وفي ضوء هذا المعتقد الإسلامي لابد لنا من وضع الشهادة كحجر زاوية في قراءة فكر السيد الشهيد حسن الشيرازي الذي قدم للأمة عطاءاً متواصلاً بدأه بأطروحة (كلمة الإسلام) وظل يواصله في الحياة حتى نال درجة الشهادة.

فالشهادة هي النتيجة التي ترتبت على تلك الحركة وهي في نفس الوقت مؤشر على التكامل الذي قاد إليه والذي لا يمكن أن نعزوه إلى الجانب الروحي أو العبادي أو الأخلاقي دون الفكري فهو عام وشامل لجميع جوانب شخصية الشهيد يتأكد بعد وقوعها كشهادة موثقة لا ينالها سواه.

وعلى أساس هذا التكامل يمكن ملاحظة عدم الانفصال بين فكر السيد الشهيد ومجمل حركته في الواقع الاجتماعي والسياسي وانها حركة ظلت قائمة حتى لحظة الانتقال إلى جنات النعيم.

فكتاب (كلمة الإسلام) جهد فكري توخى من خلاله اسداء النصيحة للأمة لانقاذها من التردي فيقول (عاشت الأمة الإسلامية عصور الظلم والظلام في النور، فلما تفتح عصر النور تدهورت الأمة في الظلم والظلام)(1).

وقد اختار لهذا الانقاذ نهجاً قدمه ضمن كتاب كلمة الإسلام بعد أن استقرأ الواقع الاجتماعي والسياسي وعرف الأمراض المتأصلة والتي تحتاج إلى رد سريع وقاطع فهو ببساطة محاولة للاجابة على سؤال كبير يطرحه في بداية كتابه كيف يمكن للأمة (العروج من درك الهوان إلى قمة الكمال؟)(2).

وعلى هذا الأساس فإن المشروع المطروح مشروع نهضة وهو مشبع بهموم النهضة التي كانت تتركز حول (استعادة الذات القوية) ولعلنا نرى أن ابرز هذه الهموم هو طرح الأمة كذات حضارية في مقابل الأمم الأخرى وقد برز كتيار للرد على دعوات الذوبان القائم على الرضى بالخنوع والخضوع لقوى التجبر العالمية.

فكانت تلك الفترة هي فترة استعادة الأصالة واستعادة القوة ولهذا فإنها تميزت بالحساسية الشديدة (إزاء الآخر) الذي كان بدوره يسعى بجهد متواصل للاحتفاظ بالسيطرة المباشرة على الأمة وقد برزت هذه الحساسية على شكل مفردات فكرية من قبيل النقد اللاذع لنقد الاستعارة من الآخر أو القبول المطلق لقيمه وحضارته (التغريب) ويصل إلى أقصى مداه حين يرفض حتى التوفيق بجميع صوره.

مشروع السيد النهضوي اعتمد على عنصرين رئيسين أولهما (شورى الفقهاء) المعادل باعتبارها الموضوعي للقيادة لاستعادة القوة والاصالة فالنهضة لا يمكن أن تقوم بدون اصالة في الفكر والسلوك ولكي يتحقق ذلك لابد من إعادة الرابطة بين الأمة وعلمائها لكي يستعيد الإسلام كفكر عملي سريانه في شرايين الأمة وحين يحصل هذا الأمر فان الرد على عوامل الهزيمة قد تم لانهما كما يقول السيد يتمثلان بعاملين رئيسين: 1ـ عوامل الانهيار الذاتي التي ولدت بحكم حركة الأمة التاريخية.

ويقرر السيد الشيرازي الشهيد وجود هذا العامل عبر قراءة مركزة للتاريخ ويضع يده على نقطة بداية هي الجاهلية فيقول (فلقد كانت (الأمة) في جاهليتها الأولى اقليات مضطهده يتحكم فيها اقوى السلطات والتيارات ثم تنزل الوحي بأكرم الرسالات على محمد بن عبد الله)(3).

ومن هنا من نقطة الصفر قبل الإسلام يتابع تاريخ صعود الأمة مسلطاً الضوء على الثغرات التي ستعيدها إلى الصفر في كل مقطع من مقاطع التاريخ وفي كل حلقة من حلقاتها حتى يصل معها إلى مرحلة التردي الطويلة.

