2000 تشرين الاول |
1421 رجب |
العدد |
|
مجلة |
الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(ع) لمؤلفه الإمام السيد محمد الشيرازي(دام ظله) |
|
قرأه مجتبى العلوي |
منذ تكوّن أول مدينة على سطح الأرض والإنسان يدأب في البحث عن حكومة عادلة تأخذ على عاتقها السهر على مصالح المجموع وتوفير سبل الاطمئنان والرفاهية لهم.. وقد اقترب الإنسان قليلاً أو ابتعد كثيراً عن شكل هذه الحكومة المتصورة نظرياً في ذهنه من خلال التجارب العديدة التي عاشها.. وقد حدث في تاريخ الإنسانية الطويل أن جسّد الأنبياء حكومة الله في الأرض من خلال تجربة فعلية في عهد نبي الله سليمان وداود(ع) وبشكل آخر في رئاسة الوزارة إن صح التعبير التي اسندت إلى نبي الله يوسف(ع).. وقد حاول الفلاسفة منذ بدايات التفكير الفلسفي للإنسان أن يستنبطوا قواعد وتوجهات تحدد شكل الحكومة التي تنهض بمسؤولياتها لخدمة المجموع... ولعل اشهر الأمثلة على ذلك افلاطون في جمهوريته حين نادى بان العدل في الأحكام والتقدم في الشعوب لا يمكن أن يحدث إلا في مجتمع يحكمه الفلاسفة الذين هم نخبة المجتمع ولأنهم يتميزون بالحكمة والتفكير العميق عن غيرهم من شرائح المجتمع.. ومثله الفارابي على صعيد التنظير الفلسفي العربي والإسلامي في جمهوريته الفاضلة مسترشداً بالقرآن وحاكمية الله في الإسلام.. ولم تكن تلك الجهود الفكرية التي بذلها المفكرون والفلاسفة على مر العصور إلا صدى لما يحتمل في نفوس الناس ورغبة دفينة في رؤية حكومة تمثل مصالح الأكثرية ولا تعتدي على مصالح الأقلية.. ورغم هذا لم تثمر تلك المنجزات الفكرية النظرية عن تجربة واقعية تنزل نصوص النظريات إلى ارض التطبيق.. لأنها بقيت قاصرة وعاجزة عن امتلاك آليات تطبيقها وإن وجدت فهي عاجزة عن الاستمرار ومواجهة ما يعتريها في طريقها.. بين هذا المد والجزر بقيت النفوس طافحة بامنياتها، والناس معلقة ابصارهم عين على السماء وعين على الأرض والحنين يراود الجميع إلى زمن مضى وانقضى، وإلى سيرة عبقة بالعدل والأخاء والمساواة.. كان الزمن الجميل، رغم ما عصف به من فتن ومخاطر وتحديات لأنه الصورة المثلى لقيام الحكومة ولشخصية الحاكم.. ذاك الزمن الجميل، هو حكومة الإمام علي(ع) والتي استمرت خمس سنوات، ولكنها كانت كافية للإجابة عن الأسئلة التي راودت الإنسان عن شكل الحكومة الإلهية وعن رجالها وكيفية الحكم وطرائقه وأساليبه.. تلك الحكومة الإسلامية، يصف الإمام علي(ع) قائدها وحاكمها (أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الأمر أقومهم عليه واعلمهم بأمر الله، فإن شغب شاغب استعتب وإن أبى قوتل)(1) وقد طابق(ع) الوصف والفعل في حكومته.. وصفة أخرى (وقد علمتم انه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة)(2). وصفة أخرى امتاز بها(ع) وهي صفة الزهد، وهي من الزم الصفات في القائد قال(ع) (ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)(3). وقوله(ع) (إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه)(4). تلك الحكومة عالجها الإمام الشيرازي في كتابه الصغير حجماً والكبير محتوى (الحكومة الإسلامية في عهد الإمام علي(ع)) وقدم بقلمه الواضح ورشاقة اسلوبه وصفاً لها من خلال بعض الحوادث الكاشفة عن وجه تلك الحكومة وقد توزعت صفحات الكتاب على عشرة محاور يمكن وضعها تحت بندين هما الإنسان والحاكم.. وقد اندغمت الصورتان معاً حتى لا تستطيع أن تفرق بينهما.. من تلك الصور العديدة لوجه الإنسان الحاكم والحاكم الإنسان ما حدث في صفين حين منع جيش معاوية ماء الفرات عن معسكر الإمام علي(ع).. مما جعله يستحث جيشه لطرد هم عن الماء بخطبة قال فيها (الموت في حياتكم مقهورين والموت في حياتكم قاهرين) وكان أن هجم جيش الإمام واصبح ماء الفرات تحت امرتهم.. مما حدا بجيشه أن يطلب منه أن يمنع عنهم الماء اسوة بما فعلوا.. وهو تصرف لو فعله لما لامه عليه أحد، وأيضا هو تصرف مقبول في فنون الحرب ولكن الإمام(ع) ليس عنده أن الغاية تبرر الوسيلة وكانت اجابته (لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم).. وهذا السلوك الإنساني المترفع ينهل من نمير عذب لرسول الرحمة والإنسانية محمد(ص) وكأني به يحذو حذو ابن عمه فيما قام به في غزوة خيبر حين رفض(ص) أن يكسب الحصار بمنع الماء عن المحاصرين داخل الحصن.. وموقف آخر يكشف إنسانية الحاكم في رعايته لأفراد شعبه وتفقد أحوالهم في السراء والضراء، وهي حادثة المعوق الاعمى الذي كان الإمام(ع) يتفقده في حياته.. هذا التفقد الملئ رحمة واستشعاراً لهموم الناس ومشاكلهم كان السمة السائدة والتي طبعت حياته(ع) انسانا وحاكماً، والشواهد كثيرة التي اوردها سماحة المؤلف في ثنايا كتابه، وتبلغ تلك الحياة ذروتها في السمو والتعالي عما هو زائل ودنيوي في لحظات الموت حين كان(ع) مسجى على فراشه وهو لا ينفك في التفكير بقاتله ومتابعة شؤونه ويتفقد مطعمه ومشربه فلا يستسيغ أن يشرب اللبن الذي هو دواء السم الذي سرى في جسده اثر الضربة الملعونة إلا ويبعث بالباقي منه إلى قاتله رحمة وشفقة به.. والكتاب بعد مليء بالشواهد الكثيرة التي تعطي انطباعاً ايجابياً عن فكرة الحكومة الإسلامية وقدرتها الواقعية على تحقيق العدالة في زمن اختفى فيه هذا المفهوم حتى في تصور الذهن. |
1 - نهج البلاغة/ خطبة، 173. 2 - المصدر نفسه/ خطبة 131. 3 - المصدر نفسه/ كتاب 45. 4 - الكافي/ ج1/ ص410/ ح3. |