2000 آيلول |
1421 جمادي الثاني |
49 العدد |
مجلة النبأ |
جبار محمود |
تكمن.. ايجابية وفاعلية النقد الموجّه نحو فكر محدد، في الالتزام بعدم تجاوز الموضوعية المجردة في الطرح النقدي |
وبشأن.. الفكرة والفكرة فلا مناص من الاعتراف بأن نقاط القوة في الاطروحة هي التي يتحدد منها مسار غايتها وكشف خطوطها النظرية، سواء لقيت تقبلاً أو جوبهت بثبور عند الجمهور المتابع، وأن اثارة سؤال من قبيل إلى أي مدى يمكن لبيان النقد الناجع أن يوضح منه، أدق تفاصيل ما في المخيّلة، اتجاه اطروحة فكر ما إذا كان معتنق المقابل، يمثله تجمّع متنفّذ في سلطة سياسية غير شرعية، أو يمثله اشخاص يعملون ظاهراً لدى جهة معنوية مدعومة من قبل القوى الدولية الغربية المتكبرة، وذيولها من الحكومات المحلية التابعة.. وأجهزتهما القمعية وبالذات في البلدان النامية، حيث موانع الرقيب الفكري المتحفز لأي طارئ، والذي لا يري أبناء جلدته سوى هاجس رفضه وتطيره من نقد الآخرين له، وبذلك تفوّت على الناس بصورة عمديّة، فرصة الاطلاع عن كثبت على معرفة ما ينبغي معرفته من الأسس الفكرية، الخافية لما يطرحه الآخرون، سواء من نقد على الفكر المعني، أو رد على نقد الفكر ذاته. وتوفير.. شرط التكافؤ بين المتحاورين هو من ضرورة الالتزام بناصية النقاش الناجح، حيث الكلام حين يقتضي الحال للتكلم بضمير، والسماع لمّا يطلب الاستماع إلى صوت العقل.. كلها من أولويات بداهة النقد، وعرض الأمور بروح المسؤولية المستندة لاحترام الذات قبل أي شيء آخر، فالارتقاء بالنقد الفكري لا يتم إلا بالتفهم المتدرج للافكار المطروحة. لذا فان الصعوبات أمام الناقد هي من طبيعة الأشياء التي تبقى مرتبطة بدرجة النضج والاستيعاب الفكريين لديه.. وإلا فكيف يفسّر ما وصل إليه النقد، من حال المتدني في مستوياته، رغم الكثرة الهائلة من أعداد الأدبيات المتداولة في الساحة الثقافية (كتب، مجلات، جرائد...) ومن بعض عجائب الواقع الثقافي المرير الذي يعشعش في معظم مؤسساته الثقافية في البلدان النامية، أن الحديث حول عموميات النقد الفكري، ما يزال الشغل الشاغل للعديد من السلطات، إذ تحاسب عليها بقوة تعليماتها اللامرئية، واجراءاتها الكيفية! |
||
إذا.. كان بالإمكان وصف الناقد الفكري بالمناضل الاجتماعي وهو غير المناضل السياسي، فلأن مهمة الناقد المتفكر، هي التخلق بالوقوف طويلاً عند الجانب الايجابي لدى اطروحة الآخر. فالناقد هنا هو حقاً بمثابة رائد للتعبير الدقيق، في أغلب الأحيان يبين هويته من داخل نصه النقدي.. وهل هناك حاجة فعلية للتذكير بقائمة اسماء النقاد الذين تعرضوا لعمليات البطش والتنكيل، لأن خللاً ما كان سارياً في بنية الدولة القائمة المعنية، وما كان متوقعاً أن يتم تناوله من قبل أحد بعملية نقد علنية، ادّت لزيادة الشعور بالمرارة عند أولئك القادة السياسيين أو الوجهاء الاجتماعيين الذين تجمعهم وشائج المصالح الشخصية، بحيث بدأ هؤلاء القادة والوجهاء يحتكمون إلى الجانب النظري في الفكر، بينما هم وبكل ليبرالية الذات يبتعدون عن الالتزام الجوهري بتطبيقها العملي. الحوار.. بين الأفكار يتبلور منه تقديم فكر باهر من دون بقية الأفكار، فهو يعبئ النفوس باعثاً فيها الانتباه إلى أن التعامل مع الآخر، والتواصل الايجابي معه، يحسر احتمال المواجهة