[email protected] 

مرتضى معاش

الحرية اصل عقائدي

الحرية كغاية للتشريع

الاهتداء نحو الحرية

الحرية اصل تكويني

الحرية اصل أولي

الهوامش

خطوات أساسية نحو الحرية

ثمار الحرية وآثارها

لا حرية في ظل الشهوات

الحرية الذاتية

الحرية مفتاح سحري لدخولنا الى عالم الاقوياء وهي قدر لابد ان نسعى اليه بجهد مستمر فلا يمكننا ان ندخل الى عالم الغد باطمئنان ما دمنا نجهل الف باء الحرية ومفرداتها اننا امام تحد مهم يفرض علينا ان نتمسك بالحرية ونتشرب بها من اجل ان نحيى في مستقبل لا استبداد فيه

لماذا لا تستطيع الأمة ان تتحدى الأمم الأخرى وتؤسس لها كيانا موازيا أو متقدما على الأمم الأخرى ؟ هل أن القدر هو الذي جعل المسلمين يعيشون واقعا متخلفا يستمد تطوره ونموه من تبعيته للغرب أم أن التخلف خيار ذاتي كرسه الاستبداد والجهل وغياب الحوار الداخلي البناء ؟

لاشك ان هذا السؤال يوجه للإنسان ذاته أولا ومن ثم للمجتمع أو الأمة، لان الإنسان هو المسؤول عن تشكيل المجتمع عقلا وثقافة ووعيا، فإذا فقد الإنسان القدرة على إنتاج ذاته في إطار المسؤولية الاجتماعية العامة فان المجتمع يفقد مبررات النمو والتقدم. ويبقى المجتمع عاجزا بعجز الفرد عن استثمار طاقاته ومواهبه الروحية والعقلية ويتحول بالتالي إلى كائن سلبي يائس مدمر الهوية بلا هدف. وهنا يتوقف الإنسان والمجتمع عن تأثيره في صناعة التاريخ المتقدم والمتطور ويبقى وجودا هامشيا خلف كواليس التاريخ. وعندما يموت الإنسان عقلا وروحا ويصبح مجرد كائن مادي جامد فان هذا يعني أن المجتمع قد فقد الإنسان المعنى والجوهر الذي يغذيه بالحركة والدافع والطاقة، فالحياة الحقيقية للإنسان هي حياة العقل والروح والفكر وموته في وجوده المادي المجرد.

وهنا نصل إلى حقيقة أساسية تقودنا للدخول في بحثنا المحوري وهو ان وجود الإنسان قائم بعقله وفكره وروحه والعقل غير قادر على تحقيق غايته إذا كان مكبلا والروح لا تعيش مادامت مقيدة والفكر لا يجري مازال مسجونا في أقبية الممنوع. فالحرية هي أساس وجود الإنسان وهي الغذاء الذي يعطي الطاقة والحيوية للإنسان في الاستمرار في الحياة كما يغذي الماء والهواء جسم الإنسان، وبدونها يدفن الإنسان في داخل كيانه المادي.

وعندما تستباح الحرية وتدمر كرامة الإنسان يفقد المجتمع القدرة على تحقيق تكامله الوظائفي وتختل حركته العضوية ويسيطر عليه الشلل في مختلف جوانبه، لان الارتباط العضوي قوي وعميق في البنية الاجتماعية وان لم يكن ظاهرا كما في جسم الإنسان، فإذا اختلت إحدى الوظائف عن أداء دورها العضوي أصيبت باقي الفعاليات بالشلل وتوقف الدور التكاملي والبنائي للمجتمع. وتمثل الحرية الروح والعقل والقلب الذي ينظم حركات المجتمع وادواته وبدون الحرية تفشل الأعضاء في التناسق والتنظيم والتكامل وهذا ما يسمى بالحالة المرضية.

ويرى الباحث في العلوم السياسية موريس ديفرجيه: ان حرية الفكر والتعبير هي ثمرة أساسية لكل تطور اقتصادي وتقدم اجتماعي، فالحد من حرية الفكر يعني تشويه التربية العقلية للأجيال الناشئة بمعناها العميق الذي هو الحرية، وهذا يعني ان مستوى التعليم والتربية العقلية لدى مجموعة أبناء الشعب سيهبط ويفسد، وإذا ما عرفنا بالبديهية التي تقول ان مستوى التقدم العلمي والثقافي في بلد ما إنما يتعلق بمستوى الجهاز العلمي والتقني لابناء البلاد فاننا نستخلص بالضرورة ان هبوط مستوى التربية والتعليم سيقود إلى تأخر في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية1.

ولإثبات دور الحرية الجوهري في حركة الإنسان في الحياة والتاريخ والحضارة فإننا نجد ان الحرية قد أصبحت الحقيقة التي تستند عليها معظم المبادئ والأديان في صراعها الأيديولوجي والفكري والعقائدي في معاركها الحقيقية والحقوقية باعتبار ان الحياة الواقعية هي وجود كريم للإنسان ينال فيها حقوقه دون إكراه أو إجبار قاسر.

وفي نظرة شاملة لحقيقة الفكر الإسلامي نجد ان الإسلام يعطي أولوية قصوى للحرية كمفهوم عقائدي وفكري واجتماعي شامل لمختلف الجوانب في الحياة الإنسانية، بمعنى ان الحرية تمثل القاعدة الاساسية لمختلف الحقائق والمصاديق التي تتفرع من الفكر الإسلامي.

