2000

آب

1421

جمادى الاولى

48

العدد

النبأ

مجلة

العنف المعنوي

تدمير لأسس الحياة

Aljarah@annabaa.org حيدر الجراح

العنف المعنوي

مظاهر العنف

أسباب التطرف

تتعدد مظاهر العنف وصوره في حياتنا.. وتبرز لوحة واقعنا المعاصر أشكالا متنوعة عنه.. تلك اللوحة تتداخل فيها الألوان والخطوط بشكل مشوّه وإنْ طغت الألوان القاتمة عليها..

والإنسان راسم تلك اللوحة أو الناظر إليها، والذي يمارس العنف أو يمارَس عليه، نراه يعيش عواقبه المهددة لوجوده الإنساني ولرغباته ولمصالحه واستقرار حياته، هذا الإنسان المعنّف والمعنّف لا ينفك يتساءل في الوقت نفسه عن هذه الخطوط والألوان والتي أصبحت مكثفة وصارخة بالعنف. 

المتأمل لخطوط اللوحة وألوانها، يكتشف أن ما بداخلها يسند بعضه البعض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يخفي البعض فيها البعض الآخر، وهذا في الحقيقة ما يجعلها عصية على الفهم منذ الوهلة الأولى وصعبة عند محاولة تفسيرها..

مظاهر العنف في حياتنا اليوم مثيرة للاهتمام والجدل لأن ما نراه من إفرازاتها ما لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.

فحتى مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي الهادفة إلى تحقيق اكبر قدر من الرفاه للإنسان، أصبحت اليوم عنصراً جديداً تستند إليه أشكال من العنف المتبادل الأكثر قسوة. بما لم يكن له نظير في السابق.

التعصب والتطرف.. خطوة أولى نحو العنف..

إن التعصب، وأيّاً كان نوعه، وسواء تعلق بشخص أو بفكرة أو عقيدة فإنه لا يخلو من نزوع غريزي يجد صورته في هذا الحماس الشديد والمنفلت المؤدي إلى العنف..

والتعصب بطبيعة بعده عن التعقل ووقوعه في ضيق الأفق طبع غير سوي يحمل المخاطر الكبرى على مستوى الأفراد والجماعات.. هذا التعصب إذا استشرى واستفحل فانه يقود إلى المغالاة والتطرف..

أسباب التطرف

هناك أسباب كثيرة ومختلفة للتطرف، قد تعمل مجتمعة أو منفردة في بروزه إلى العلن.. منها:

الأوضاع الاجتماعية التي يستشري فيها القهر والظلم والاضطهاد وجميع صور الاستلاب، تؤدي إلى قيام المرء بردات فعل تتوسل العنف طريقاً للتغيير بقدر ما تنحو إلى التطرف في التفكير..

فالإنسان المتهور والذي يرى أن حقوقه مهضومة من جانب الآخرين لا يعود يعترف بأي حق للآخر وربما يعمل على انتهاك جميع الحقوق كردة فعل لا يمكن السيطرة عليها.. مما يؤدي بالتالي إلى التماهي بين شخصيتي الجلاد والضحية..

الفروقات الثقافية والعرقية والتي تحدث بشكل خاص نتيجة الهجرات الحديثة والمعاصرة، والتي تُكره جماعات مختلفة من حيث لغاتها وعقائدها وأعرافها الاجتماعية على العيش المشترك الذي يتطلب صراعاً مع الذات نحو الانفتاح على الآخر أو الانغلاق دونه.

ما يتعلق بالفكر وتعاطيه مع الأفكار الأخرى، حيث يقوم الفكر المتطرف على التبسيط والاختزال أو على الأحادية والانغلاق أو على الرفض وعدم التسامح.. هذه المواقف الفكرية تكون نتيجة الاعتقاد بامتلاك اليقين وحصول الأمان في كل أمر وشأن سواء في مجال المعرفة أو النظرية أو في مجال العمل والممارسة.

الأصول النفسية التي تتمثل على نحو خاص في فقدان الأمن الذي يفسح المجال للهواجس والوساوس المنتجة للمغالاة في الفكر والسلوك فمن لا يأمن من الجوع أو الخوف قد يتطرف في تصرفاته بقدر ما يضطرب أمنه الذاتي، النفسي أو الغذائي.. وهذا السبب يفسر لنا الكثير من الانفجارات التي تشهدها بعض المجتمعات المهددة بالبطالة من الداخل أو بالأخطار من الخارج..