السلبية بين الأطراف ويلغي حالة التقريع فيما بين المتحاورين ولعل للتطور الثقافي المطرد في هذا المجال حصيلة واعية تقود لبيان الغاية من خطوط الفكر المطروح، لذلك يلاحظ أن بعض الأفكار تعيش هاجس مواكبة كل عصر لتجديد نفسها، أو على الأقل أن تدعي بذلك، أو أنها ستعمل على تحقيق ذلك. وبالنسبة.. لأولئك الذين تزين لهم احلام اليقظة، سوءات التردي والتراجع الذي تشهده ساحات الفكر وتجمعات مشاربه المختلفة، ويكيلون صفة التفاهة لما انجزه العقل البشري من الاطروحات الفكرية (وما اكثرها) قبل أن يكلفوا ذواتهم عناء البحث عن حقيقتها، ويبادروا لفتح باب الحوار مع أي من تلك الاطروحات، بلغة نقدية مرنة ومفهومة، كي توصف الأشياء بصفاتها إذ لا يدرون أن مبدأ الغاء الآخر، قبل التحاور معه، يجعل أصابع تهمة عدم الدراية توجه للتهّامة قبل المتهمين وكأن بموقفهم المتطيّر هذا، يقتربون من مواقف لاءات الرقيب الحكومي، الذي لا يحرّك مداركه العقلية إلا على محور كون توجيه النقد للفكر الذي تعتنقه السلطة أو جهة محسوبة عليها ينمّ عن اساءة مقصودة لها أو لهما، ولكن باسلوب مؤدب وبحسب الأوامر فإن ما لا يريد أن يفهمه الرقيب، ومصدرو الأوامر أن النقد في عموميته، يمكن أن يكون تقويماً لمسيرة ما، وتنبهاً من أجل انطلاقة فكرية افضل، أو تعليماً بحالة مقارنة أجدى. |
||
للكاتب الناقد... المؤتمن على ابداء الحقيقة، نزوعه الحيادي في النظرة المقومة للاشياء، فهو يرى بنفاذ عقله ما لا يراه الكثيرون غيره. لذلك يلمس بسهولة سطوع ما يسطّره قلمه المنتقد من تحاليل وتوقعات تدل على درجة إلمامه، ومقدار احاطته بالمسألة الفكرية المطروحة، وهذا ما يوفر حالة من الطمأنينة، إن الناقد الايجابي الحائز على ثقة متابعي نتاجاته، لا يدين التوجهات السلبية، إلا حين تدفع الأهمية لتفعيل النقد الفكري حول اطروحة تنتشر بين شريحة اجتماعية، أو ربما مجتمع برمته. وعلى.. عكس ما يتصور البعض، فأكبر خطيئة يمكن احتسابها حقاً ضد الناقد الفكري، إذا ما اعطى قيمة عالية لفكر ما، بصورة سابقة لأوان تجريبه لأبعادها فعند حلول مثل هذا الطرح كما حدث في توسيع مساحة دعوة الرياء السياسي والتجهيل الايديولوجي على المستوى العالمي، لأجل اعتناق مبدأ الأحادية المادية الذي جاءت به اطروحة الماركسية، المتنكرة لحاجات الموازنة بين المتطلبات الروحية والأهميات المادية، إذ كان لصعود نجم (الاتحاد السوفيتي)، وانبثاق كتلة الدول الاشتراكية المتحالفة معه، بعيد انتهاء الحرب العالمية سنة 1945م إضافة لتشكيل (هيئة الأمم المتحدة)... وصدور ميثاقها الأساسي القائم على ضمان حرية المعتقدات، دور سلبي في نشر مفاهيم الماركسية في قارات العالم. ولما.. كان المروّجون للنظرية الماركسية قد اخفوا قدر الامكان، الجوهر المادي البحت لها عن المجتمعات في بلدان عديدة، وعدم استطاعة موازنتها بين الجوانب الروحية والمادية، فقد استغل المفكرون البرجوازيون الغربيون، نقطة الضعف هذه في الماركسية، فشهدت معظم البلدان النامية تأسيس احزاب وحركات واصطفافات سياسية معارضة للماركسية وإن كان طابع شكلها يأخذ اسم (الديني) أو (القومي) أو (الليبرالي) وحتى (الاشتراكي). وضمن عمليات الصراع بين الكتلتين الغربية والشرقية، تعهد سياسيون محنكون محترفون بعدم الخروج عن طاعة