|
حين هاجر الحسين إلى ربه.. وتنفست كربلاء ضوع الدم الطاهر.. |
|||||||||
مجتبى العلوي |
|||||||||
ترنيمة أولى... |
|||||||||
بسم الله المصور.. يفتح أبواب سجل المعرفة لنعرف من نحن وكيف كنا وكيف جئنا وكيف نعود.. وبسم الله.. وبجميع أسمائه الحسنى وصفاته.. الذي يفتح كل حرف منها مالا عد له ولا حصر من موجودات الوجود التي بها عُرِف.. |
|||||||||
ترنيمة ثانية... |
|||||||||
بين يدي الحسين لا يصحّ الوقوف إلا على طهارة روحٍ وقلب وجسد يتوضأ بالصبر.. ويغتسل بالعطش الكافر في هجير ظهيرة على أرض كربلاء.. |
|||||||||
سلّم أول للصعود.. |
|||||||||
خلق الله الإنسان في احسن تقويم بعد أن لم يكن.. حتى إذا سوّاه على صورته ونفخ فيه من روحه القدوس تكلم آدم بأول كلام وهو الحمد لله رب العالمين.. وعلّمه الأسماء كلّها، وحذّره من حسد إبليس يترصد له ويخامره في مجرى الدماء.. ونسى آدم ما أوصاه به ربه المحمود.. وكانت تلك الثمرة سبباً في هبوطه إلى الأرض ومغادرة الجنة.. وناجى ـ آدم وحواء ـ ربهما على استحياء ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونّن من الخاسرين) .. (الاعراف23) وتوسّل إلى ربه أن يتوب عليه ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم) .. (البقرة37). وكانت تلك الكلمات التي توسل بها إلى الله ليتوب عليه وسأله الا يكون من الخاسرين هي أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.. وكان ذاك الطلب بالتوبة هو أول هجرة يقوم بها أبو البشر إلى الله. وليعلّم من يأتي بعده من أنبياء كيف يكون أدب الهجرة إلى الخالق سبحانه.. وإدريس … من بعده حين تلفّت يميناً ويساراً إلى قلّة من صحبه أحاطت به وكان يردد مع نفسه (كيف لي بهذا الرب فأعبده حق عبادته؟) (قصص الأنبياء/الجزائري) وبعد أن خط بالقلم ـ (وهو أول من كتب) وخاط بالإبرة (وهو أول خياط للثياب) كانت مشيئة الله أن يهاجر إليه ( ورفعناه مكاناً علياً) (مريم57). ونوح … إذ ابتلاه الله سبع سنين بمرضه هاجر منها إلى الله بهذا الصبر والجلد وشفتاه لا تفترّان عن شكر الله وتحميده.. وهاجر إلى الله مرة ثانية بعد أن مكث في قومه ألف عام الا خمسون، فهاجر بقلّة ممن آمنوا به وبالله إلى أراض جديدة وازمان جديدة ليفتح في الآفاق دروباً أخرى إلى الله سبحانه وتعالى.. وأبو الأنبياء إبراهيم … هاجر ولوط أيضاً إلى ربهما بعد أن كابدا ما كابداه من عنت وظلم وجبروت من كل من يحيط بهما ( ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) .. (الأنبياء71) وكلمة الله.. الوجيه في الدنيا والآخرة.. اختاره صاحب الكلمة للهجرة إليه ( إذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك اليّ) .. (آل عمران55). جميع الأنبياء الذين قصّ علينا القرآن الكريم قصصهم قد هاجروا إلى الله سبحانه بشكل أو بآخر.. فليست الهجرة فقط الانتقال من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، بل هي معان عديدة ومتنوعة.. نجد بعد التأمل ذكراً لها في جميع القرآن وفي أنفسنا.. وافعالنا.. |
|||||||||
سلّم الصعود الثاني... |
|||||||||
في هذا السلّم نلجأ إلى بصائر اللغة لتكشف لنا بنورها، ونكتشف من خلالها معاني عديدة للهجرة غير معنى الانتقال من مكان إلى آخر.. فنقرأ.. هجره هجراً: حرمه وتركه.. وفي الصوم: اعتزل فيه عن النكاح.. ومنه هجر الشرك هجرة حسنة.. والهَجْر: هو الحسن الكريم الجيد. ولو جئنا إلى قلب الهجرة لوجدناه: الجَهْرَة وهي: ما ظهر وأرِنا الله جَهْرة: أي عياناً غير مستتر..(القاموس المحيط). أو هي الرغبة في التجلّي لرؤية الحق سبحانه والسباحة والتسبيح بنوره.. وعند التدرج في الصعود إلى السلم نقرأ قول رسول الله (ص) (أيها الناس هاجروا وتمسكوا بالإسلام فإن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد)(كنز العمال ح46260) وقوله (ص) (الهجرة هجرتان أحدهما أن تهجر السيئات والأخرى أن تهاجر إلى الله تعالى ولا تنقطع الهجرة ما تُقبلت التوبة).. (كنز العمال ح46262) وقوله (ص) : (افضل الهجرة أن تهجر ما كره الله).. (كنز العمال46263) وقوله (ص) (المهاجر من هجر الخطايا والذنوب). تلك الأحاديث الباصرة جعلتنا نبصر ما قرأناه في سلّم الصعود الأول.. واكتشفنا بأن الهجرة إلى الله قد كتبت على جميع الأنبياء منذ آدم … وعلى جميع البشر.. فهي التوبة وهي الصبر وهي الانتقال من مكان إلى آخر وهي ترك الخطايا والذنب والتوجه إلى الحسن الجميل.. إن إدراك هذه المعاني العديدة للهجرة تجعلنا نستطيع أن ندخل روضة جديدة نكتشف فيها مستويات أخرى من المعرفة ونشمّ فيها أزاهير وعطراً يقودنا إلى مرقاة ممهدة من طمأنينة وسلام.. |