الحرية اصل أولي

أباح الخالق تعالى للبشر كل شيء في الحياة إلا استثناءات خاصة تخرج من القاعدة بدليل شرعي خاص، وهذا يعني ان القاعدة الأولية هي حرية الإنسان في الحياة والتفكير والعمل و...، يقول تعالى في كتابه الكريم: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور)الملك15، فالله تعالى هو المنعم والواهب والرازق وهو صاحب الحساب. وفي الحديث: كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه. وفي حديث اخر: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي. فان هذه الأدلة تدل على ان الأصل الأولي في الإسلام هو الحرية في تصرفات الإنسان وافعاله وسلطانه، يقول الامام الشيرازي في الفقه السياسة: الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الأخر بجميع اقسام الحرية اذ لاوجه لتسلط إنسان على اخر وهو مثله ويدل على اصالة الحرية في الإنسان قول علي أمير المؤمنين…: لاتكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا. ويضيف سماحته قائلا: كل إنسان حر في خصوصيات العمل من كميته وكيفيته وغير ذلك لان الناس مسلطون على أموالهم وانفسهم2.

ان الحرية هي حق الإنسان ان يعيش في حياته كريما مختارا بالتعايش مع حريات الآخرين وعدم الأضرار بهم.

الحرية اصل تكويني

لا يمكن معرفة جوهر الإنسان في صورته الواقعية إلا بفهم حقيقته التكوينية وخصائص الخلق والفطرة فيه، لأننا عبر ذلك نكتشف ان الحرية والاختيار هو أساس تكويني في وجوده وحركته وغايته. فالانسان تكوينا مختار وحر والله تعالى خلقه كذلك وهي نعمة منه عزوجل على البشر فميزهم عن باقي المخلوقات بنعمة الحرية والعقل والقدرة على التفكير والاختيار، يقول تعالى في الكتاب الحكيم: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)الاسراء70. فالإنسان فضل بالحرية وغاية خلقه وكماله تتحقق في الحرية ومن هذا الاتجاه تتفرع الأسس التي قامت عليها حياة الإنسان، اما القوانين الكونية فهي إطار ثابت تتحفز فيه مواهب الإنسان وطاقاته الفكرية لاختيار ما هو افضل له وبذلك يتحقق له التكامل التصاعدي.

ويرى صاحب تفسير الميزان: ان الإنسان مختار في الافعال المنتسبة اليه الصادرة عنه باختياره أي انه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل والترك بحسب الفطرة غير مقيد بشيء من الجانبين ولا مغلول وهو المراد بحرية الإنسان تكوينا.

وكما يقول الفلاسفة فان لكل شيء كمالا يتشكل وينمو في إطاره، فالحيوان مثلا كماله في انه مسير بغرائزه ولا يستطيع ان يسير إلا في إطارها ولا يستطيع ان يفكر ويتخير في اتخاذ القرارات بين الفعل والترك. والانسان كماله انه مخير وحر في اتخاذ القرار، وانه قادر على التمييز والادراك بين مقتضيات وظروف الفعل والترك.ومن هنا فان سعادة الإنسان وشقاوته تنبع من هذا الاطار التكويني، فقد وضع الله سعادة الإنسان وشقاءه على أساس الاختيار وعرفهم الطاعة المفضية إلى السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء.

ان فهم الحقيقة التكوينية يقودنا إلى معرفة حتمية الحرية وان كمال الإنسان وسعادته تدور في فلك هذه الحتمية، لاننا عبر هذا الفهم نعرف كيف نضع الإنسان ونتعامل معه في الاطار الصحيح فلا تنفى حريته ويسلب اختياره ولا يعطى الحرية المطلقة الخارجة عن إطار التكوين والتشريع. ومن هنا فإننا نعرف معنى الحديث المعروف: لا جبر ولا تفويض وانما أمر بين بين. وهذا يفسر حركة الإنسان في الاطر التكوينية التي وضعها تعالى ومن هذه الاطر الحرية والقدرة على الاختيار. يقول تعالى: (ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس7

الاهتداء نحو الحرية

إذا كانت الحرية الإنسانية نابعة من اصل التكوين الإنساني فان الهداية الإلهية هي إرشاد الإنسان إلى مكمون هذه الطاقة الكبيرة والى عظمتها. فقد كان الهدف من الهداية هو توضيح الطريق للإنسان ليكون قادرا على فهم مضمون حريته من اجل الوصول إلى كماله المطلوب. والهداية قد تكون تكوينية حيث زرع الله تعالى في أعماق الإنسان معارف وادراكات قطعية قد تسمى بالفطرة أو الوحي، فالإنسان في أعماق ذاته يشعر بوجود الله تعالى ويشعر بحب الخير والفضائل، ويشعر كذلك بمعنى الحرية في فطرته وداخل نفسه ووحي ضميره وانه مسؤول ومدرك لأفعاله لذا فقد يكون معنى الهداية هو الحرية والقدرة على الاختيار. وقد تكون الهداية تشريعية تهدف إلى إرشاد الإنسان إلى الحرية التكوينية التي فطر عليها عبر الاستفادة من عقله في إدراك وتمييز الحقائق، فهدف الهداية التشريعية يسير في إطار الهداية التكوينية بما تمثله من إرشاد وتوجيه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا) الانسان3، فالهداية كما في تفسير الميزان تعني هنا: ارائة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب، والسبيل هو المؤدي إلى الغاية المطلوبة، والسبيل المهدى اليه الإنسان اختياري وان الشكر والكفر واقعان في مستقر الاختيار للإنسان ان يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه واجبار.

ويتوضح هذا المعنى في هذه الآية القرانية: (الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين)البلد8 . فالهداية التكوينية تعني الحرية والقدرة على الادراك المتعدد والهداية التشريعية هي ارشاد لحرية الإنسان في اختيار طريق الخير دون قسر وإكراه.

