تلك الشجرة. 3) ومن أن سمرة كان مضاراً ومع ذلك اكتفى الرسول(ص) بالمقدار الذي يدفع به الضرر عن الانصاري لا اكثر ولذا اعطى النخلة بعد قلعها لمالكها المتعنت وقال له بما أنها ملكك فيحق لك أن تغرسها في أي مكان شئت شرط أن لا تضر المسلمين. ولذا فكل من اضرّ أحد الناس يجب ردعه عن فعلته ودفع الضرر عن الناس. |
الشرع حينما يريد أن يشرع حكماً يلاحظ المصلحة العامة وعلى ضوئها يصدر الحكم وفي نفس الوقت - وباعتبار أن الناس قد يعيشون في ظروف استثنائية اوطارئة لا تسمح لهم ظروفهم تطبيق الحكم - يلاحظ المشرع ذلك ويصدر قوانين ثانوية لتلك الظروف. وهذا ما يلاحظ في جميع القوانين - الديمقراطية أو الدكتاتورية - حيث يتم التوسعة أو التضييق في القانون في الحالات الطارئة كالحرب. وهكذا الإسلام حرّم أو اوجب كثيراً من الأمور - بالعنوان الأولي -، ولكنه يرفع الحكم في حالات خاصة. قال تعالى (إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) البقرة: 173. وقانون (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) يعتبر من العناوين الثانوية الحاكمة على الأحكام الأولية. فمثلاً الصيام واجب على الجميع لكنه مرفوع عن المريض الذي يضره الصوم، فيجب عليه القضاء حينما يرتفع الضرر وإن عجز عن ذلك يدفع الفدية. والميتة محرمة لكن قد يجب اكلها للمضطر الذي يموت مثلاً لولا الأكل. مع ملاحظة أن الحكم الثانوي مستمر ما دام سببه موجوداً، فإذا زال سببه كالضرر فيرجع الحكم الأولى الاصلي فوراً. نضرب هنا مثالاً عصرياً لتوضيح رؤية الإسلام بالنسبة إلى الضرر |
لا شك أن اخذ الجمرك على البضائع المستوردة أو المصدرة من المحرمات، قال الله تعالى (ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض). وكان يعبر عن (الكمركجي)(6) في السابق بالعشّار باعتبار انهم كانوا يأخذون العُشر من البضائع. قال رسول الله(ص): على العشار في كل يوم وليلة لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً(7). ويجوز اخفاء البضائع عنهم، فقد قال الإمام علي(ع): اعتد على زكاتك بما اخذ العشار منك واخفها عنه ما استطعت(8). بل يجوز للإنسان الحلف للفرار من العشار ذلك إذا لم يكن فيه ضرر على المصالح العامة، فقد قيل للإمام الباقر(ع): نمرّ بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلّون سبيلنا ولا يرضون منا إلا بذلك؟ قال(ع): فاحلف لهم فهو احل من التمر والزبد(9)، وفي حديث آخر قيل للباقر(ع): إن معي بضائع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشار، فيحلفونا عليها، فنحلف عليها؟ فقال(ع): وددت أني اقدر على أن اجيز (أي اعبّر) أموال المسلمين كلها واحلف عليها، كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية(10). ولكن... قد تكون البضائع الأجنبية أرخص وأجود من البضائع الوطنية، وتركها تستورد من دون أي مانع وعائق يسبب تهافت الناس عليها وعدم شرائهم لمنتوجات الوطن وذلك يسبب انكسار المعامل والشركات الوطنية، والاعتماد على المستوردات، ومن المعلوم أن ذلك يوجب التبعية الاقتصادية ومن ثم التبعية السياسية. فهل يقف الإسلام مكتوف الايدي مقابل هذه الحالة؟ كلاّ... إن الحكم الأوّلي هو الحرمة، ولكن في هذه الصورة هناك ضرر بالغ لو عملنا بالحكم الأولي، فيأتي دور الحكم الثانوي وهو دليل لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) فانه يحكم بأنه في هذه الصورة ترتفع الحرمة من الجمرك بل قد يجب لحماية المسلمين(11). ومع ذلك... يجب ملاحظة مقدار الضرر، لا أن نشرع قانوناً عاماً للجمارك ونجعله على كل بضاعة، بل يلزم أن ينحصر الأمر فيما يأتي منه الضرر فقط لا اكثر فإذا ارتفع الضرر ارتفع الجمرك. فإذا كانت بعض البضائع لا تصنع في البلد ولا يترتب على دخولها أي ضرر فلا يحق اخذ الجمرك عليها. إذن: الجمرك محرّم إلا إذا كان هنالك ضرر على بلاد الإسلام فترتفع الحرمة بمقدار دفع الضرر لا اكثر. وهذا مثال يدل على حيوية الإسلام وقابليته للتطبيق في كل عصر. |
الأحكام في الإسلام ليست احكاماً تعسفيّة، كما هو الحال في كثير من الأحكام الوضعية، بل يراعى في فيها جانب المصلحة والمفسدة، فإن كانت مصلحة ملزمة يقنن الوجوب، وإن كانت مفسدة بالغة تشرع الحرمة، لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، وهو لطيف بهم يريد مصلحتهم وصلاحهم. ومن هذا المنطلق - وكما ذكرنا - شرع احكاماً ورفعها في الحالات الطارئة كحالة الضرر. وقد تكون هنالك مصالح أهم من دفع الضرر، وهنا الأحكام تبقى بقوتها ولا يمكن إلغاؤها بالعنوان الثانوي ولا يجري فيها قانون (لا ضرر ولا ضرار) ذلك لأن المصلحة العامة أهم من الضرر الشخصي. فالدفاع عن الوطن قد يكبد خسائر في الأرواح والاموال، لكن حفظ البلاد من الأعداء أهم من الضرر على بعض الأشخاص في أموالهم أو ارواحهم، فهنا يجب تحمل الضرر الشخصي لكسب المنفعة العامة، فلا يجوز مثلاً الفرار من الزحف لأنه وإن كان يدفع خطر الموت عن الفار لكنه قد يجلب الضرر العام باحتلال البلد. وكذلك دفع الضرائب المشروعة - كالزكاة - قد توجب ضرراً على الدافع لكن عدم دفعها يوجب الضرر العام. ومن هذا المنطلق قال الفقهاء بان قانون لا ضر لا يشمل الأحكام التي جعلت في مورد الضرر - كالجهاد -. ونختم الكلام بلوحات مضيئة من القرآن الكريم قال الله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) البقرة، 231. (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) البقرة، 233. (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) الطلاق، 6. (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) النساء، 95. (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار) النساء، 12. |
1 - الكافي، ص349، ج1. 2 - المحاسن، ص296. 3 - وسائل الشيعة، ج26، ص14. 4 - الوسائل، ج25، ص428. 5 - الوسائل، ج25، ص429. 6 - الذي يأخذ (الكمرك). 7 - الوسائل، ج16، ص39. 8 - الوسائل، ج9، ص254. 9 - الوسائل، ج23، ص225. 10 - الوسائل، ج23، ص227. 11 - يرى بعض الاصوليين والفقهاء أن دليل لا ضرر كما هو يرفع الحكم فانه يثبت الحكم أيضا. |