|
لـ(العنف) |
حيدر الجراح |
كتب سيوران يقول: في داخل كل رجل يضطجع نبي، وعندما يستيقظ يزداد الشر قليلاً في العالم... حين جاء الشرطة ليقبضوا على عيسى… امسك أصحابه برئيس الشرطة وقطعوا اذنه فقال عيسى… للذي شهر سيفه: ويلك، اغمد سيفك، كل من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك... حين لا يكون هناك جديد تحت الشمس، وحين يظن الواحد أن ما يملكه هو الحقيقة المطلقة وما عداها فليس سوى أكاذيب وخرافات.. وحين لا يكون التسامح مظلة يسير تحتها الجميع.. يصبح التعصب البذرة التي تنمو بعد أن تتوفر لها التربة الصالحة والغذاء الكافي لتصبح غلواً وتطرفاً ممقوتاً ليتحول بالتدريج ويكبر إلى كائن مشوه مسخ يدعى وحش العنف... أن انعدام الإحساس بإنسانية الآخر وتفهم مواقفه المطروحة يعتبر شكلاً من أشكال التعصب الذي يقود إلى الغلو في الأقوال ومن ثم الغلو في الأفعال.. وهذا نتيجة لانكفاء الحب في زوايا النسيان وبروز الكراهية نحو الآخر.. أن التعصب للرأي والاعتقاد بصحته دون الآراء الأخرى هو علامة صارخة من علامات الجهل والتخلف لأنه دلالة على ضيق الأفق ومحدودية الرؤية أو انعدامها في احيان كثيرة.. والناس الذين ينظون تحت قوس الجهل والتخلف لا تجد لديهم استعداداً لقبول فكرة ما قد تصيب وقد تخطئ لانهم دوماً على صواب وغيرهم المختلفون معهم على خطأ.. إن مفاهيم التشبث بالرأي والقطعية واليقينية والجزم تشير إلى اخذ المرء بمبدأ أو عقيدة على نحو لا يرقى إليه الشك أو لا يخضع للتساؤل.. فالمقدمات التي يجري الاعتماد عليها ـ دون دراسة ـ بالقبول ودون اخضاعها للتمحيص المنطقي الكافي.. والقطعية لا تلجأ إلى الأدلة بل تصدر عن اليقين الجازم(1). إن أساس هذا التعصب والتشبث واليقينية هو الجهل بالحقائق الإنسانية والتي من ابرز مفاصلها هو اعتبار كل شيء نسبي وغير مطلق.. ولا يمكن قسر الآخرين على ذلك المطلق الذي لا يوجد إلا في مخيلتهم الضيقة.. ولا يمكن زحزحة هذا الاعتقاد الخاطئ بالعقل والمنطق ويتحول فيما لو تشبث المرء به إلى هذيان جنوني(2)... إن هذا التعصب الذي يبدأ بفكرة ما يتطاول في عقل الإنسان ووعية ويسد عليه منافذ التفكير السليم مما يولد التطرف الذي هو بدوره نفي للآخر المحاور أو الصامت الآخر وحكم عليه بالعدم والإلغاء.. إن معرفتنا بان كل الحقائق نسبية وإن لا شيء مطلق يسحب من الآخرين البساط الذي يدعون من خلاله انهم وحدهم يملكون الحقيقة وإن الآخرين عيال عليها ـ عليهم ـ وتمنحنا تلك المعرفة القدرة على مد جسور الحوار البناء مع الآخرين وليس الخلاف معهم لان في الحالة الأول يوجد تواصل وتلاقح وفي الحالة الثانية إلغاء وقطيعة.. وعلى حد تعبير المفكر الإسلامي د. كمال أبو المجد حين يسود التطرف تستباح الحقيقة ويزيف الواقع وتنتهك السمعة والكرامة ويرجم أصحاب الرأي المخالف.. والمتتبع لنصوص القرآن الكريم بعيداً عن التفسيرات البشرية لها يستطيع أن يلمس حقيقة الاختلاف في أسمى صوره بدءاً من ابسط الأمور إلى أعقدها وهو الإيمان وعدمه دون إكراه أو تسلط.. وقد ربط المفكر الإسلامي وحيد الدين خان بين حرية الاختلاف وبين مبدأ التوحيد لإله واحد بقوله (إن المجتمع الذي يقاوم حرية التعبير وحرية الاختلاف ينقض في حقيقة الأمر مبدأ توحيد الله وتنزيهه، فالذي لا يرد قوله ولا يُسأل عما يفعل هو الله سبحانه.. فهل يريد المانعون أن يجلسوا على عرش الله وأن يلبسوا رداءه فيكونوا مثله لا يرد لهم قول ولا يسألون عن فعل؟ يقول تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)(3). نحن جميعاً نتحدث عن الوحدة ونسعى إليها والوحدة لا تكون إلا بين المختلفين أما بين المتفقين ـ عن علم أو غير علم ـ فلا حاجة للوحدة لأنها قائمة.. ولا يمكن اقامة الوحدة قبل الاعتراف بحق التعدد داخلها، مع الاقرار بسقف الانعكاسات المادية للتعدد والاختلاف.. إن التجمعات التي تهتف هتافاً واحداً أو تجري وراء شعار واحد تكون ابعد شيء عن الوحدة، فالاحتشاد لا يعني سوى الاتحاد الجغرافي أو الظرفي أما الوحدة فتعني قبول كل واحد بالآخر وليس شرطها التنازل عن المتبنيات النظرية أو حق الاختلاف(4).. وعودة إلى كلمة سيوران في السطر الأول للموضوع نشاهد ذلك جلياً في حياتنا اليومية فكل واحد منا ـ وحتى أنا كاتب هذه السطور ـ يوجد نبي يضطجع داخلنا، والاستيقاظ الذي عبر عنه سيوران هو اللغة الخارجة من أفواهنا والمتشكلة صيغاً ودلالات تعبر عن رأي أو فكرة ما نؤمن بها أو تهجس مجرد هجس في عقولنا ـ وتخيل كم من نبي يستيقظ في كل دقيقة من زمن حياتنا اليومية وكيف يمكن لأفكارهم وتعاليمهم التي تتخذ طابعاً مقدساً عند البعض أن تتحاور وتتناقش وتولد أفكارا جديدةً والبعض الآخر لا يستيقظ في داخله إلا شيطان مدنس وحقير.. وعادة يكون لكل نبي من هؤلاء الأنبياء ـ وهم كثيرون غير محدودين طالما أن الأفكار واللغة لا يمكن السيطرة على اتساعها وتحديدها ـ مجموعة من الاتباع الأوفياء الذي يسيرون وفق تلك الأفكار والتعاليم التي لا تعلو عليها أفكار أخرى.. نتيجة لعملية التلقين التي تتم بصورة غالبة للوصول ـ حسب ادعاء كل فريق ـ إلى الحقيقة الممكنة والوحيدة أو للبصيرة اللازمة للتجلي وقطف ثمار الكشوفات وبالتالي تصبح عقلية هؤلاء الاتباع مجهدة أو لاغية ويصبح معها عقل الفرد الملقن وكأنه لسان ببغاء يردد ما لُقّن به دون أن يفقه ما يقول وبدون أية مقدرة على تفحص محتواه واخضاع هذا المحتوى إلى ما يتطلبه الحكم الصحيح.. وإن هذا الذي يحكم بدون أن يزود نفسه باقصى ما يستطيعه من المعرفة فانه لا يستطيع تبرئة نفسه من انه قد حكم خطأ... على حد تعبير الفيلسوف جون لوك.. وتأسيساً على هذه المكونات لاتباع كل نبي مضطجع فينا يبرز ما يسمى بالعقل الاستبدادي والذي هو عقل اطلاقي يرفض أن يكون هناك وجهات نظر مبنية على تجارب شخصية ومعارف مختلفة، وأن يكون لكل فرد وجهة نظر مخالفة، وأن يعترف بان ما يراه يمكن أن لا يمثل إلا جانباً من الحقيقة وأن بإمكان الآخرين أن يروا جوانب أخرى.. تبدو الحقيقة كواقعة بسيطة واحدة والتعبير عنها وحيد وبسيط وسهل. فنحن أما أن نكون على حق ومن ثم فإن الآخر المخالف لابد أن يكون على خطأ ولابد عندئذ أن نكون على صواب.. وفي الحالة الأولى نشعر أمام الآخر الذي نعتبره على خطأ كما لو كان وجود ذاته خطأ ويهدد وجودنا ويقتضي منا بالتالي أن نصلحه بالقول أو بالفعل أو أن نجتثه بأسرع وقت.. وفي الحالة الثانية عندما ندرك خطأنا نشعر بانعدام معنى وجودنا الشخصي كما لو كان اساءة لنا ولللآخرين أو نعمل في سبيل إصلاح الخطأ المهدد إلى الالتحاق المطلق بالآخر والاندماج فيه.. وبقدر ما نرضى لأنفسنا إذا شككنا في صحة مواقفنا، أن نقضي على استقلالنا وشخصيتنا ونذوب في الآخر ونتحول إلى أزلام له فإن اقل ما نطلبه من الآخر المخطئ المخالف لنا أن يلتحق بنا ويذوب فينا ولا نقبل بموقف اقل من ذلك(5)... |
أسباب العنف |
بعد أن تعرفنا ولو بصورة بسيطة على التعصب الذي يمهد الطريق أمام التطرف وكيف ينمو هذا التطرف في العقول والنفوس تصبح الأرضية ممهدة لبروز العنف الذي هو أقصى صور التوتر والتشنج داخل لوحة التطرف الإنساني... لقد بذل الباحثون جهوداً حثيثة ومتواصلة لإرجاع العنف إلى مسبباته ودوافعه الرئيسية يمكن قراءتها على النحو التالي... 1 ـ هناك رأي حاول أن يربط بين العنف الكامن في تاريخ الإنسان وبين الطقوس والمفاهيم الدينية وخاصة مفهوم (الضحية) أو (القربان) البشري الذي كان سائداً في ديانات ما قبل التاريخ والذي يقدم استرضاءً للآلهة وقوى الطبيعة من اجل استدرار رحمتها وعطفها.. حيث تقتل الضحية أو تذبح كحد أقصى لايقاع العنف عليها وليكون دمها النازف هو الوسيلة لاسترضاء الآلهة... ويمكن مشاهدة ذلك في مصر القديمة التي ارتبطت قرابينها البشرية بمنسوب المياه في نهر النيل فيضاناً أو انحساراً.. فكانت القرابين البشرية تقدم للآلهة استرضاءً لها حيث تذبح وتلقى في النهر كي توقف فيضانه أو تطلق انحباس مياهه.. 2 ـ وهناك رأي ربط بين العنف البشري وبين الظروف الطبيعية القاسية التي مرت بها المجتمعات البشرية في محاولتها للاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة أمامها ومنع الآخرين من الاستفادة بالمقابل مما يؤدي إلى الاقتتال فيما بينها.. وقد ربط العالم بوكويكن بين العنف نتيجة للحاجات الملحة للإنسان وبين فقدان التربية السلوكية التي تعمل على تهذيب الإنسان وجعله مسالماً.. 3 ـ ما طرحه العالم لوروز من خلال مقارنته بين الإنسان والحيوان.. فالحيوان لا يكون عنفه عبثياً بل هو نوع من أنواع الاستمرار في الحياة والبقاء أمام جنسه فهو لا يهاجم إلا إذا كان جائعاً أو معرضاً للخطر.. أما عند الإنسان فهو نتيجة ضغط واحتقان غريزي يؤدي بواسطته ـ العنف ـ إلى التنفيس عن مشاعر غضبه المكبوتة.. 4 ـ أما العالم النفسي اريك فروم فيستند على أن العنف ينشأ من قاعدة بيولوجية ونفسية تتمثل بالاتجاه نحو الموت والميت.. ويفسر هذا الرأي النشاطات الإنسانية المدمرة بانها تتجه حتماً نحو التحلل الذي هو الموت.. بفوهته المتسعة لكل الكائنات والأشياء إضافة إلى تلك الآراء والأسباب يمكن تلمس جملة من آراء أخرى تساعد على استيلاد العنف بصوره المختلفة إن كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو فردية أو دينية إلى آخر ما يندرج تحتها فمن حيث الأسباب السياسية ما نلاحظه من ظاهرة العزل السياسي الذي تمارسه أي سلطة على سدّة الحكم من خلال ابعاد الآخرين عن الوصول إليها واحتكار تلك السلطة بين مجموعة معينة مستعدة لاستعمال كافة الوسائل والأساليب للبقاء في السلطة مما يستدعي ردود فعل عنيفة لا يمكن السيطرة عليها اتجاه هذا العزل والابعاد.. ومن الأسباب الاقتصادية يمكن ملاحظة ظاهرة البطالة في صفوف طبقات واسعة من الشباب خاصة والتي وصلت في آخر إحصاء لها على مستوى العالم العربي إلى 12.5 مليون عاطل عن العمل.. يضاف إلى ذلك حالات الفقر الشديدة بين قطاعات واسعة من المجتمعات التي تعيش على الهامش. وكذلك الفوارق الطبقية الواسعة بين الأغنياء المترفين على قلتهم والفقراء المعوزين على كثرتهم.. وعلى الجانب الاجتماعي نلاحظ مأساة الإنسان المسلم الذي يريد التعبير عن رأيه في الدين فلا يسمح له بذلك ويحارب، وتحارب النزعة الدينية وبالمقابل يتم تسخير المؤسسات الدينية للتعبير عن رأي السلطة في الدين وعادة ما يكون تعبيراً ساذجاً لتثبيت اقدام تلك السلطة وعدم الاعتراض على ممارساتها من خلال استخدام آليات النصوص استخداماً جامداً ومشوهاً.. ويجب ملاحظة أن العقائد لا تولد العنف ولكن الاندفاع نحو العنف والاخفاق في حل التناقضات الاجتماعية والسياسية بالطرق السلمية هما اللذان يدفعان الناس إلى تأويل عقائدهم تأويلات عنيفة(6).. وإلى جانب الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية وأزمة الهوية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية بدرجات متفاوتة وباشكال مختلفة هناك ظاهرة الغزو الثقافي والتغريب الفكري والسياسي(7).. الذي يخلق نوعاً من الانفصام الفكري والسلوكي بين المتشبثين بالماضي وبين المندفعين نحو المستقبل من خلال قطع صلتهم بهذا الماضي.. وتخلق هذه الأسباب والمشاكل إرباكا عنيفاً لن تكون نهايته سوى اللجوء إلى العنف وهو ما يؤكده جورج الراسي (في الأصل كان البحث عن الهوية فإذا كان الجوع كافراً والهوية الوطنية مضطربة والفوارق الاجتماعية صارخة تكون الطريق ممهدة أمام ثقافة من نوع جديد يمكن تلخيصها مجازاً بثقافة التكفير.. وبين التكفير والذبح مسافة قصيرة يمكن اجتيازها(8).. ويبرز في تلك الثقافة بيت الشاعر الذي يقول فيه: فمن لم يكفّر كافراً فهو كافر ومن شك في تكفيره فهو أكفر ويمكن توديع هذه السطور بحديث للإمام علي… حين قال: (احذروا على دينكم ثلاثة: رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رأيت عليه بهجته اخترط سيفه على جاره ورماه بالشرك.. ورجلاً استخفته الأكاذيب كلما احدث احدوثة كذب مدها باطول منها.. ورجلاً أتاه الله سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله(9).. ). |
الهوامش |
(1) موسوعة علم النفس،(2) د.اسعد رزوق/ص75. (2) المصدر السابق/ص58. (3) سورة المائدة/آية 48. (4) وحيد الدين خان/جريدة المسلمون،(6) 20/5/1994. (5) مجتمع النخبة/برهان غليون/ص288. (6) حوارات من عصر الحرب الاهلية/برهان غليون/ص42. (7) ظاهرة الاحياء الإسلامي/ حسين توفيق إبراهيم/مجلة منبر الحوار/1992،(10) ص27. (8) محاولة في فهم ما يحدث في الجزائر/مجلة منبر الحوار/1998،(12) ص105. (9) وسائل الشيعة/ج18،(14) ص93. |