مجلة النبأ      العدد 45        صفر  1421       ايار 2000

الحروب الصليبية..

 

و

 

صكوك الغفران!!

الحملة الصليبية الأولى..

فتاوى الجهاد المقدس

أسباب الحروب الصليبية..

خاتمة..

مذابح الصليبيين

لاول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية منذ تأسيسها وحتى الآن يطلب رئيسها البابا يوحنا بولس الثاني الصفح عن الأخطاء التي ارتكبتها وقال (نطلب الصفح عن الانقسامات في صفوف المسيحيين واستخدام العنف الذي لجأ إليه بعض المسيحيين لخدمة الحقيقة والسلوك العدواني الذي اعتمد إزاء اتباع الديانات الأخرى في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ضد المنشقين).. وتابع قائلاً (عن الدور الذي لعبه كل منا، وعن سلوكنا وعن الأعمال التي أدت إلى تشويه صورة الكنيسة نطلب الصفح بكل تواضع).. وأضاف (نحن نصفح ونطلب الصفح)...

واعلن البابا في كلامه بمناسبة (يوم الغفران) للعام 2000 (كم مرة تجاهل المسيحيون الجائعين والعطشى والفقراء والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم).. واوضح البابا أن هدفه من الصفح هو (تطهير الذاكرة من تاريخ حزين من الكراهية والمنافسة)...

وقد قام خمسة كرادلة واسقفان بالاعتذار نيابة عن الكنيسة الكاثوليكية فقد اعترف الكاردينال الفرنسي (روجية اشيغاراي) بالأخطاء التي (خرقت وحدة المسيحيين) وأعرب عن أمله بان (يمهد الله الطريق أمام المصالحة).

واقر رئيس الأساقفة الياباني (ستيفن فوميوهاماو) بالأخطاء التي ارتكبتها الكنيسة (ضد الحب والسلام وحقوق الشعوب واحترام الثقافات والديانات).. وأشار البابا إلى حقبتي الاستعمار واولى بعثات التبشير حين (تنكر المسيحيون للانجيل)..

أما كاردينال النيجر فرانسيس ارينزي فقد تحدث عن الأخطاء التي (مست كرامة المرأة ووحدة الجنس البشري).. واعترف رئيس الأساقفة الفيتنامي فرانسوا كزافيية تغوين (بالأخطاء التي ارتكبت في مجال الحقوق الأساسية للإنسان)..

أما الكاردينال الألماني جوزف راتزينغر فقد دعا البابا والكهنة إلى الاعتراف (بالأخطاء التي ارتكبت باسم الحقيقة وباساليب بعيدة عن الاناجيل).. في إشارة إلى الحملات الصليبية وحقبة المحاكم الدينية.. فرد البابا طالباً بقوة صفح الله عن كون المسيحيين (متعارضين ومنقسمين) وعن قرارات (تبادل القاء الجرم)...

منذ الحملة الصليبية الأولى وحتى الوقت الحاضر ولفترة تمتد لأكثر من تسعة قرون لم تقدم الكنيسة الكاثوليكية على ما أقدمت عليه ممثلة بالبابا لطلب الصفح عن أخطاءها وخطاياها بحق المسيحيين أنفسهم وبحق اتباع الديانات والثقافات الأخرى.. إن الهدف كما يقول البابا هو التطهير وغسل الأرواح من ذنوبها التي ترزح تحتها ومن الكراهية التي سكنت النفوس ولا زالت والتي أدت على مدى تلك القرون إلى انهار من الدماء والخراب والمآسي والتي يطلب البابا بتواضع الصفح عنها..

قراءة هذا الطلب يحتاج منا العودة للوراء لمتابعة تلك الحروب التي حملت جحافلها صليب المسيح في مقدمة زحفها ليكون زحفاً مقدساً ومباركاً باسم الرب...