الحرية كغاية للتشريع

ان اثبات الحرية التكوينية يقودنا إلى ضرورة الحرية كقاعدة أساسية للتشريع والقانون، إذ ان: لازم هذه الحرية (التكوينية) حرية أخرى تشريعية في حياته الاجتماعية وهو ان يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة وليس لأحد ان يستعبده أو يتملك إرادته فان أفراد هذا النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة.(كما في تفسير الميزان)

ان ما يهدف إليه التشريع والقانون بالدرجة الأولى هو تنظيم الحياة الاجتماعية للناس وإيجاد التكامل السليم بين فئات المجتمع للوصول إلى السعادة والكمال. ويعتمد نجاح هذا الأمر على مدى تلبية الشريعة لحاجات الناس وفهمها لمتطلبات الواقع لان من شروط نجاح الشريعة والقانون هو تفاعل الإنسان مع القانون تفاعلا إيجابيا واعيا يرتكز على القبول المتبادل والإقناع الهادئ عبر اعتماد أساسي وهو حرية الفرد واحترام رأيه وكرامته ، لذلك تفشل الشرائع والقوانين التي تفرض نفسها بالقوة والقسر على الناس. وعلى هذا يرى البعض ان: قوة القانون في تحديد أساليب السلوك الاجتماعي تعتمد لدرجة كبيرة على مقدرته في خلق شعور عام بالاستحسان والقبول وكل ما يسعى لعمله يجب ان يتميز باستناده على أسس معقولة تقنع أولئك الذين ستسيطر مبادئه على حياتهم، والتشريع الذي لايحقق هذا الشرط لابد ان يفشل دائما بل ويؤدي دائما إلى ازدراء نظرية القانون نفسها.3 لذلك فان التشريع الذي لا يقف على قاعدة الحرية كمصدر أساسي وفطري للتشريع لا يستطيع ان يحقق غاياته المنشودة في تحقيق العدالة والسعادة.

وقد قام التشريع الإسلامي على اصل الحرية واعتمد اسلوب الاقناع من اجل غاية اولى وهي تحرير البشر من عبودية الظلم والاستبداد والشهوات، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم)الاعراف157 فالآية توضح أهداف الشريعة الإسلامية وان الغاية والفسلفة من التشريع تنصب في رفع القيود السياسية والاجتماعية التي تغل حركة الإنسان وتقيده عن ممارسة دوره الطبيعي في الحياة، ورفع الاصار النفسية التي تستعبد الإنسان في ظل شهواته ورغباته وخوفه ورعبه. لان التشريع الذي لا يسير في إطار تحرير الإنسان لا يستطيع ان يؤهل الإنسان اجتماعيا وسياسيا وإنسانيا تأهيلا سليما. ذلك ان: الاستبداد يفيض بسهولة من تراكم التقييدات التافهة ولذلك فمن الضروري التأكد ان كلا منها له ضرورة اجتماعية، لكنني لا أستطيع الاقتناع بخدمة مبادئ تدعي الصواب والعدل إذا كان نتيجتها هي تحويل معبد الحرية إلى سجن لخفقات الناس.4

وقد وضع الدين الإسلامي بالاضافة إلى سائر التشريعات والقوانين قواعد أساسية تنظم الحرية في إطار عملي توسع المجال للفرد ان يشارك ويساهم بفعالية في صنع القرار مثل قاعدة الشورى التي وردت في آيات قرآنية منها: (وشاورهم في الأمر)، حيث تدل هذه الآية القرآنية على ان التنظيم الاجتماعي والسياسي يتم عبر المداولة الحرة للأفراد في التعبير عن آرائهم والالتزام برأي الأكثرية لإيجاد التماسك والوحدة والتجمع حول القائد عبر الإرادة الجماعية. وبعبارة أخرى فان الشورى تمثل البعد القانوني والدستوري لتطبيق مفهوم الحرية بصورة سليمة في إطار التعاقد الذي يتم بين الأمة والدولة.

ويمثل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسلوبا اخر في ممارسة الفرد لحرياته ومشاركته في أداء مسؤولياته في الرقابة المشتركة على المجتمع ومحاسبة الدولة على أدائها، وهذا يمثل أرقى أدوات الحرية والتعبير عن الرأي في مجتمع يتحول فيه الفرد إلى مسؤول ناضج يمارس دوره بوعي والتزام. وعن الإمام علي بن الحسين( في رسالة الحقوق: وحق السلطان ان تعلم انك جعلت له فتنة وانه مبتلى فيك بما جعله عزوجل له من السلطان وان تخلص له في النصيحة وان لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

فممارسة الفرد حريته في نقد الحاكم والتعبير عن رأيه هو من الحقوق الاساسية في التشريع الإسلامي ولايمكن للفرد ان يضيعه.

وعن الإمام علي بن أبى طالب… في إحدى خطبه: ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي..فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق ان اخطىء ولا آمن ذلك من فعلي إلا ان يكفي الله من نفسي ما هو املك به مني، فإنما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره.

فالحرية والشورى والأمر بالمعروف هي من أولويات ممارسة الحكم الإسلامي لإحقاق العدل والتزام الحق، فالكل يتساوى أمام الله وهو يمارس حقه المشروع في التعبير والنقد والمشاورة.

الحرية اصل عقائدي

تشكل الحرية اصلا عقائديا يمثل محورا أساسيا في الإيمان بأصل التوحيد والعدل والمعاد، وهذا يعني ان إنكار الحرية وسلب الاختيار عن الإنسان قد يؤدي بصورة غير مباشرة إلى إنكار هذه الأصول العقائدية والى إثارة مجموعة إشكاليات.