|||||||||
سلّم الصعود الثالث... |
|||||||||
حين إبتعث الله محمد (ص) في رسالته الخاتمية وأمره أن يصدع بدعوة الحق إلى الله بين عشيرته تصدّى له قادة الكفر والضلالة بجميع أسلحتهم علّها تنفع في إسكات الصوت الذي بدأت جنبات مكة تردد صداه.. وبعد أن مكث فيهم ثلاثة عشر عاماً يدعوهم أن يهاجروا معه إلى ربّ السماوات والأرض وما بينهما، ويدلّهم على طرق الهجرة إليه من توبة عما سلف أو تحطيم لأصنامهم التي لا تضر ولا تنفع وترك الظلم والجور للآخرين وعليهم.. آثر أن يهاجر هو ونخبة من أصحابه الذين رافقوا دعوته منذ كانت همساً على الشفاه حتى أصبحت صراخاً فوق الألسن والحناجر... وترك ابن عمه راقداً على فراشه ليوهم الشرك المترصّد باقتناص حياته وليسجل لنا هجرتين واحدة بالرحيل من مكة إلى المدينة والأخرى بالإيثار والفداء بالنفس لهذا النبي العظيم (ص) ... وربح الإسلام تلك الجولة حين قاتل الله أئمة الكفر والإلحاد بسلاح النوم الذي حمله أمير المؤمنين … .. فهل رأيتم سلاحاً عجيباً كهذا السلاح؟.. قاتل الله هؤلاء المشركين بدون جيش أو صياح أو صوت يرافق امتشاق السيوف أو الرماح.. قاتلهم بهذه الرقدة الحلوة اللذيذة المطمئنة لأمير المؤمنين.. وغادر النبي الكريم (ص) وطنه ومرابع صباه وشبابه الطيب النبيل ليبني هناك عاصمة الإسلام والتي منها ستنطلق طلائع الفتح إلى ما جاورها أو ابعد عنها.. هاجر خاتم الأنبياء (ص) محتضناً خلاصة هذا العصير الإيماني الذي تلقاه من ربه ليفتح ثغرة في جدران الحصار الذي فرضته قوى الكفر والإلحاد، وليؤسس أوطانا جديدة لربه المعبود ويشقّ دروباً سالكة لدين الله.. |
|||||||||
مرقاة الوصول.. وثمرة المعرفة.. |
|||||||||
في القضايا الكبرى عادة وحين تصل الأمور إلى مفترق طرق يصعب فيه تحديد الاتجاه المناسب للسير إلى نهاية الشوط.. تبرز عظمة العبقرية حين تقدم الحلول وتشير بيدها إلى الطريق الواجب السير فيه... فبعد أن نجح جدّ الحسين في تبليغ رسالة ربه وانتقل إلى الرفيق الأعلى.. وبعد أن تكالبت الخطوب على أمير المؤمنين وعصفت بالإسلام والمسلمين رياح الجاهلية التي نفخ في رمادها من كانوا بالأمس قادة الضلالة، واصبحوا قادة الحكم بزيٍّ إسلامي لا ينسجم وأجسادهم.. وبعد أن اصبح مال المسلمين دولاً بين الأغنياء واصبح الفقراء عبيداً وخولاً تحت أسيافهم وخوذ حراسهم.. خرج الحسين مع قلة من أصحابه كالأنبياء حين يخرجون.. وهو منذ وعى تلك الحقيقة ـ حقيقة الصراع بين الحق والباطل ـ وهو يعدّ نفسه لهذه الهجرة.. وهذا السفر وهو يعرف أن هجرة جده ما كان لها أن تكتمل وتينع ثمارها لو لا أبيه تلفّع بغطاء النبي (ص) ورقد مكانه ليجعل من الهجرة ومعانيها ناموساً مستمراً منذ آدم وحتى الحسين.. وقد أرادها الله سبحانه وتعالى هجرة واحدة ومستمرة فجعلها في شهر واحد من عدّة شهوره.. إذا كانت هجرة جد الحسين لتأسيس أوطان جديدة لدين الله، فان هجرة الحسين كانت لبناء أسوار وحصون تحافظ على تلك الأوطان، وليحرس بهجرته الدروب التي حفرها جده.. هجرة الرسول الأكرم أرست دعائم البنيان للإسلام.. وهجرة الحسين أوصلت إلينا هذا البنيان شامخاً.. سامقاً.. ومتطاولاً حتى وقتنا الحاضر وإلى قيام الساعة حين يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.. ترنيمة أخيرة.. لوداع المهاجر.. وحينما استقرّت الرماح في حشاشة الحسين وإزّينّتْ بجسد الحسين وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين رأيت كل حجر يحنو على الحسين رأيت كل زهرة تنام على كتف الحسين رأيت كل نهر يمشي في جنازة الحسين..(2) |
|||||||||
1 ـ من قصيدة للدكتور أسعد علي/مجلة سومر/العدد العاشر/أيلول 1992. 2 ـ أدونيس/ مجموعة المسرح والمرايا. |