وأول هذه الثغرات هي عندما (انحرفت قياداتها)(4) وكانت الثغرة الثانية نتيجة من نتائج الثغرة الأولى وهي أن السلطة كانت تعتقل الثوار وتكثر من عدد الخانعين (مات ثوارها ولم يخلفوا إلا الخانعين)(5).

وهذه القراءة ليست قراءة لجزء من الأمة أو قومية من قومياتها بل هي قراءة للمجموع كما أنها قراءة لم تغفل صيرورة الآخر الذي يشرع بطور النهوض من حين اللحظة التي تصل فيها الأمة إلى الحالة التي تنخر فيها مقدمات ضعفها الذاتي التي اشرنا إليها فيقول (في ذات الوقت الذي كان العالم يواصل زحفه المرهف البطيء ـ حتى قطع اشواطاً من الحركة الصناعية)(6).

وعلى هذا المشهد تستيقظ الأمة (واستيقظت الأمة)(7) لكنها يقظة واجهت هذه المرحلة العامل الثاني من عوامل الانهيار ـ تأثير القوة الغربية في تكريس الانهيار وأول ادوات هذا التكريس هو السعي الدؤوب لفصل الأمة عن دينها وعلمائها (العمل الايجابي الجرئ الذي قامت به القوات الفاتحة لتركيز عملية الفصل بين الأمة ودينها العتيد).

وهكذا ينتهي السيد الشهيد من الحكم على عوامل الانهيار بعد قراءة التاريخ ويحدد على ضوءها أسلوب الرد وهو ليس إلا العملية المعاكسة إعادة اللحمة بالدين وبالعلماء مجسداً بأطروحة شورى المراجع وأطروحة شورى المراجع ذات بعدين الأول قيادي حيث يراد انتاج الشكل القيادي المضاد للقيادة المنحرفة التي تقمع الأمة وتفرض عليها الخنوع والثاني جماهيري هو الالتحام بالقيادة الثورية العلمائية لتحقيق البعد عن الارتباط بالشكل القيادي التاريخي المنحرف أو الشكل القيادي المعاصر الأشد انحرافاً.

ولهذا فان السيد الشهيد يختار خطاً غاية في الحساسية بين خطوط عديدة للنهوض إلا أنه يتميز بنوع من الرفض حتى لبعض خطوط النهضة التي يرى أنها لا تفي بشروط النهضة الكاملة ولهذا فانه يوجه نقداً لاذعاً للأحزاب الإسلامية من زاوية كونها اطروحة نهضة بنفس الطريقة التي يوجه فيها النقد إلى الاشكال الأخرى من قبيل ما يسميه (حركة الأعمال الفردية) فيقول (طبيعة هذه الحركة أنها تبدأ بفرد من رجال الأعمال، نتيجة لتمكن الشعور الإسلامي منه، وتوقد الطاقة والحماس فيه نحو العمل لتظهير الإسلام على الحياة.. ولا نعني بحركة الأعمال الفردية الإسلامية، تلك الحركات المتهافتة، التي يقودها فرد واحد منذ البداية حتى النهاية، ولكن نعني بها الحركة التي لا تؤمن بالمقاييس والمبادئ الثابتة خارجاً وانها تجعل الفرد القائد مقياساً ومبدأ يرتفع فوق كافة المقاييس والمبادئ... فهي تشمل الحركات التي تؤمن بالتنظيم الحزبي، ولا تنظوي تحت القيادة الإسلامية الصحيحة.(8)

فهنا تشخيص كامل لسبل النهضة المطروحة وليست رفضاً كيفياً لهذا الشكل أو ذاك وهناك أيضا معايير هي التي تقود إلى الرفض لأن السيد بدءاً يعارض أي عملية اسقاط للرغبات الخاصة أو الأفكار كما مر في النص السابق حتى لو بدت صحيحة وكاملة بل لابد من الوصول إلى النتائج عبر اخضاع كل شيء لمعايير معينة تحدد الصحيح وفي المآل والنهاية يكون السيد قد حدد أن هناك قيادة إسلامية صحيحة.