أولا: ان إنكار الحرية يعني مشاركة عبودية الإنسان لغير الله تعالى أيضا، وهو أمر غير صحيح فالعبودية لله تعالى وحده والإنسان مسؤول أمام حكم الله فقط. واصل التوحيد يؤكد ان عبودية الإنسان لله وحده وانه يتساوى مع الآخرين أمام الباري تعالى، فقول البعض بعدم حرية الإنسان هو قول يؤدي بالنتيجة إلى عبودية الإنسان لغير الله .

وثانيا: ان القول بعدم الحرية يعني القول بالجبر وسلب قدرة الإنسان على الاختيار، وهذا الامر يقود إلى مجموعة نتائج أساسية منها:

عبثية خلق الإنسان وعدم تحقق الغاية من وجوده إذ مع عدم حريته تبطل فلسفة الابتلاء.

مع كون أفعال الإنسان جبرية تصبح أفعاله غير هادفة ويلغى دوره العقلي والفكري والحضاري وبالتالي يلغى شيء اسمه العقل ويصبح من غير الحكمة ان تدرس نتاجاته وافعاله وتقيم لأنه غير مسؤول عنها.

اختلاط الحقائق والقيم وعدم معرفة الصحيح منها والباطل وعدم إدراك الخير والشر لان العقل حينئذ لا يصبح كاشفا ومدركا للواقع مع عدم أهلية الإنسان للاختيار، لذا لايمكن الحكم على شيء بصحته مادام يفقد قيمته الذاتية.

والقول بعدم الحرية قول بان الإنسان لا يملك الإحساس الداخلي والشعور النفسي بقيمة افعاله ونتائجها وبذلك يفقد ضميره الذي يقوده نحو الخير ويلومه على فعل الشر.

وثالثا: فان هذه المبررات تنفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله وذلك يعني نفي حقيقة الثواب والعقاب وإلغاء كافة القوانين والشرائع ومحاكم الجزاء إذ كيف يمكن مكافأة إنسان أو عقابه عن شيء هو غير مسؤول عنها.

ورابعا: فان القول بعدم الحرية يعني انتفاء الغاية من بعث الرسل والأنبياء ووجود الأئمة عليهم السلام أجمعين، إذ ما الفائدة من وجودهم مع عدم قدرة الإنسان على الاختيار، لان دور الأنبياء والرسل هو إرشاد العاقل الحر وإثارة عقل الإنسان وتوجيهه نحو طريق الخير والفضيلة والقاء الحجة الإلهية عليه.

كل هذه الأمور تقودنا إلى مسألة العدل الإلهي والحساب والعقاب في يوم المعاد لان تكليف الإنسان وثوابه وعقابه يدخل في مسألة العدل الإلهي، فالله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة وهو العدل الذي خلق كل شيء بميزان، فإنا: نشهد انه العدل الذي لا يجور والحكيم الذي لا يظلم وانه لا يكلف عباده مالا يطيقون ولا يتعبدهم بما ليس لهم إليه سبيل ولا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يعذب أحدا على ما ليس من فعله ولا يلومه على ما خلقه فيه، وهو المنزه عن القبائح والمبرأ من الفواحش والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان ولا يريد ظلما للعباد، والعقل يدرك انه سبحانه لحكمته وقدرته وغناه صدور القبيح منه محال لأنه لو فعل القبيح والظلم لكان اما جاهلا بالقبح أو عالما به عاجزا عن تركه أو محتاجا إلى فعله أو قادرا غير محتاج بل يفعله عبثا وعلى الأول يلزم كونه جاهلا وعلى الثاني كونه عاجزا والثالث محتاجا والرابع سفيها، والكل عليه محال.5 وكذلك فان هناك: ارتباطا بين الاختيار والعدل من جهة والجبر ونفي العدل من جهة أخرى أي عندما يكون الإنسان مختارا فانه يصبح للجزاء والمكافأة مفهوم ومعنى، اما الإنسان المسلوب الإرادة والمحروم من الحرية أو الذي يقابل الإرادة الإلهية مغلول اليدين مغمض العينين فإنه لا معنى للتكليف ولا للجزاء بالنسبة إليه.6

وقد شرح الإمام أمير المؤمنين حقيقة الإرادة والحرية الإنسانية وارتباطها بالعدل الالهي والجزاء والتكليف بصورة واضحة تبين ان الحرية اصل أساسي في العقيدة الإسلامية حيث قال… عندما سأله ذلك الشيخ: (فوالله لقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وانتم سائرون وفي مقامكم وانتم مقيمون وفي منصرفكم وانتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين..أو تظن انه كان قضاءا حتما وقدرا لازما، انه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد ولم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب..ان الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا واعطى على القليل الكثير ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات والارض ومابينهما باطلا ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا).

اذن لابد من القول بالحرية والاختيار لانها بذلك هي اصل عقائدي يدخل في إطار العدل الإلهي والأصول العقائدية.