نشاهد في تاريخ المسيحية ومنذ أوائل عهودها خلافات مذهبية عميقة جداً كان لها آثارها الخطيرة إن على مستوى تاريخ أوربا أو مستوى الشرق.. واهم مشاكل الخلاف هي طبيعة عقيدة التثليث والعلاقة بين الاقانيم الثلاثة (الأب ـ الابن ـ روح القدس).. واستفحلت تلك المشكلة حين حدث خلاف حاد بين اثنين من رجال الكنيسة في الإسكندرية وهما (اريوس) و(اثناسيوس).. حيث قال اريوس: أن المسيح مخلوق لاله عظيم وحيد متفرد بطاقاته وصفاته، وإذا لم يكن الحال كذلك فإن المسيحيين يكونون غير مؤمنين بعقيدة التوحيد ويعبدون اكثر من اله..

أما (اثناسيوس) فقد قال: أن فكرة الثالوث المقدس تقضي أن يكون الابن مساوياً للأب ومن نفس العنصر تماماً ودونما خلاف في القدرة والمكانة رغم تميزهما عن بعضهما...

وقد حققت مقولات اثناسيوس مع الأيام تقدماً ملحوظاً على حساب الأفكار التي طرحها (اريوس) من خلال ما دخل إلى العقيدة المسيحية من تقديس للشهداء والقديسين وبقاياهم التي ادت إلى عبادة المخلفات المقدسة والصور حيث حدث إقبال شديد على اقتناء ما سمي (بالايقونات) سواء من قبل الكنائس أو الأفراد.. وما رافق ذلك من أحاديث عن شفاء الأمراض وحل المعضلات وجلب السعادة وطرد التعاسة.. وأدى ذلك إلى إقبال الناس على الإكثار من زيارة الآثار المقدسة للتبرك وتطورت تلك العادة حيث صار الأفراد يسافرون من مكان إلى آخر لزيارة الكنائس والأديرة والآثار وقبور القديسين ومشاهدهم الحاوية لتلك الآثار..

وحيث أن أرض ميلاد المسيح تضم أهم الآثار من حيث مكانتها وقدسيتها فقد اخذ البعض يسافر نحو فلسطين.. وبهذا جاءت إلى الوجود عقيدة جديدة دخلت إلى أركان الديانة المسيحية وهي عقيدة الحج..

وقد حمل الحجاج معهم أثناء عودتهم إلى ديارهم صوراً ومعلومات وافية عن أحوال الشام والمشرق العربي من كافة النواحي مع المبالغة في تصوير أحوال الرفاهية التي ينعم بها الآخرون وتوفر الثروات وكثرتها لديهم..

أسباب الحروب الصليبية..

بدءاً يجب توضيح الالتباس الحاصل في مصطلح (الحروب الصليبية).. حيث لم يظهر هذا المصطلح إلا في عام 1675 على يد المؤرخ في بلاط لويس الرابع (لويس ممبور) مسمياً بحثاً في هذا الموضوع (تاريخ الحروب الصليبية).

أما عن أسباب هذه الحروب فيمكن تحديدها بالآتي:

أولاً: الأسباب الدينية:

ويمكن تلمسها بالتشدد الذي مارسه السلاجقة بعد استيلائهم على الحكم على المسيحيين الزائرين لبيت المقدس كما يذكر ول ديورانت في قصة الحضارة.. إضافة لما أحسه المتصدون في الكنيسة بخطورة موقفهم نتيجة لانتشار الثقافة الإسلامية بعد اتساع نطاق الفتوحات..

لقد عمل رجال الكنيسة على التبشير والترغيب بين الناس للمشاركة في الحرب من خلال وعدهم بأن الزيارة لمهد عيسى تساوي الذهاب إلى الجنة..

ثانياً: العوامل السياسية..

بعد اتساع الفتوحات الإسلامية التي امتدت على طول الشرق والغرب سعى الصليبيون إلى تدمير ومحو الإسلام الذي يهدد سلطانهم مستغلين الوضع الذي كانت تعيشه الدويلات الإسلامية بعد أن دب الضعف والانحلال إلى جسدها..