وبنفس المعايير المعتمدة يصل الشهيد إلى رفض الاحزاب الإسلامية المبتنية على معايير التعصب والتخرب والغموض والتبعية للخارج ويفرد فصلاً خاصاً حول الأسباب الموجبة لهذا الرفض ويقدمها بأدلتها للأمة وللمثقفين والعلماء للوصول إلى حكم عام ومشترك.

وهكذا يصل إلى أن الحركة الوحيدة التي بامكانها أن تكون رداً على واقع التردي هي حركة المراجع والفقهاء وبعد أن يستكمل الفصل الاخير ويصل إلى النتيجة النهائية يكون الشهيد قد أجاب على التساؤلات التي طرحها بدءاً (كيف يمكنها (الأمة) العروج من درك الهوان إلى قمة الكمال لتعود الأمة خير أمة أخرجت للناس)(9).

وعلى صعيد الحركة العملية فان الشهيد ظل يتابع السبل الممكنة لتحقيق مثل وأهداف في الواقع المعاش ولهذا فانه صار يمتد ضمن مساحة واسعة من العالم الإسلامي وقد طرح كتاب (حضارة في رجل) وهو دراسة في حياة السيد الشهيد السعيد حسن الشيرازي بعض الجوانب الجديرة بالمتابعة ويمكننا أن نرى البعد الأممي واضحاً عنده فهو يتحرك جغرافياً بين القارات فيؤسس هنا ويؤسس هناك قدم في آسيا وأخرى في أفريقيا ونشاط حثيث في الشرق الأوسط في منطقة التعارض الحضاري والتقاطع القيمي حيث يبدي تركيزاً عميقاً فيها فمن العراق إلى سوريا ولبنان والمهاجر الفلسطينية ولعل ذلك كله هو الذي جعل أعداء الله لا يتحملون وجوده وقاموا باغتياله.

على اننا يمكن أن نلاحظ اهتمامه الشديد ومن خلال نفس المنطلقات بالثورة الإسلامية في إيران فهذه الثورة كانت محط أنظار العالم لكنها كانت بالنسبة للشهيد تجربة تاريخية وهذا يبدو واضحاً في لقاءاته وتصحرياته فهو كان يرى نفسه في اتونها فهو يوجه الرسائل ويعقد اللقاءات ويطالب الشاه بالاستقالة متحدثاً باسم العلماء الشيعة بل أنه يذهب إلى الحديث عن النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية في إيران فقد صرح إلى جريدة اللواء السياسي الاثنين 13 شباط 1979 (وبعد أن اجاب على سؤال حول الفرق بين الخليفة والإمام مستشهداً على ذلك بآيات من القرآن الكريم سئل الشهيد الشيرازي كيف تتصورون هيكلية الحكم في إيران إذا قامت الجمهورية الإسلامية. فقال من الأفضل ترك الاجابة على هذا السؤال للقادة الذين في إيران ويمكن أن نتصور هيكلية الحكم بالشكل التالي:

أ. مجلس مراجع يكون بمثابة مجلس قيادة الثورة.

ب. تنظيم ديني يضم رجال الدين والمدنيين يكون بمثابة الحزب الحاكم.

ج. هيكل اداري على غرار سائر الحكومات الديمقراطية بفوارق في نوعية الممارسة والتنظيم)(10).

وهذه الرؤية تحمل عدة دلالات وتثير توقّعاً حول حصول تغيّر في رؤاه السياسية إلا أنه لا يمكن الجزم بوقوع هذا التغير لعدم توفر نصوص صريحة لكن النص السابق ينطوي على احتمالات.

إن السيد ونتيجة لسعيه الطويل لانزال اطروحته الثورية منزل التطبيق حصل له بعض التطور والتغيير بالنسبة لنقده للأحزاب ولعله آمن بامكانية ايجاد شكل من أشكال التنظيمات قادر على التطابق مع اطروحة حركة المراجع حيث يكون هذا التنظيم مستفيداً من الشكل التنظيمي المعروف لكنه من حيث التوجيه يسير في خطى المرجعية وبالتالي فانه سوف لا يصل إلى درجة ارتكاب المخالفات والمخاوف التي أشار إليها في كتابه كلمة الإسلام في الفصل الذي نقد فيه الاحزاب الإسلامية وهذا التغيير يؤيده بعض الذين عايشوا السيد فترة طويلة وعلموا أنه حين رأى الإمكانات الفعلية للأحزاب المنظمة وسعيها المتواصل بعد انتصار الثورة الإسلامية لطرح نفسها كقيادة للثورة من خلال القدرات والإمكانات التي يتيحها الشكل التنظيمي فرأى فائدة التنظيم ولهذا فإنه عمد إلى اجراء هذا التعديل على اطروحة حركة المراجع وبالطبع لا نريد أن ننسب إلى السيد أن تعديله للاطروحة جاء بشكل مفاجئ وبعد انتصار الثورة الإسلامية بل إن مقدمة هذا التعديل جاءت خلال ما يقرب ثلاثين سنة والعمل في عدد كبير من ساحات الصراع في العالم الإسلامي وخارجه وجاءت الثورة الإسلامية كاكبر تطور قاده إلى احداث هذا التغيير في اطروحته النهضوية.

ب. إن السيد لم يكن قد غير من آراءه بل نراه يحاول طرحها لتكون مشروعاً مقبولاً لدى الثورة وان الحديث عن التنظيم لا يعبر عن تغيير إلا في الشكل دون المضامين فهنا بالنسبة للعنصر القيادي وهو شورى المراجع فانه ثابت وبالنسبة للحزب المرجعي فانه عاد بشكل الحزب الواحد ولكنه حزبٌ يهيمن فيه علماء الدين وهؤلاء منظمون بشكل تلقائي مع المرجعية وهو بهذه الحالة يصبح حزباً مرجعياً تلقائياً ولعل السيد حين يتاح له البحث في التفاصيل فانه سيبين شكلاً هو نفسه الشكل الذي يقترحه لكن دون شك أن الجديد ما أشار إليه من وجود الحزب الحاكم وهذا طبعاً لا يلتقي في اطروحة الحركة المرجعية حيث لا يوجد أي حزب حاكم بل هناك مراجع ومقلدون وكل منهم مع مقلديه يمثل حزباً وكلهم ممثلون في مجلس القيادة.

ج. إن السيد لا يتحدث عن ما يؤمن به بل يتحدث عن حالة يتعاطف معها لكنها ليست اطروحته بل هي تشبهها في جوانب كثيرة ولهذا فانه يتوقع أن تأتي قريبة من الشكل الذي يؤمن به لكنها ليست مطابقة له ولعله من خلال معرفته ببعض التفاصيل يتوقع أن يكون للثورة الإسلامية حزب حاكم وهو ما حصل بالفعل حيث اعلن عن قيام الحزب الجمهوري وهو حزب جماهيري اقرب إلى التجمع منه إلى الحزب المنظم والذي لم يلبث أن انحل بسبب هذه الحالة ووجود العدد الهائل من الأعضاء غير المتجانسين فكرياً والذين لا توحدهم سوى شعارات الثورة.

والحصيلة التي نخرج به أن السيد يمكن أن يكون قد غير بعض من آراءه للوصول إلى افضل النتائج عند السعي لتطبيق اطروحة النهضة التي يسميها بشورى المراجع لكننا نفتقر إلى الأدلة الحاسمة على ذلك خصوصاً أن السيد الشهيد لم يتمكن من الإشراف على تراثه الفكري في حياته بعد أن عاجله أعداء الإسلام ومهما يكن فان الاطروحة بالتعديل أو بدونه اطروحة نهوض قادرة على تقديم الكثير للامة وخصوصاً في هذه المرحلة بعد أن بلغت فيها حركة النهوض وبمختلف تياراتها الكثير من النضج وتعلمت الدروس والقدرة على الفرز بين الممكن وسواه من الحلم الثوري النهضوي بمعناه العام.

1 - كلمة الإسلام - الشهيد السيد حسن الشيرازي، مؤسسة الوفاء، ص15.

2 - نفس المصدر، ص15.

3 - نفس المصدر، ص16.

4 - نفس المصدر، ص17.

5 - نفس المصدر، ص31.

6 - نفس المصدر، ص22-23.

7 - نفس المصدر، ص37.

8 - نفس المصدر، ص136.

9 - نفس المصدر، ص16.

10 - حضارة في رجل دراسة في حياة آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي - السيد عبد الله الهاشمي - دار الشهيد - للطباعة والتوزيع ، بيروت لبنان - الطبعة الخامسة، ص345.