ان الكمال البشرى والتقدم الحضاري الذي يسعى اليه البشر لتحقيق السعادة لايمكن تحقيقه إلا في إطار الحرية التي تقود لاستخلاص الإنسان طريق العقل والخير والعدالة، فالاستبداد ظلم وشر والحرية الواعية عدالة وخير، لان: الحقيقة لا تنشأ إلا بالعقل وان الابتعاد عن طريق العقل كأسلوب لتحقيق الاقتناع هو دائما دليل على الرغبة في حماية الظلم، واحترام الحرية هو وحده الذي يمكنه ان يضفي الجمال على حياة الناس.7

الحرية الذاتية منطلق الحريات

تمثل الحرية العنصر الأول لصنع تاريخ المستقبل، والإنسان الحر يشكل الروح التي تنتج ثمار التقدم والبناء والتطور. ولكن لايمكن لهذا الإنسان ان يبدأ حركته الكمالية المتصاعدة ما لم يبدأ عملية تحرره الداخلي والنفسي ويحس بالحرية إحساسا واقعيا واعيا وشاعرا بها، فالحرية ليست مجرد عملية آلية وقانونية توفر هذه المساحة المنفتحة من الحركة بل هي حركة ذاتية يبدأها الإنسان من داخله بوعي وادراك وفهم لحقيقتها. فما فائدة الحرية عندما لا يفهم منها الإنسان إلا أبعادها المادية ولذائذها الشهوانية ولا يحس بأي مسؤولية واعية اتجاه العنصر المسؤول في جوهر الحرية. وما فائدة مساحة الحرية اذا كان داخل الإنسان مكبلا بالرعب والخوف والجهل والاستعباد والاستبداد. فلا يمكن: ان تجد الحرية عدوا اكثر دهاءا وبطشا من إحساس الناس بالجمود أو العجز فالذين ذاقوا طعم الحرية لايمكن ان يفرطوا فيها اذا تنبهوا للخطر الذي يحيط بهم لكن ضعفهم يتركز في عدم قدرتهم على اختراق القناع الذي يتظاهر به أعداؤها فلقد تعودوا على الطاعة ولم يتعلموا كيف يقرأون دروس الحركة التاريخية.8 فعندما يسيطر العجز والانعزال واللامبالاة على حياة الناس تصبح الحرية لا معنى لها وألعوبة بيد أصحاب المصالح ويفقد المجتمع تدريجيا القدرة على النمو والتطور، وهذا الأمر خطير لأنه يؤدي تدريجيا إلى تسلط الاستبداد وإلغاء الحرية. وبعبارة أخرى فان الحرية تسير في طريق الاندثار عندما يموت إحساس الفرد بحريته ووعيه وإدراكه لحقيقة فعله ومسئوليته، فالنشاط الحقيقي للمجتمع يبدأ من عقل الفرد ووعيه.

ان الحرية الواقعية تبدأ من عملية التغيير الذاتي التي تقود لإيجاد وعي شامل وعام بمفاهيمها وأهميتها، فعندما يبدأ الفرد بادراك القوانين التي تؤثر في تشكيل حياته ويفهم أسبابها وقدرته على استثمارها لنموه وتقدمه وسعادته فانه يبدأ الخطوة الأولى لمسيرته السليمة نحو الحرية. أي انه: واع لكونه خاضعا لحوادث تكون نتيجتها قوانين عامة دائمة ومستقلة عن إرادته يلاحظها ويدركها بذكائه، وبفعل من حريته في الاختيار يخلق كذلك حوادث يعرف انه هو نفسه صاحبها ولهذه الحوادث نتائجها وهي تمتزج بنسيج حياته.9

لذلك لابد ان تبدأ الحرية من خلال تشكيل الفرد لوعيه وفهمه لمعانيها، لان الحرية عملية تكامل ذاتي يبدأ من تمحيص الإنسان ورؤيته للواقع عبر مرآة عقله وبذلك يتصاعد نموه الفكري والعقلي بأهمية فعله وحريته. اما محاولة: حماية الإنسان عند كل خطوة من تجارب قد تضره فهذا ليس بمستحيل فقط ولكنه خطر ايضا، لان ذلك يجعله يقضي حياته تحت وصاية خوف دائم من العواقب والنتيجة هو تشبعه بذلك الإحساس بالحرمان الدائم الذي هو ألد أعداء الحرية.10 فالإنسان لا يستطيع ان ينمو تحت ظل تجارب الآخرين بل لابد ان يستوحي تجاربه الخاصة من خلال الاستفادة الذكية من تجارب الآخرين وإلا فان التبعية المطلقة تهدم شخصية الإنسان وتجعله يعيش تحت وصاية إرادة الآخرين ومشيئتهم.

لا حرية في ظل الشهوات

ان الاستعباد الحقيقي لا يأتي من الخارج فقط بل ان الأخطر منه هو الاستعباد الداخلي حين تسيطر على الإنسان أهواءه وشهواته وغرائزه ويكون عبدا ذليلا لها تأخذه أينما شاءت، وهذا الاستعباد الداخلي هو مصدر للشرور الخارجية ووقوع الإنسان في دائرة الاستعباد الخارجي، فالإنسان يفقد حريته عندما يفقد قدرة تسلطه على نفسه. وقد قال أمير المؤمنين… معبرا عن ان الحرية من الذات: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا.

و يرى توكفيل: ان النزعة الفردية في المجتمعات الديمقراطية سوف تؤدي في النهاية إلى ابتعاد الناس عن الحياة العامة وانشغالهم بمصالحهم المادية الضيقة مما يمهد الطريق امام الحكم الاستبدادي.11 ويتساءل مونتسكيو: ان الناس يحبون الحرية ويكرهون القهر والعنف وتتنفر من الطغاة فلماذا يعيش معظم الناس في العالم تحت الاستبداد؟ ويجيب قائلا: ان الشرط الوحيد لقيام الاستبداد هو الشهوات الإنسانية وهذه موجودة في كل مكان.

وقد وردت روايات كثيرة عن اهل البيت عليهم السلام تؤيد هذا المطلب منها ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) مثل: الحريص أسير مهانة لا يفك أسره، عبد المطامع مسترق وكل طامع أسير، لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا، لا تكونوا عبيد الأهواء والمطامع، عبد الشهوة أسير لا ينفك أسره، مغلوب الهوى دائم الشقاء مؤبد الرق.