الأسياد الاجانب، وتنفيذ اوامرهم وخططهم. وهكذا كانت هناك وما زالت بقايا منها حيث دول (العالم الرأسمالي) ودول (العالم الاشتراكي)، في حين تمّ اطلاق تسمية دول (العالم الثالث) على البلدان النامية، تمييزاً عن تركيبة النظامين الآنفين. ولكن ذلك لم يكن يمثل نهاية المطاف، فقد أخذت غالبية الجهات المؤدلجة تظهر عملياً مواقف تكتيكية - بلا أي حياء - لجر اكبر عدد ممكن من الناس لاعتناق فكر جماعاتها، بأخس أساليب الابتزاز والالتواءمن ترغيب وترهيب وتشريد وتهديد بالاغتيال... |
||
تولي.. الاهتمامات الاستراتيجية العالمية في الدعوة لاعتناق أو تبني أو تأييد بعض الافكار، المشهود على انتشارها في معظم البلدان. إن تلك الأفكار يمهّد لها عادةً قبل أن تعدو عاملاً مؤثراً في المجتمع المتوجهة اليه، بحيث يسبق ذلك شيء من التعريفات السياسية بها عن طرق شفاهية، تتناقلها الألسن، وتتسامعها الآذان، بصورة غير معروفة المصدر، وعلى خلفية بذل عملي من اجل تكريس اجتماعي (ولو نسبي) لتوثيق نظرية فكريّة، وبالتالي إحداث حالة نشر وانتشار يسيرة لها.. وفي هذا الصدد لوحظ أن أكثر الأيديولوجيات المنتهجة سبلاً متأنية لتحقيق غايات خططها عبر مبدأ التعايش الحر بين الأفكار المتناقضة لها من تطلعات السيطرة وتوسيع النفوذ على مستوى المستقبل، رغم أن ذلك ليس معلناً في معظم البرامج والأدبيات المتداولة لتلك النظريات، وكان من نتائج مثل هذي التكتيكات الملازمة لكل الايديولجيات دون استثناء واحدة منها - أن المعارك الفكرية بدلاً من أن تحافظ على سلميتها، وتثبّت الحوار فيما بينها كتقليد ثقافي - حضاري، فإنها قد دخلت إلى دهليز جديد، بحيث اطلق على تسميته وبتسريع غير مدروس بـ(الفكر المستورد) فأصبح مثلاً الفكر الإسلامي العالمي، خارج رقعة جغرافية البلدان العربية والاسلامية، فكراً مستورداً، وكما سبق وشمل ذلك افكاراً أخرى. وبعد.. أن ترسّخ الاعتقاد كون تداعيات فكر ما، هي من أولى علائم فشل ذاتية ذلك الفكر.. في خلاصة جوهره وعملية تطبيقه. فإذا تمّ احتساب الفكر كسلاح معنوي فان كل المحاولات التي تعمل على ايجاد فجوة دائمة بين الأفكار المنوعة وطروحاتها، لا تخدم شعار ضرورة التعايش الحر بين الأفكار المختلفة. إن.. نشر الفكر المعتنق يتعدى في تقديم نوع أنموذجه، من حيث المقارنة مع بقية الأشكال الثقافية الأخرى، ما يسطره قلم الناقد الأمين على حياديته، وكذلك وعلى عكس ما يتصور البعض، فان ما لا يمكن التكهّن به حين تصاحب اشكالية عدم فهم ابعاد (الفكر)، حالة من غرار العرض والطلب. فالفكر الغربي البرجوازي يقدّم الغرب الرأسمالي كنظام مهيمن، وفكر تجاري جشع، ويطلب بكل صلافة الخنوع له والتسليم لمخططاته، وليس ذلك فحسب.. بل هو يطلب تأييد التشويش متى اطلقه على الفكر الآخر. وربما كان نقد الانطلاق من افضل مواقع الفهم لما يجري في الساحة الفكرية، هو اعلان لموقف جاد من عموم المواقف الفكرية الغربية كي يستطاع منه الرد المتابع والمواكب لما يروجه الغرب من أكاذيب ضد البلدان العربية والاسلامية، وبالذات ما يمس به الايديولوجية الإسلامية - الإلهية. |
||