ثالثاً: العوامل الاقتصادية..

وخير ما يصف ذلك هو المؤرخ الروسي (ميخائيل زابوروف) في كتابه (الصليبيون في الشرق) حيث يقول: أن الجفاف الرهيب حرق العشب في المروج واباد السنابل والخضراوات وتسبب بالتالي بجوع فظيع.. وفي سنة 1095 كانتا نورمنديا وفرنسا مرهقتين بنسبة عظيمة من الوفيات أفرغت الكثير من البيوت ودفع الجوع الأقصى البلايا إلى أقصى الحدود..

ويضيف قائلاً: أن تعاظم الميول الدينية في الريف قد نجم عن ظروف حياة الفلاحين العبيد التي لا تطاق.. فإن العبيد كان يسحقهم العوز، وتضغط عليهم التبعية الشخصية حيال السيد وكانوا مهانين واذلاء بسبب جهلهم. وهذا الجهل كان رجال الدين الكاثوليك يحافظون عيه ويطالبون الفلاحين بالصبر الطويل والاستكانة للأسياد، ويبثون الخوف من نيران جهنم..

كان الفلاح الجاهل والامي الذي اعتاد على العوز والذي لم ير شيئاً أبعد من كونه، يتقبل ويدرك البلايا الاجتماعية والطبيعية من خلال موشور مفهومه البدائي.. قحط الموسم الزراعي، الجوع، الطاعون الناري، الذي يسوق زوجته وأولاده إلى القبر.. كل هذا كان يتصوره بصورة عقاب من السماء نزل عليه من أعلى بسبب خطايا مجهولة.. ومن هنا نشأ شعور غامض بأنه لا يمكن التخلص من العذابات اليومية الدائمة إلا بطلب الرحمة من الرب الغاضب.. ولكن بأي نحو؟ قبل كل شيء، باجتراح مأثرة ما خارجة عن المألوف، بطولية بالمعنى الديني لأجل (التكفير عن الذنوب) لأجل (غفران الخطايا) من نوع الاستشهاد باسم الإيمان.. وهكذا انعكس التحرق إلى الخلاص من اضطهاد الأسياد، والسعي إلى خلع سلاسل العبودية والتفلت من براثن العوز في دماغ الفلاح المرهق بمشقات العيش انعكاساً فاسداً مشوهاً وتحول إلى رغبة عارمة في اجتراح مأثرة دينية..

رابعاً: الأسباب الاجتماعية..

في بداية القرن الحادي عشر وبعد استقرار المسيحيين في المجتمعات الأوروبية لم يلبث هذا الاستقرار أن تبلبل بسبب تمرد أقوام لم تهضم الثقافة المسيحية بشكل كامل ولم تندمج معها.. إضافة إلى المجاعات المتكررة التي شهدتها أوربا سنوات 1005 و1016 و1096 حيث ترك الكثير من الناس أعمالهم والتجأوا إلى الجبال والمناطق النائية مما احدث هزة عنيفة في النظام الاجتماعي.. ولم تنفع التدابير المتخذة بحزم حتى ولا عقوبة الإعدام أن تضع حداً لهجرة الناس وتشردهم.. لقد كان الناس البؤساء يتشبثون بأي شيء للخلاص من وضعهم المؤسف.. لذلك نراهم يتجهون إلى تلك الحروب بحرارة واندفاع..

فتاوى الجهاد المقدس

اقام باباوات الكنيسة في بادئ الأمر مجمعاً سموه (بالاساس) شارك فيه فئتان من علماء وبطارقة المسيحيين وثلاثون ألفا من الإشراف أو الخيّالة العسكرية.. وتحدث في هذا الجمع الراهب (بيرار ميت) الذي كان يحمل الصليب في يده ويطوف في أوربا مدينة مدينة محرضاً الناس على حرب المسلمين..

أما القرارات التي أصدرها المجمع الكنسي الذي عقد في (كليرمونت) في العام 1095 فقد لخصت المشروع الذي قدمه البابا اوربان الثاني ودعى فيه إلى قيام الحملة الصليبية الأولى على النحو التالي (أن كل من يرحل إلى بيت المقدس بدافع التقوى والورع وبهدف تحرير كنيسة الرب وليس بغية الحصول على المجد أو المال فانه يستطيع بهذه الرحلة أن يكفر عن ذنوبه وآثامه كافة)..

وقال: لا يجوز لكل رجل يسعى في خلاص روحه أن يتوانى عن سلوك طريق الرب بكل خشوع وإن احتاج إلى المال فالعناية الربانية ستسعفه.. وأضاف في بيانه قائلاً: أيها الإخوان عليكم أن تتحملوا كثيراً من المشقة والفقر والعذاب من اجل اسم المسيح وتعانوا العري والاضطهاد والمذلة والمرض والجوع والعطش وما شاكل هذا من صنوف الشرور كما قال الرب لحوارييه (سأريكم كم ينبغي أن تتألموا من اجل اسمي.. وقوله (إني أنا أعطيكم فماً وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها).. أو كما قال أيضاً (إنكم ستأخذون ميراثاً عظيماً)..

إن المشروع الأصلي للحرب الصليبية كما تخيله البابا اوربان الثاني في ذهنه كان يتلخص في إرسال فرقة عسكرية من الفرسان الأوربيين لمساعدة الإمبراطور البيزنطي (الكسيوس) في صراعه ضد الأتراك السلاجقة في أسيا الصغرى قبل الزحف إلى الأراضي المقدسة.. ولذلك فأن دعوة البابا اوربان الثاني كانت موجهة بشكل مباشر إلى طبقة الفرسان في وطنه فرنسا، لا سيما أن هذا البلد كان يتميز بضعف السلطة المركزية فيه وانعدام القانون في أرجائه انعداماً مزمناً نتيجة أعمال أولئك الفرسان وممارساتهم، وبذلك ربما كانت الحرب المخرج الوحيد لنقل أعمال العنف هذه من تلك البلاد إلى مكان أخر واعطاء الفرسان الأوربيين في الوقت نفسه فرصة للخلاص أيضاً.. ولقد استجاب هؤلاء الفرسان وبأعداد كبيرة لنداء البابا اوربان الثاني وشكلوا العمود الفقري للجيش الصليبي.

الحملة الصليبية الأولى..

في شتاء 1095-1096 اجتمعت في فرنسا قوات مدنية غفيرة من الفقراء المستعدين للذهاب إلى المناطق البعيدة..

وفي آذار 1096 نهضت أول جموع الفلاحين الفقراء من فرنسا الشمالية والوسطى ومن الفلاندر ولورين وألمانيا ثم من بلدان أخرى في أوربا الغربية إلى الحج المقدس..

وعلى حد تعبير صاحب يوميات (أعمال الفرنجة): جاء إلى الوجود هذا اليوم ما كان المسيح يقوله دوماً لاتباعه ومصداقاً لما جاء في الكتاب المقدس (إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني)..

مما أحدث هياجاً عظيماً، ولم يتوان كل ذي قلب طاهر وروح سليمة، صادق النية في إيمانه بالرب عن حمل الصليب والمبادرة لاخذ الطريق نحو القبر المقدس...

كان الفلاحون يمضون بلا سلاح تقريباً.. كانت الهراوات والمناجل والفؤوس والمذاري تقوم عندهم مقام الرماح والسيوف.. كانوا يتحركون مثل حشود غير منتظمة من النازحين، بعضهم مشياً على الأقدام، واخرون على عربات من عجلتين تجرها الثيران، مع نسائهم واولادهم وامتعتهم البيتية الحقيرة.. آملين سراً في تدبير امورهم بنحو افضل في أماكن جديدة في (أرض الميعاد) في الطريق سلك الصليبيون سلوك النهابين.. فاثناء مرورهم في أراضي المجريين والبلغار، كانوا ينتزعون المأكولات بالعنف من السكان، ويسوقون الاحصنة والبقر والغنم ويقتلون ويغتصبون ويتعسفون.. كان النهب بالنسبة للفقراء الأسلوب الوحيد لتحصيل ما يأكلونه.. وكان الصليبيون يواصلون النهب والسلب بعد دخولهم أراضي بيزنطية، لم يكن لدى الفلاحين نقود لكي يدفعوا ثمن المؤونة المقدمة لهم، ناهيك بأن عدداً لا يستهان به من العناصر المتفسخة طبقياً الذين كانوا يرون في المشروع الصليبي مجرد وسيلة ملائمة لأجل النهب والسلب كان يشترك في زحف الفلاحين والفقراء.. وعلى حد وصف أحد مدوني الأخبار لهؤلاء الصليبيين (أن كثيرين من شتى الأوباش قد التحقوا بالعســـكر الصليبي، لا لكي يكفروا عن الخطايا، بل لكي يقترفوا خطايا جديدة)...

إن الصليبيين الذين فسدت معنوياتهم بأعمال السلب والنهب السابقة قد سلكوا في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية أيضاً سلوكاً منفلتاً لا ضابط له.. فقد كانوا يدمرون ويحرقون القصور في ضواحي المدينة، ويتخاطفون صفائح الرصاص التي كانت سطوح الكنائس مصنوعة منها..

مذابح الصليبيين

في كتابه (على خطى الصليبيين) يقول مؤلفه الفرنسي (جان كلود جويبو).. تحت ضغط الحجاج قرر (رايموند دي سال ـ جيل) بدءً من 23 نوفمبر محاصرة معرة النعمان ـ في سوريا ـ كان الحصار طويلاً صعباً لكن الصليبيين افلحوا في الاستيلاء على المدينة وذبحوا سكانها.. وفي هذا يقول ابن الأثير: خلال ثلاثة أيام اعملت الفرنجة السيف في المسلمين قاتلين اكثر من مائة ألف شخص واسرين عدداً اكبر من الأسرى..

يقول الكاتب الفرنسي: في جهنم معرة النعمان المتروكة للرعب وللجوع والعطش وبينما كان البارونات يتشاجرون كان الفقراء وقطاعاتهم قد استسلموا لاغراء الممنوع بين الجميع.. فجثث المسلمين التي طرحت في الخنادق قطعت والتهمت بشراهة..

وكتب المؤرخ (راوول دين كاين): عمل جماعتنا على سلق الوثنيين ـ يقصد المسلمين ـ البالغين في الطناجر، وثبتوا الأطفال على الأسياخ والتهموها مشوية ويكتب المؤرخ (البيرديكس): لم تتورع جماعتنا عن أن تأكل الأتراك والمسلمين فحسب وإنما الكلاب أيضاً..

ويكتب (الانويم): بعضهم الآخر قطع لحم الجثث قطعاً وطبخها كي يأكلها..

واخيراً في رسالة رسمية جداً كتبت للبابا (مجاعة رهيبة أوقعت الجيش في (المعرة) ووضعته في الضرورة الجائرة ليتغذى من جثث المسلمين.. ويذكر المؤلف الفرنسي معقباً على تلك الشهادات: في الإسلام برمته سيزرع هذا المشهد الخوف ويؤدي بعدد من المدن العربية إلى الاستسلام دون قتال مع وصول الفرنجة..

وقد كتب (امين معلوف) تعليقاً على تلك الشهادات: لن ينسى الأتراك مطلقاً أكل الغربيين للحم الإنسان، وعبر كل أدبهم الملحمي سيكون الفرنجة موصوفين دائماً كأكلة لحوم البشر، وسوف يساهم مشهد معرة النعمان بحفر هوة بين العرب والفرنجة لا تكفي قرون عديدة لردمها...

وينقل لنا الكاتب صفحات من تاريخ أوربا الهمجي في المدينة التي أمنوا بقدسيتها ـ ونعني بها القدس ـ يقول:

وانفلت الرعب الذي عرضته اليوميات بهلع، الرعب الذي يسميه رينيه غروسية (الخطيئة) التي تحط من شرف الصليبيين، انه الرعب الذي انطبع في الذاكرة الإسلامية إلى الأبد.. ويتابع قائلاً: اخذ الصليبيون يلاحقون ويذبحون المسلمين واليهود الذين كانوا عندئذ حلفاء..

ويصف ابن الأثير في الكامل الاستيلاء على القدس: ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين، وقتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على السبعين الفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور ذلك الموضع الشريف، ثم بدأ النهب والسلب..

أما ما ذكره الفرنجة من خلال يومية مجهول من الحملة الصليبية الأولى فهي: وحالما دخل حجاجنا المدينة تابعوا ذبح المسلمين حتى معبد سليمان حيث تجمعوا ودخلوا طيلة اليوم في معركة عنيفة مع جماعتنا وكان ذلك إلى حد أن المعبد كان يرشح من دمهم...

ويكتب (وليم الصوري): كانت المدينة تمثل بمذبحة الأعداء هذه مشهداً ما كان حتى للمنتصرين أنفسهم إلا أن يتأثروا بالرعب والتقزز، أما الانويم فيستعمل صورة سوف يستعيدها التاريخ حيث يؤكد انه داخل المسجد الأقصى كان جماعتنا يمشون في الدم حتى عراقيب أرجلهم، ويتحدث اخباريون آخرون أن أكوام الجثث تلك التي ظلت تحرق تحت أسوار المدينة على امتداد أسبوع بكامله..

ولا نستطيع أن نسجل جميع تلك الأحداث التي جرت في الحروب الصليبية والتي لا يكفيها مقال واحد ولا حتى عشرات المقالات بل تحتاج إلى مجلدات كبيرة وكثيرة..

خاتمة..

لقد كان مشروع البابا اوربان الثاني جذاباً للغاية حتى أن عناصر المجتمع الأوربي كافة كانت ممثلة تقريباً في الحملة الصليبية الأولى، ولكن الاستثناء اللافت للنظر كثيراً في هذا العدد هو غياب ملوك أوربا جميعاً عن هذه الحملة.. فقد اعتبر البابا اوربان الثاني الحملة الصليبية مشروعاً يرتبط بالبابوية ارتباطاً مباشراً، ومن ثم لم يدع الملوك العلمانيين في الغرب بشكل واضح للانضمام إليه...

ولا بأس في النهاية أن نذكر جملة من الأسباب التي ادّت إلى استجابة الناس بهذه الأعداد لنداء البابا اوربان الثاني إضافة إلى الأسباب التي ذكرناها في البداية:

1ـ التوسع المكاني لذلك العصر (إقطاعيات جديدة لما وراء البحار)..

2ـ البطالة التي كانت تخيم على بقية الأبناء بعد البكر في العائلة النبيلة التي تمنح الثروة للابن البكر...

3ـ مصلحة البابوات وعدد من ملوك أوربا وسلطة الكنسيين وشره الرهبان..

4ـ حقد المسيحيين على المسلمين..

ولا يفوتنا أن نذكر أن الصليبية ظاهرة حملت شعار الصليب (الذي لم يكن أبدا رمزاً للحرب والقتل والعدوان) ولم تحمل جوهر المسيحية.. بينما تسترت بلباسها وحملت رايتها وقتلت (حتى المسيحيين) باسمها فكانت معادية لرسالتها وأهدافها.. وكما عبر البابا شنودة الثالث بقوله: إن المسيحية تخالف الفكر الصليبي، وإن الغزاة استتروا وراء الدين ووراء عبارة الأماكن المقدسة، ثم كشفوا عن هدفهم وهو الاحتلال...


 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 45

الصفحة الرئيسية