ويمكن فهم كلمة الأمام الحسين(ع) في يوم عاشوراء من هذا المنطلق حيث قال مخاطبا معسكر يزيد: ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تؤمنون بالمعاد فكونوا أحرارا في دنياكم. فعندما يكون الإنسان أسيرا وعبدا لمصالحه الضيقة يفقد الرؤية الصائبة ولكن عندما يتجرد عن مصالحه وأهواءه وشهواته يتحرك ضميره وتنبعث منه الروح الحرة. فإذا تحررت روح الإنسان من التعصب والشهوة والجهل ورجع إلى فطرته النقية فانه بالتأكيد سوف ينقاد نحو الفضائل والأخلاقيات السامية والإيمان بالدين والمعاد.

ان نقطة الضعف الخطرة عند الناس هي التفكير الدائم بالمعيشة المادية اليومية الضيقة مما يجعلهم في رعب وقلق على مصالحهم وبالتالي يتخلون عن حريتهم بسهولة في سبيل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم،ولكن ما لا يرونه في المستقبل البعيد هو ان الاقتصاد بدون الحرية لا يحصل على استقراره وامنه وبالتالي يخسرون الكل لخوفهم على البعض، فالتضحية بالحرية سوف تقودهم إلى حكم استبدادي كثير القيود يؤدي بالنتيجة إلى توقف الإنتاج وتفشي البطالة والفساد. وبذلك فانهم يتغاضون عن هذه الحقيقة المرة وهي: ان الاطمئنان الاقتصادي ليس هو الحرية رغم انه شرط لايمكن ان تكون الحرية فعالة بدونه على ان الملكية وحدها لا تجعل المرء حرا.12

ان الحرية الحقيقية هي الحرية الروحية وتصبح مساحة الحرية المادية بدونها لا معنى لها خالية من محتوى الوجود الإنساني خصوصا عندما: نربط الحرية بعبارات مثل اللذة والمتعة والإشباع مما يجعلها تافهة وهذه العبارات تؤكد نواحي الحياة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان، اما تعبير تحقيق الذات فيؤكد جوانب الحياة الإنسانية التي تميز الإنسان عن الحيوان وهي مرتبطة بقدرة الإنسان على التفكير والابتكار،والضمير والوعي المنطقتين المقدستين في العقل والروح.13

لذلك تبدأ حركة الإنسان نحو تاريخ المستقبل عندما يسمو بروحه ونفسه لتشكيل جوهر ذاتي يزخر بالاستقلال والروح الحرة والعقل الواعي، فالحضارة لا تصنعها أساليب الحياة المادية والتقنية بل تنتجها روح الإنسان المفعمة بالابتكار والإبداع والرؤية. ولهذا: فان مقدرة الإنسان على ان يكون رائدا للتقدم ومتفهما لماهية الحضارة تتوقف على كونه مفكرا وحرا، وكلما ازداد نشاطه في الكفاح من اجل الوجود ازداد عنده الدافع إلى إصلاح أحواله (المادية والمعيشية) وحينئذ تختلط مثل المصلحة الذاتية مع مثل الحضارة وتفسدها، والحرية المادية ترتبط بالحرية الروحية ارتباطا وثيقا فالحضارة تفترض أناسا أحرارا لان بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع.14

ثمار الحرية وآثارها

بمعرفة آثار الحرية ونتاجاتها يمكن ان نحدد قيمتها وقدرتها على خلق الإنسان وتربيته، فالحرية تفتح آفاق التفكير وتطلق العقل من الأغلال والقيود وتوفر مناخا جيدا للإبداع والابتكار، مما يؤكد خلاقية الإنسان وفاعليته على صنع الخير والتقدم.

والحرية تؤكد المعاني الأخلاقية السامية وتقود الإنسان نحو معرفة الفضائل واصلاح ذاته وتقضي على الظروف والقيود الذي يضعه فيها الاستبداد لتحقيق مآربه، فالرقابة والمحاسبة المستمرة التي توفرها المساحة الحرة لدعاة الإصلاح والفكر والأخلاق تقضي على المستنقع الذي يثير الأمراض الأخلاقية الفتاكة بروح البشر وفكرهم.

والحرية بالإضافة إلى قدرتها على الإصلاح الإيجابي تبني مجتمعا متوازنا ومتماسكا لأنها تحافظ على الحقوق الفردية والاجتماعية لكل فرد فلا يبقى هناك إحساس بالظلم أو القهر، فالمجتمع مع الحرية تنطبق عليه مجموعة مواصفات إيجابية هامة منها:

الوحدة والاتحاد وعدم الانشقاق والتشرذم، لان مع احترام الحريات وحرية الآخر سوف يبقي المجتمع متوحدا على مجموعة قواسم مشتركة يدافع عنها ولا يفرط فيها، وعلى العكس من ذلك فان الاستبداد سوف يقود المجتمع إلى الانشقاق والتفكك لأنه يحرم الآخر من ممارسة حقوقه في التعبير والمشاركة، فان: مجرد المحافظة على المظهر الشكلي للاتحاد لا يساوي الثمن الذي يتكلفه الكبت..والطريق الوحيد للوصول إلى الصواب هو المناقشة الحرة وصعوبة تمييز الصواب من الخطأ في وقت الأزمات إنما يزيد من ضرورة وأهمية الإبقاء على الحرية والتمسك بها.15 فالحرية تبعد المجتمع عن الفوضى وتؤسس نظاما اجتماعيا راسخا يعتمد على التزام الفرد واندماجه فيه بل ان عدم الحرية يقود نحو الفوضى حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصلحته الضيقة والعزلة عن التوحد في المجتمع.