بين.. نزعة السلف، ونزعة الاصالة، ونزعة المعاصرة، بدأت الآفاق تضيق على الأفكار الاصيلة والجادة، وبعض مسؤولي الصحف اضحوا ودون سابق انذار يبلغون كتّاب ومستكتبي صحفهم، أن يكفوا عن ذكر مفردات من قبيل (الاستعمار) و(الامبريالية) و(الصهيونية) مع أن دولاً قائمة تتحكم بها هذه المبادئ الغربية الهدامة، ويتم تعميم ذلك رغم أن الجميع يدّعون لدرجة (التبجح) بالالتزام عملياً بمبدأ (حرية الرأي) بينما هم يتناسون أن مصداقية التعامل مع الأفكار تحددها التطبيقات وليست التدوينات أو الادعاءات. وهكذا فعملية الصراع الفكري التي تبدو قد غطت مؤقتاً برماد سقوط معسكر الدول الاشتراكية، أمام معسكر الدول الراسمالية، وصعود فكر المعسكر الثاني، إلا أنه لا أحد يدري ما تخبئ الأيام لمصير النظام الراسمالي، الذي يعاني من تآكلات بطيئة في بنياته الأساسية (انساناً وحضارةً). والأدلجة الإسلامية.. بكل صفاتها العالمية، تقع ضمن خارطة استهدافات الفكر البرجوازي الغربي، الذي يجرعها كل يوم مزيداً من محاولات العزلة المجتمعية، والتمييز الفكري. وطبيعي إذ لا ينكر الإسلام حق الايديولوجيات الأخرى في الحياة وفقاً لمبدأ الآية القرآنية الكريمة (لا اكراه في الدين) فان الفكر الآخر بكل مدارسه المطروحة على بساط البحث، عادة لا تقاس بما يحققه من كثرة الظفر بأعداد نسب معتنقيه، بل بصحة نظريته وقديماً قيل (لا يصح إلا الصحيح) وما هذي التمخضات الفكرية، إلا ظاهرة تعبّر عن ردة الفعل عند الإنسان الذي يتطلع لأحداث نقلة في احاطات المجتمع بكل الأفكار ويطرحها امامه، ليختار الأفضل منها. والفكر الذي يصطدم باشكالية الرفض، أو عدم القبول، أو عدم المبالاة، على المستوى الاجتماعي لا يشير إلى أن مروجيه، قد وضعوا نصب الأعين كون الوصول إلى لحظة تحقيق الأهداف الكبرى، لا يأتي بالهين. فهناك أفكار تنتشر سلمياً دون بذل عناء كبير، خصوصاً تلك التي تلبي حاجات سد الغرائز الجسدية كـ(الوجودية).. التي أصبحت تسلب من المجتمعات مقومات العفة والاخلاص الزوجي، والإساءة للتعاليم الربانية في هذا المضمار. وفي خضم هذا المعترك الفكري، الذي تعيش فيه الأفكار الوضعية على مراتع هامشية غير متوازنة تماماً، يستمد الفكر الإسلامي الحقيقي دعامات اصالته وحيويته من قواه الغيبية السماوية حتى يسود على الأرض. |
||
القراءة الأولى.. لأي فكر لا تكفي لاستيعابه كاملاً، ويفضّل أن يثنّى في ذلك - على الأنسب - لأجل استقرائه بصورة محيطة، يستكشف منها الوقوف على الدوافع المؤكدة أو المحتملة التي يتحرك على سكّتها، ولعل تفعيلاً أنفع للنقد الفكري لتقييم أو تقويم أو تطوير فكر استراتيجي ما باعتباره قانوناً وضع لتنظيم الحياة بجوانبها الشاملة، متى ما اتيحت له فرصة التطبيق أو الاعتناق المجتمعي، فان النقد هنا يبرز كحالة لا غنى عنها عن قول أو ملاحظة أو تحليل يتفادى منه وقوع ضرر غير محتسب. ولمّا.. كان الفكر مرتبطاً بالضمير والمثل العليا والأخلاق فان حصيلة تجارب الحياة، المستوحاة من جوهر ذلك الفكر، يحبّذ أن لا تطبق بعيدة عن الحد الأدنى المقبول لمستحقات الواقع، الذي يواشج بين النقد الحيادي، والفكر المجرد، والحضارة الخيّرة.. بكل ما تعنيه مفردة الخير من معان سامية. والفكر الناضج يعتبر بحدود الذات بمستوى مشروع حضاري مطلوب. ومن.. أجل استعادة الفاعليات الحضارية اكثر واكثر، عبر تفعيل إتاحة الفرص المتكافئة، أمام كل الايديولوجيات، ليدعي الجميع بما يريدونه فالبقاء سوف لن يكون إلا للأحسن. |