مظاهر العنف

من مظاهر العنف لدى الإنسان، الذي يمارس العنف بأي صورة كانت أو يمارس عليه، أو يعيش آثاره في حياته، تساؤلات مستمرة لا تنقطع عن موقع هذا العنف من كيانه ووجوده..

فهل يمثل العنف كما يبدو للرائي، حقيقة متأصلة في كيان الإنسان لافكاك له منها؟ أم هو إضافة طارئة على ماهية الإنسان بفعل عوامل خارجية لا دخل له فيها؟ وهل يتحدد مصير الإنسان في الاستجابة لمظاهر العنف الكامنة في كيانه، أم في اقتلاع جذوره الناجمة عن شروط خارج ذاته؟

ربما يمكن الإجابة عن تلك الأسئلة لو تعرفنا على مظاهر العنف ومستوياته المتعددة داخل اللوحة الإنسانية..

عن ابرز تلك المظاهر ما يكون فيه العنف مهدداً للحياة الإنسانية كلها.. وهذا ما نلاحظه في الحروب التي تسجل ازدياداً مضطرداً في هذا العصر.. والتي ازداد مقدار تهديدها للإنسان بفعل تجدد وسائلها وامكان فتكها بحياة الإنسان والملايين من الناس.. تلك الحروب التي تخرج جميع كوامن التدمير من داخل الإنسان لتطلقها باتجاه الآخر بصورة مرعبة ومقززة أيضاً..

وثمة مظاهر عنف الإنسان ضد ذاته، وهي التي تشكل في حياته ما يسميه المحللون النفسيون بالميل نحو التدمير الذاتي..

وهناك مظاهر العنف التي تأخذ شكل العدوان على الغير في كيانه أو في حقه أو في حياته جزئياً أو كلياً وهذا ما يدعى بالعدوانية.

وتوجد أنواع من العنف المتبادل في حياة المتجمعات بين الجنسين المكونين للنوع البشري أو بين الأصول المختلفة التي يضمها مجتمع واحد، أو بين الأجيال المتعاقبة أو الفئات التي تتباين أوضاعها في كل مجتمع..

وضمن هذه الأوضاع أيضاً يوجد عنف التقاليد في حق الفرد، أو في موقف الفرد من تقاليد وعادات ومعتقدات مجتمعه الكبير أو مجتمعه الصغير في الأسرة أو المحيط المباشر..

إضافة إلى عنف فترات التغيير التي تمر بها المجتمعات بالنسبة لمن يقدر لهم أن يعيشوا في ظل شروط تغييرها المضطربة..

العنف المعنوي

ثمة حاجة للتمييز بين نوعين من العنف، العنف المادي ـ وهو ما تم التركيز عليه في مقالات سابقة ـ والعنف المعنوي ـ العنف المادي يلحق الضرر بالموضوع (الذي يمارس عليه العنف) مادياً في البدن أو في الحقوق أو في المصالح أو في الأمن.. الخ.. أما العنف المعنوي فيلحق ذلك الضرر بالموضوع سيكولوجياً؛ في الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة والكرامة والاعتبار والتوازن ولا يقل الثاني عن الأول في فداحة العواقب.. وهو وإن لم يكن يمس حق الحياة لدى الفرد أو الجماعة، كما هو شأن العنف المادي أحيانا، إلا أنه يصيب المعرَّض له فيما قد يكون مقدساً لديه.. بل قد يكون هذا الضرب من العنف مرحلة نحو ممارسة العنف المادي..

ويمكن تعريفه أيضاً: بأنه استعمال شتى أنواع الضغوط النفسية على الإنسان، للسيطرة على أفكاره وتصرفاته الاجتماعية ومبادئه الإنسانية والحد من حرية تفكيره..

وعلى العموم، لا يختلف معنى العنف في هذا النوع عن معناه في الثاني وهو: انتزاع المطالب بالقوة، واكراه الآخر على التنازل عنها أو الاعتراف بها بوسائط يتكبد خسائر من جراء استعمالها..

إذ من الممكن الضغط على الإنسان بواسطة التوبيخ والملامة لتحقيق غرض ما وليس غيره، أو استخدام وسائل التهديد أو الترغيب أو الضغط المادي (مثلاً للحصول عل المال عليك القيام بكذا وكذا) ـ إذاً يتخذ العنف المعنوي كافة الأشكال التي تتنافى مع معتقدات الإنسان ـ ويمكن لنا أن نحدد ابرز المميزات أو الصفات التي تطبع شخصية الإنسان الذي يمارس العنف المعنوي على الآخرين: وهي:

أنه إنسان يحقد على الوجود، لا يحترم حرية ووجود الآخر، عادة يكون قد حرم في طفولته من حريته الشخصية ومن حرية القرار، فيستعيض عن ذلك بسلب حرية الآخرين كما سلبت حريته هو، أو يكون قد اعتاد الحصول على كل ما يريد وامتلاك كل شيء.. وبذلك يحاول امتلاك قرارات الغير والسيطرة التامة عليهم..

أما مميزات شخصية الضحية فيمكن القول بأنه الشخص الذي تمارس عليه هذه الأنواع من الضغوطات، ويكون عادة ضعيف الشخصية قد اعتاد من خلال تجربته الشخصية أن يملي عليه الناس أفعاله.

ويجب أن نذكر عامل العوز أو الحاجة للشخص الآخر. فإذا كان المعنّف محتاجاً فعلياً للشخص الضاغط، سواء كان ذلك مادياً أو معنوياً فهو يتحمله إن أراد ذلك أو لم يرد..

ويمكننا من خلال علم النفس أن نرسم صورة معينة لكل من النمطين يبدو المعنّف في بداية العلاقة مع الضحية طيباً ودوداً ثم يصبح فيما بعد جافاً ومتعجرفاً.. مستخدماً أسلحته المفضلة في إيقاع الأذى في الطرف الآخر، وهي العزل ورفض التواصل، والتجريد من الحقوق والأهلية والمعاكسة..

في هذه الحالات من غير المجدي دعوة المعنّف إلى التعقل لأنه معتاد على هذا النوع من العلاقات، لا يشعر أبدا بعقدة الذنب، لأن تعذيب الآخرين أمر لا يؤلمه أبداً، بل على العكس هو غير قادر على الشعور بعذاب الآخرين، لانهم بكل بساطة غير موجودين بالنسبة إليه، يرفض الاعتراف بإنسانيتهم..

أما صورة الضحية فيمكن رسمها كالآتي:

تبدو الضحية في اغلب الأحيان، موهوبة مدركة للأوضاع وجذابة، تكرس كامل طاقتها لابراز افضل صورة عنها.. إنها صفات يطمع بها المعنف.. كما تمتاز الضحية بالحيوية والانفتاح على الآخرين.. لذا تعبر بوضوح عن نجاحاتها وسعادتها مما يحثّ المعنف على تجريدها من هذه الامتيازات.

بالإضافة إلى تلك الأمور، تتمتع الضحية عادة بكرم فائض، ولا تعترف بالتعنيف، تحاول العثور على حجج لتبرير تصرفات المعنف.. أما ما يزيد ضعفها فهو شعورها بالمسؤولية وبالذنب..

ومن الجدير ذكره، أنه بالإمكان تهديم شخص ما من دون أن يلاحظ المحيطون به هذا الأمر، عن طريق الكلمات البريئة ظاهرياً أو الإشارات أو الافتراضات أو مجرد الإبعاد..

هذا العنف (الخفي) لكن المتكرر، المزمن وأحياناً اليومي، الذي يصيب نفسية الإنسان ليس جسده بالإرهاق الشديد والألم الذي يعاني منه غالباً بصمت والذي يقوده بالتالي إلى الانكماش والانكفاء نحو الذات، قاتلاً فيه ومقصياً أفضل طاقاته وإبداعاته، مما ينسحب بالتالي إلى طريقة تعامله مع محيطه الصغير أو الكبير، والى عدم التحسب لردود أفعاله التي تتسم غالباً بسمات الطيش والتهور مفضية بالتالي به وبغيره إلى دوامة التطرف والعنف..

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 48

الصفحة الرئيسية