وكذلك فان وجود الحرية يؤدي إلى قوة الدولة وضمان إطاعة القانون حيث ان القسر والإكراه يجعل من الدولة قوة كابتة ومن القانون حالة تعسفية، ومع وجود الحرية فان الناس يشاركون الدولة في تطبيق القانون باقتناع، ذلك ان: الحرية هي الطاعة لكنها طاعة لقانون نضعه بأنفسنا.. وفي المجتمع المثالي الذي يتألف من أفراد بمستوى المسؤولية قلما يشعر الفرد بوجود القوانين لأنها تتضاءل تدريجيا أمام التزامهم بها من غير إكراه أو إجبار.16 فالحرية تعني مشاركة الفرد في إدارة الأمور والمساهمة في صنع القرار وهذا يجعله مدافعا عن الدولة والقانون اذ كلما: زادت درجة مساهمة المواطن كلما زاد احتمال ولائه لتلك القوانين بحرية غير مقيدة، فعملية استشارته تعطيه إحساسا بأهميته ولسوف يشعر انه اكثر من مجرد شخص يتلقى الأوامر وسيتأكد ان الدولة موجودة لتحقيق أهدافه هو وليس أهدافها الخاصة.17

وكذلك فان السلام والأمن سوف يترسخ لان الأجواء الحرة توفر مناخا مناسبا للحوار تسوده المناقشات المنطقية الهادئة والتعبير السلمي للرأي، فالأجواء المتشنجة بالتوتر والعنف والصراع ما هي إلا نتيجة للاستبداد وتقييد مساحات الحرية، فإذا : حدث عنف شعبي فهو دائما لشعور شعبي عميق بالظلم فالرجل العادي لا يمكن دفعه إلى الثورة إلا عندما تكون حكومة الدولة قد خسرت حبه لها، ان تحريم هذه الحرية لا يؤدي إلا لزيادة خطر التهييج لانه يدفعه للعمل في الخفاء.ان العنف والثورة صفتان متناقضتان والثورات تفشل لان أولئك الذين يقومون بها ينكرون الحرية على معارضيهم، ولما كان هذا يفقدهم النقد فانهم لا يعرفون الحدود التي يمكنهم ان يعملوا في نطاقها باطمئنان وسلام.18 ولاشك ان أهم الأخطاء التي تقوم بها الحكومات هي قمع الحرية لأنها بذلك تمهد لانهيارها عبر انفجار العنف المكبوت في أعماقها، فطبيعة الناس في الغالب هي طبيعة مسالمة تنأى عن الدخول في أعمال عنف لكن اليأس والإحباط نتيجة لأجواء الكبت والتقييد يؤدي إلى هذه النتيجة التي تحول المجتمع إلى حالة من عدم الاستقرار والتوتر والقلق. وعلى العكس من ذلك فان الحرية تؤدي دورا كبير ا في تحقيق السلام الاجتماعي العام لأنها بالدرجة الأولى تحقق الاطمئنان الداخلي للفرد والشعور الدائم بالأمن النفسي والراحة الفكرية، حيث ان: حرية الكلام بدون أي قيد يوفر للمتحدث شعورا داخليا بالراحة وإدراكا بذاته وهما عنصران أساسيان لتحقيق ذات الفرد.19

ومع غلبة منطق الحرية في تحقيق الحوار والمشاركة والمداولة والمشاورة فان الكثير من الإشكاليات والسلبيات سوف ترتفع عن مسيرة المجتمع وتتحول نحو التغيير الإيجابي البناء، فعبر الحرية: يستطيع الناس ان يكشفوا عن الفساد وان يوقفوا التجاوزات الطغيانية وان يلزموا الحكومة حدود الميثاق الذي عن طريقه جاء الناس بهذه الحكومة إلى السلطة من خلال الكلام غير العنيف.20

خطوات أساسية نحو الحرية

ان الطريق نحو الحرية طريق طويل لا يتحقق بالأمنيات والكلام أو التغيير الشكلي بل يحتاج الأمر إلى حركة داخلية تنبع من داخل الإنسان الذي يؤمن بذاته ومسئوليته في الحياة أمام نفسه والمجتمع وأمام الله تعالى، ويتسلح بالبصيرة والوعي والتعقل وأدوات تستند على الحوار الهادئ والعمل السلمي والقول اللين.

 فمن هذه الخطوات:

أولا: تحريك العقل وتعويده على التفكير بحرية واستقلال والخروج من دائرة الانغلاق اللاشعوري الذي يكبله بقيود الرعب والخوف والقلق، لان النشاط والحركة الواقعية للإنسان تبدأ من الإنسان نفسه، لذلك نرى ان اغلب الناس في الأجواء الاستبدادية يصابون بحالات التبلد الفكري والسياسي بحيث لا يفكر الفرد إلا بقضاء حياته اليومية وينغمس كليا في تفصيلاتها التافهة والهامشية ويتعطل عقله حينئذ كليا. ان ممارسة الفرد للحرية في عقله باستمرار والتحرر من قيود الفكر المعلبة والأفكار الجاهزة واعطاء الفكر مرونة في الحوار الداخلي والنقد الذاتي وتقبل النقاش بروح التمحيص والفهم سوف تقوده بالنتيجة هذه الأمور نحو نمو مطرد لمعنوياته واحساس داخلي بالاستقلال. فلا يمكن ان يكون للحرية أي معنى إلا إذا كان العقل مدربا على استخدام حريته فبدون ذلك يستحيل ان نتعلم من الحياة وان نستفيد من تجاربنا. ولاشك ان التفكير بالحرية كمطلب إنساني أساسي أول الطريق نحو الحرية.

ثانيا: تغيير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع، اذ ان الفرد ينمو وهو يرى القمع والكبت يسيطر عليه منذ صغره في أسرته وفي مجتمعه ومدرسته وفي أي مكان يذهب إليه حتى تتعود روحه ونفسه على الاستعباد والاستبداد وتصبح الحرية عنده لا معنى لها لانه لم يمارسها ولا يفهمها. لابد ان نعلم ابناءنا الحرية منذ صغرهم ونفسح لهم المجال للحوار واستخدام عقولهم دون قيود للتعبير عن آرائهم بحيث يتعلمون معنى كرامة الإنسان وعزته وشهامته ويعرفون قيمة تحقيق الذات والشعور الواعي بالذات.

ثالثا: يبقى الجهل أحد المعضلات الصعبة التي يفقد الإنسان بها حريته، لانه حينئذ يفقد المعرفة التي ترشده نحو بصيرة متفهمة لحياته ونفسه للتعامل مع الواقع بوعي واستخدام طاقاته ومواهبه بأسلوب سليم، ذلك ان: المعرفة تحرر الفرد لانها تقضي على الخوف اللاعقلائي وكذلك على النزوات والرغبات غير المنطقية.21 ولذلك قيل: احرم رجلا من المعرفة تجعله بلا شك عبدا لأولئك الذين كانوا اسعد منه حظا.

رابعا: الحرية حركة وجهد لانها فعل عقلاني يعتمد على الوعي واكتساب التجارب فهي بالمعنى الدقيق والعميق تحتاج إلى سعي مكثف وجهد مركز لاكتسابها والنمو عبرها، يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فالاهتداء والوصول إلى الغاية يحتاج إلى جهاد مستمر وحركة تقدمية تستمد نجاحها من السعي والوعي. وفي آية أخرى: (وهديناه النجدين) والنجد هو الطريق المرتفع، والنجدين طريق الخير وطريق الشر وسميا بالنجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد والكدح. ويقول الإمام أمير المؤمنين(ع): لاتكونن عبد غيرك وقد جعلك الله سبحانه حرا، فما خيرٌ خيرٍ لا ينال إلا بشر ويسر لا ينال إلا بعسر. فالطريق نحو الخير والحرية لاشك سيواجه فيها الشرور والمصاعب ومادام لا يواجهها فانه سيبقى مستعبدا، فحركة الحرية هي حركة سعي وفعل ونشاط.

خامسا:الإيمان بحرية الآخر قبل حريتي لان الحرية مفهوم شامل لا يتحقق كماله الاجتماعي العام إلا بتحققه العام، فليس من الحرية ان أتنعم بالحرية واستعبد الآخرين أحارب حريتهم واقمع مساحتهم الحرة للتعبير عن رأيهم، أو استبد برأيي واستخدم الإرهاب إذا انتقدني الآخرون. ذلك ان: الحرية كالشعور لا يوجدان بجوهرهما إلا بالنسبة إلى حرية الآخر وشعوره ومن خلالها ولأجلها، وان جوهر الحرية المبدعة هو إبداع الآخر، ان حرية كل إنسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق إلا بتعايش حريات في مجتمع حريات (يمثل) مجتمعات سياسية مؤلفة من اناس أحرار متحلين بالشعور والحرية.22

من كل هذا نصل إلى نتيجة مهمة وهي ان الحرية هي محور تقدم الإنسان في التاريخ وجوهر فاعليته ومعنى إبداعه ورمز تقدمه وقدرته على إنتاج نفسه وصنع كماله وصياغة مستقبله.

ولهذا كانت الحرية في جوهر أصولنا الدينية والعقائدية ومفاهيمنا التشريعية وتراثنا التاريخي الأصيل، لكننا آثرنا ان لا نستفيد من هذه الكنوز النيفسة ونطمر أنفسنا في رمال الاستعباد متدثرين بالاستبداد والجهل والتعصب والعنف على أرصفة التاريخ المظلم.

فالحرية حلم جميل يستغرق أفكارنا ويستحوذ آمالنا لكنه يبقى مجرد حلم خيالي ان يلازمه حركة واعية وفكر ناضج ووعي مدروس وفعل حقيقي.

1 في الديكتاتورية، موريس ايفرجيه.

2 الفقه السياسة، الإمام الشيرازي، ج2، ص213.

3 الحرية في الدولة الحديثة، هارولد لاسكي، ص94.

4 نفس المصدر، 98.

5 الجبر والاختيار، السيد صادق الروحاني، ص80.

6 العدل الالهي، الشيخ المطهري،ص 15.

7 الحرية في الدولة الحديثة، ص 133.

8 نفس المصدر، ص 19.

9 المذاهب الكبرى في التاريخ، ويدجيري، ص 307.

10 الحرية في الدولة الحديثة، ص 94.

11 الثقة، فوكوياما، ص264.

12 المذاهب الكبرى في التريخ، ويدجيري، ص 28.

13 حرية التعبير في مجتمع مفتوح، سموللا، ص 22.

14 فلسفة الحضارة، اشفيتسر، ص 21.

15 الحرية في الدولة الحديثة، ص 74.

16 حدود الحرية، ايزيا برلين، ص30-48.

17 الحرية في الدولة الحديثة، ص 50.

18 نفس المصدر، ص 67.

19 حرية التعبير في مجتمع مفتوح، ص 20.

20 نفس المصدر، ص 25.

21 حدود الحرية، ص 38.

22 الحرية في عصرنا، ريمون بولان، ص 84.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية