اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ      العدد 44        محرم  1421       نيسان 2000     ملف عاشوراء

 

العزاء الحسيني

التحديات والمواجهة..

 

حيدر حسين الكاظمي

أشكال التحديات العزاء والتحديات خصوصية النهضة الحسينية عوامل الخلود
شبهات باطلة النظرة الشرعية للشعائر المواجهة هي السبيل الناجح

منذ أن بدأت تلك الخطوات الواثقة ترسم فوق طيات الصحراء صورة العشق الإلهي صورة العاشق والمعشوق التي تخرج الإنسان من الأنا إلى الذوبان في عشق المحبوب الأزلي منذ أربعة عشر قرناً والى اليوم كان الحسين… ولازال مشروع رفض ووثيقة حق مطلق تجسدت في صورة يوم الطف في العاشر من محرم وهي ترسم للأجيال كيف يكون النضال والجهاد وكيف يكون الولاء للقضية للرسالة لكل قيم السماء الخالدة كيف يقاتل الثائر لا بالسيف وحسب إنما بقوة الإيمان ورسوخ اليقين الذي لم تثلمه سيوف الأعداء والنبال والسواد الممتلئ بالباطل وعلى امتداد التاريخ ومن بداية القطرات الزكية الطاهرة التي سالت على أرض كربلاء المقدسة من الجسد الطاهر من الشجرة المباركة التي قدمت نفسها فداء على مذبح الحرية والكرامة والإباء بدأت بعدها حركة التاريخ تأخذ هذه الشعلة لتنير دروب الأحرار وتزيدها جذوة ولتؤكد أحقية هذا المبدأ بالخلود المتمثل بشخصية ابي الأحرار الحسين واهل بيته واصحابه الأطهار، لذلك لم ترتسم صورة العزاء الحسيني وشعائره من اللاوجود أو العدم ولم تظهر على ساحة التاريخ وصفحاته لكي تتعصب لمذهب أو تغيض مناوئاً إنها وبلا فخر تفتح أيديها لتحتضن كل مثال للحرية وكل مبدأ للثورة على الطغيان وعلى الاستبداد أينما وجد، بل انطلقت من ذلك التوق إلى رؤية مشهد الحرية والانعتاق من ربقة الدكتاتورية والاستبداد لذلك كانت هذه الصورة المنسجمة بين منطلقات الثورة الحسينية وبين شعائرنا الحسينية الخالدة لتعطي لنا بعداً ليس دينياً وحسب وانما سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى حضارياً ، تعكسها العلاقة الوثيقة بين الإنسان وتاريخه الخالد الذي لابد أن يعتز به لأنه لم يثر فخر أمته فحسب بل كان مثار إعجاب الأعداء أنفسهم فكل الأحزان التي تولد وهي كبيرة في بدأها تسير بها الأيام حتى تصغر وتصغر وربما تتلاشى وربما توضع في لوحة شجية في متاحف الأمة الوطنية وتمر بها الأجيال ولا تحصد سوى الذكرى العابرة أما حزن عاشوراء فقد ظل منذ ولادته في يوم الطف عام 61هـ حتى يومنا الحاضر يتفاعل بكل قوة ومرارة في قلوب ملايين الأحباب ينمو ويتصاعد عبر الأزمنة والأجيال حتى بات اليوم مدار حديث القارات الخمس في عالم اليوم، ورغم يقيننا الدائم والواثق بأن هذه الشعيرة سوف لن تموت أبدا انطلاقاً من نداء الحوراء وصرختها يوم أدخلت على الطاغية يزيد بقولها (فوالله لا تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا) وانطلاقاً من القول الشريف (إن لقتل الحسين… حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدا) ولهذا كله فإن حزن عاشوراء لم يقتصر على عاشوراء فحسب بل أصبحت كل أيام المسلمين وكل ارض حلو بها كانت هي مأساة كربلاء نراهم يرسمون تلك الصورة بشتى أنواع الممارسات الحسينية التي أكد وحث عليها أهل البيت(ع) فهي تعطيهم الرمز والنموذج في التحدي لكي ما يتعرض له المسلمون اليوم على أيدي أعداء الدين والإنسانية فأصبحت هذه الشعائر صرخة مدوية في وجه المستعمرين أينما وجدوا على ارض الإسلام بل واصبحت هذه الشعائر نقطة تحدي لهم تهددهم وتهدد وجودهم أيضا لذلك كانت البداية بداية الصراع بين خلود هذه الشعيرة وبين طموح الأعداء في إزالتها عن هذا الوجود.

ــــــــــ عوامل الخلود ـــــــــ

وقبل النظر إلى شعائر الحسين… نظرة تعاطف يحملنا إليها الحب المكنون والفطرة الإنسانية في داخل كل مسلم وإنسان لابد أن نقف بشيء من الوضوح الخالص من كل ذلك حتى يتبين لنا سر هذا الخلود في هذه الشعيرة.

أولاً: لقد أثبتت الأحداث التاريخية على مر عصورها أن البقاء بعد كل صراع كان لصالح راية الحق الواضحة سواء بالمنظور المادي أم المنظور المعنوي وصفحات التاريخ كفيلة بأن تجيب وتوضح هذا المفهوم وفي واقعة كربلاء كان الوضوح الذي لا يختلف فيه اثنان أن الحق مع الحسين… واصحابه ولم يتوفر لأي قضية في التاريخ ذلك الوضوح كما لعاشوراء يقول عباس محمود العقاد (ما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقاً واظهر فضلاً من الحسين في خصومته ليزيد بن معاوية، ويقول السر بيرس سايكس مؤلف كتاب (تاريخ ايران)...، (ان هذه الفاجعة كانت أساساً لتمثيل (المسرحية الأليمة) سنوياً ليس في إيران التي تعتبر العقيدة الشيعية مذهباً رسمياً فيها فقط، بل في كثير من البلاد الآسيوية... ولذلك يمكنني أن اعترف واقر بأن الاستماع إلى ولولة النساء الصارخة ومشاهدة الحزن الذي يغشى الرجال كلهم يؤثر تأثيراً عميقاً في المرء بحيث لا يسع إلا أن يصبَ نقمته على الشمر ويزيد بن معاوية) وتقول المس فرايا ستارك عند ذكرها لكربلاء والحسين فتقول... (وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة ان يستفيد كثيراً من زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء) (1)، وعلى العموم أن صور المأساة وفضاعتها كانت إلى جانب كفة الحق التي كان يمثلها الإمام الحسين… كلها جعلت قلوب الناس على مختلف ميولهم واهوائهم ومذاهبهم وعبر كل الأزمنة يتعاطفون بشدة مع شخصية الإمام الحسين ومع ثورته الخالدة.

ــــــــــ خصوصية النهضة الحسينية ـــــــــ

ثانياً: ان خصوصية الثورة الحسينية وما تحمله من أبعاد عقائدية مهمة لدى المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً ذلك أن الإمام الحسين… ليس شخصاً عادياً أو مناضلاً أوجدته الظروف السياسية ليكون على صورة الأحداث ان الإمام الحسين… يمثل جوهر العقيدة ومفهومها الواضح انه الإمام ابن الإمام ابن النبي صاحب الرسالة المحمدية التي بعثها الله للناس كافة إن قتل الحسين… وهو الذي يحمل كل هذه المعاني السامية ليس أمراً مأساوياً وحسب بل أنه يمس العقيدة ويضفي على حزن المأساة حزناً اعمق وقدسية ومهابة تعيش في وجدانهم على مر الأيام والسنين في كل تكبيرة للصلاة في كل آية في القرآن في كل شعيرة يقدمون عليها فأصبحت كربلاء ومأساة عاشوراء هي مأساة الإمامة أحد أركان أصول الدين التي لابد من بقاءها في ضمير المسلم طالما بقي دينه سليماً.

ثالثاً: إن التأسي بالسلف الصالح والسير بمنهجهم أمرٌ حث عليه الشرع وفي بعض الأحيان أمر به أيضاً والعزاء الحسيني ليس بدعة اختلقها قوم في زمن ما تحت ظرف ما بل هو صورة ارتسمها الأئمة عيهم السلام منذ القدم فعبروا عنها بصور مختلفة بل انهم حببوا المسلمين بذلك في كل جيل فحضوا على عقد مأتم الحزن عليه وإنشاد الشعر المخصوص بالرثاء في حقه وزيارة قبره والبكاء عليه يريدون في كل ذلك أن يحموا فكر العقيدة وتعاليمها ولقد سجلت المصادر التاريخية صوراً عديدة لبكاء الرسول(ص) على الحسين وهو لا يزال طفلاً بعد ففي المستدرك بإسناده عن أبي جعفر… قال: (نظر النبي(ص) إلى الحسين… وهو مقبل في حجره وقال: (أن لقتل الحسين(2) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)(3)، وهناك أخبار كثيرة تدل على ان الله لم يبعث على وجه الأرض نبياً ووصياً إلاّ ذكره بمصاب الحسين… فبكى عليه قبل استشهاده وان النبي(ص) والزهراء وجميع الأئمة عليهم السلام بكوا على الحسين… بكاءً شديداً حتى كان من ألقاب الحسين… (صريع الدمعة الساكبة) و (عبرة كل مؤمن ومؤمنة) وحتى بكته أسرته يوم ميلاده وحتى قال الإمام الرضا… (ان يوم الحسين… أقرح جفوننا واسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء)(4) وقال الإمام المنتظر„ في زيارة الناحية مخاطباً جده الشهيد (فلئن أخرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور ولم أكن لمن حاربك محارباً ولمن نصب لك العداوة مناصباً فلأندبنك صباحاً ومساءً ولأبكين لك بدل الدموع دماً)(5) واما الأخبار الواردة في فضل البكاء على الإمام الشهيد فهي كثيرة نذكر منها:

- في كامل الزيارة عن أبي حمزة عن الإمام الصادق… (ان البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي? فأنه فيه مأجور)(6)

- وروى الصدوق في الأمالي، بإسناده عن الإمام الرضا… (من تذكر مصابنا وبكى لما أرتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)(7).

وعلى هذا الأساس لم يكن البكاء يمثل الجانب الديني فحسب بل يمثل الجانب التربوي أيضا (لأن البكاء على شيء -أي شيء لا يكون إلا بعد انفعال الباكي بالحادث الأليم الذي اكتنف ذلك الشيء حتى يبكي عليه، ولكل حادث مجرم وضحية ومن الطبيعي أن يؤدي الانفعال إلى تحيز الباكي للضحية ومعاداة المجرم فتهيج فيه الثورة على الظالم والإشفاق على المظلوم وحيث أن الإمام الحسين… ويزيد لم يكونا بطلين وقفا على نقطتي نقيض فاشتبكت مصالحهما وتصارعا على حكم مثل كرة الطراد، وانما كان كل واحد يمثل جبهة بلغ فيها الذروة، فتوفر في معركتهما من المعاني الحيوية، مالم تتوفر في أية معركة أخرى- كان البكاء على الإمام الحسين… يعني توجيه الباكي نحو جميع الفضائل وإثارته ضد جميع الرذائل ومثل هذه الفائدة السخية لا يمكن ان تحصل من البكاء على أي شهيد آخر ولا من أي شيء آخر سوى البكاء على الإمام الشهيد كان حرياً بتأكيدات الأئمة الأطهار والمكافأة بذلك الثواب العظيم فثواب البكاء على الحسين… هو الجنة لانه يدفع إلى انتزاع صفات أهل النار وتقمص صفات أهل الجنة ولو بعد حين، حين يتاح للبكاء ان يتفاعل مع الباطن ويخلف فيه)(8) أثره التربوي، وهكذا لا تبدو الأحاديث السابقة مبالغة في تكثير ثواب البكاء على الإمام الشهيد ولا تكشف عن محاولة في جعل الثواب إزاء البكاء عليه وإنما تعبر عن ثواب البكاء، بمقتضى أثر البكاء،

ــــــــــ العزاء والتحديات ـــــــــ

ان ثورة الإمام الحسين… هي ثورة نادرة امتازت بها الأمة الإسلامية دون سائر الأمم، ولو كانت لبقية الأمم لاستَدَرْتْ منها طاقات تؤهلها للسيطرة على الأرض ولكن الأمة الإسلامية تبخسها لهبوط مستوى الوعي فيها فلا تستفيد منها بالمقدار الممكن ورغم أنها تهدر هذه الطاقات المعنوية الهائلة يجب عليها إبقاء هذه الثورة حية طرية في واقعها عسى أن تؤوب إلى رشدها في يوم من الأيام فتستنتج مواهبها لبناء كيانها من جديد ولو أن الأمة فرطت اليوم بثورة الإمام الحسين… لأنها أعجز من ان تقتصر مواردها لحكمت على نفسها ومستقبلها بالدمار الشامل المحتوم، إذ تكون قد سدت على الأجيال الطالعة أغزر مواردها حتى لو استيقظت يوماً من الأيام لا تقدر على النهوض إذ لاتجد مقومات النهوض، ولا نعدو الواقع إذا قلنا بان ثورة الحسين… اعظم أمانة امتحنت بها الأمة الإسلامية فحافظت عليها بالضحايا الكثار حتى تناقلتها أجيال الأمس وسلمها إلى هذا الجيل الملغوم فيجب على هذا الجيل أن يحافظ على الأقل على هذه الأمانة بجميع إمكاناته لتسليمها إلى أجيال الغد وعندما حاول الاستعمار هضم الأمة الإسلامية بادر إلى انتدال مصادر القوة فيها فانتدل منها القرآن وانتدل منها الحج وشاء أن ينتدل منها ثورة الحسين… لكنه لم يقدر على انتدالها وحاول مسخها وتشويهها حتى تشل عن التفاعل والإنتاج فاستعصت على المسخ والتشوه لوجود مصادرها الأصلية فانحسر الاستعمار وبقيت ثورة الحسين… أقوى من ان تصادر أو تشوه وقد سلمت الأمة جميع قواعدها المعنوية إلى الاستعمار وانهارت مقاومتها في كل معركة إلاّ ثورة الحسين… فإنها القاعدة الوحيدة التي لم تمكن من نفسها الاستعمار ولا زالت تقاومه فمن منابرها ينطلق صوت القرآن وفي مواكبها تجري خصال محمد وعلي والزهراء وفي ظلها يعيش كل من هدى الله قلبه للإيمان فشاء ان يتفيأ ظلال الإسلام ولو ألغينا ثورة الحسين عن حياة الأمة لم نجد لها قاعدة تتجمع فيها لتواصل مقاومتها للاستعمار لهذا بقيت كربلاء وتعاليمها حية في الوجدان على مر السنين والعصور وبقاؤها حية في الوجدان يحمل فوائد أساسية وغايات سامية إذ أنه يعمل ومن منطلق كل تلك التضحيات التي بذلت في سبيل الله وعلى استمالة الناس ودفعهم نحو الانفتاح على الحق وربط القلوب به والتقرب إليه بالأعمال كافة والتأكيد على أن خطه تعالى هو الجدير بالإنسان أن يسلكه عبر حياته ويبذل فيه الجهود والتضحيات كما يعمل من جهة ثانية على تحبيب الناس بالأخلاق والتعاطف مع المعاني الإنسانية النبيلة كالوفاء للمبدأ واحترام الكلمة والعهد ومؤاساة الآخرين ومحبة الإخوان والأصدقاء والكرم والإيثار على النفس وغيرها من المعاني السامية التي تزخر بها تفاصيل واقعة كربلاء وكذلك توجيه الفرد والمجتمع وهو يرى تلك المعاني السامية وتلك التضحيات ان يتوجهوا بصدق ونية خالصة نحو الله نحو الإصلاح نحو الدفاع عن حقوق الإنسان أينما وجد من أي لون وجنس وتتويج ذلك الإدراك بالفعل وعدم الاقتصار عليه بالكلام وعندما يحافظ المجتمع على هويته وكيانه من خلال التمسك بمبادئ ثورة الحسين… يصبح بعدها الاستعمار عاجزاً بل ومشلولاً على التأثير بقوة على مناهج الثورة ومبادئها.

ــــــــــ أشكال التحديات ـــــــــ

وحقيقة العزاء الحسيني بكل ما تحمل من معاني وأبعاد أقضت مضاجع المستعمرين فراحوا يجندون قواهم ويركزونها على هذه القاعدة الجبارة التي أبى الله لها أن تستسلم أو تهادن فخسئت هجمات المستعمرين مغلولة خواره وبقيت هي اكثر توهجاً واندلاعاً فجعلوا يبحثون عن سلاح جديد يهد هذه القاعدة التي لم يؤثر فيها أي سلاح واخيراً وقع اختيارهم على ما يعرف او تدعى أنها أفكار إسلامية متحررة تحمل صورة التعصبات المذهبية تارة ورغبات الاستعمار تارة أخرى فحركوها لضرب النهج الحسيني… فهاجت هذه مرة واحدة وكأنها على ميعاد تحارب الأمة والإسلام في قاعدتها الأخيرة وهي ثورة الحسين… فإذا بها تدعي: أن ثورة الحسين… هي الصخرة الوحيدة أمام تقدم الإسلام وهي تعلم: أن ثورة الحسين… هي القلعة الوحيدة الصامدة التي تمنع انحسار الإسلام وتقدم الاستعمار وبعض هؤلاء الخصوم الداخليون يتلقون الإيحاء والأموال من المستعمرين -بلا واسطة او مع واسطة- ولا يمكن ان تخالف الإيحاء ما دامت تحاذر ان تنقطع عنها الأموال وحيث إنها لا تحارب ثورة الحسين… لعقيدة تناقضها -كما تفعل الأفكار الإلحادية- وانما تنفذ إرادة المستعمرين -عن قصد أو غير قصد- ولا تستند في حربها إلى دليل معين وانما تنتهز كل حق وباطل لضرب هذه المبادئ المقدسة فمرة تستدل بالآراء الشاذة لعض المؤلفين بينما هي لا تعترف بأولئك المؤلفين ولا بالمراجع الكبار إلاّ بالتستر بأسمائهم وحسب، وطوراً تتذرع بأن الأعداء يضحكون مّنا فيما هي لا تحذر أن يضحك منها الأعداء والأصدقاء عندما جعلت من نفسها طريقاً يوافق طريقة الاستعمار،

ــــــــــ المواجهة هي السبيل الناجح ـــــــــ

فأما التمسك بالآراء الشاذة لبعض الكتاب فهو غير صحيح إذا لم يثبت براءتهم عن الانخداع على أن للكتاب ولكل صنف من الناس أراء شاذة غير أن أصحاب المواهب المتزنة لا يتبعون سوى الآراء الصائبة واما الذين يطمحون إلى بعض الشيء فهم الذين يتبعون الآراء الشاذة وكل شاذ يلائم أهوائهم وهؤلاء يكونون بؤرة الشذوذ التي لا تجمع الا المرضى المزمنين لا تحاول أن تظفر أبدا بالحق فإذا وجدت في رجل سياسي رأياً شاذاً صفقت له وإذا عثرت على كاتب ذي رأي شاذ ركعت أمامه وتباشرت بكتابه الذي يعرض ذلك الرأي فهي عندما تعتصم بهؤلاء وتهمل زملاءهم وأساتذتهم إنما تأخذ بذلك الآراء الشاذة لهؤلاء،واما ترك الشعائر الحسينية لضحك الأعداء منها فهذا يكشف عن انهزامية بالغة في نفوس هؤلاء المخربين -فهل ضحك الأعداء يبرر التخلف عن ديننا وشعائرنا؟ ولقد كان الجاهلون والمنافقون الذع سخرية واكثر ضحكاً من الإسلام غير أن النبي(ص) لم يعرْ سخريتهم الاهتمام فمضى في سبيله لا يلويه شيء حتى انتصر وألقى القرآن ضوءً على واقعهم المتفسخ بقوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (9) ولقد سخر اليهود بالأذان وسخر المشركون بالسجود فلم تثن من عزم المسلمين شيئاً بل ضربوا على ذلك النهج المستقيم، غير مبالين بعثرات غيرهم حتى ادخروا لنا التشيع عبر الزوابع الهوج وحيث أن أعداء التشيع ما ملكوا منذ اليوم الأول سلاحاً من العقل والدين لمحاربة التشيع، لم يجدوا بداً من التوسل بالاستهزاء الذي هو سلاح المبطلين وكان الشيعة اصلب من أن ينال منهم الحديد والنار فكيف بالاستهزاء الفارغ وكان أئمتهم يشجعونهم على هذا الصمود وقد دعا لهم الإمام الصادق… بقوله: اللهم أن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم لمن خالفنا فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حضرة ابي عبد الله الحسين… وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا (10) وقد دعا النبي(ص) على من يستهزئ بالشيعة على إقامة شعائرهم في حديثة لأمير المؤمنين… قائلاً: (...، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم كما تُعيّير الزانية بزناها أولئك شرار أمتي لا أنالهم الله شفاعتي ولا يَردون حوضي (11) ولكن ماضر الذين يقيمون شعائر دينهم ان يسخر منهم الجاهلون ماداموا يعلمون انهم على حق وان أعداءهم على باطل ولقد شكوا عند الإمام الصادق… استهزاء الأعداء بهم فقال -مهدئاً روعهم- (والله لحظهم اخطأوا وعن ثواب الله زاغوا وعن جوار محمد صلى لله عليه واله تباعدوا (12)،وهكذا يصوغ لنا أئمة الهدى منهج الرد الإيجابي على أعداء الدين والإنسانية وهكذا نرى في كلامهم منهجاً سليماً نواجه به ضحكات واستهزاءات الذين لا يريدون نور الله أن يشع على الأرض وانما هم يضحكون على نقاط القوة فينا لا الضعف لانهم يهابوها وانهم لا يحرصون على تحضرنا الا بمقدار علمهم باستحالة استعمارنا إلا عن طريق حضارتهم الفارغة لا يشفقون بأنا مالم نتخبط في الظلام لا يسهل لهم سوقنا تائهين إلى المجزرة وجعلوا يرددون في كل زاعق وناعق لهم أن الشعائر الحسينية محرمة وأنها تعرقل تقدم المسلمين ولو كانوا حقاً يريدون مكافحة المحرمات والاحتفاظ بالإسلام فلماذا لا يحاربون بقية المحرمات العلنية التي لم يختلف فيها اثنان من المسلمين ولم لم يصرخوا بوجه الشعائر الحسينية منذ أول يوم لها وقد كانت تمارس منذ قديم الأيام وأمام أعاظم العلماء والمفكرين والغريب إننا نجد وسط هؤلاء من كان سابقاً يقيم هذه الشعائر ويمارسها ولولا أمور جعلت لما مال عنها وخاصمها وسوف يعلم هؤلاء بأنهم خاسرون وتبقى تلوح في الأفق ويبقى فوق المنبر الحسيني خطيب يروي للأجيال قصص الشهادة الرائعة فيزيد نفوس الأمة حباً لأهل البيت وبغضاً لأعدائهم وتألفاً بينهم.

ــــــــــ النظرة الشرعية للشعائر الحسينية ـــــــــ

وقالوا ان الشعائر الحسينية بدعة ونقول العكس ان تحريمها بدعة ما أنزل الله بها من سلطان لأن البدعة في الدين (التي يعاقب عليها المبتدع اشد العقاب لا تعني سوى إسنادهم إلى الشارع دون أن يكون عليه دليل شرعي (13) وتحريم الشعائر الحسينية إسناد حكم إلى الشارع دون ان يكون به دليل شرعي فهو بدعة، ولقد حارب القرآن الكريم البدعة في كثير من النصوص والآيات الشريفة ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين) (14) والواقع ان الأدلة الشرعية ليست ساكتة عن حكم الشعائر الحسينية حتى يتاح للمبتدعين أن يفتروا على الله الكذب وانما هي واضحة تفيد ان الشعائر الحسينية مباحة بطبيعتها الأولية ومستحبة بطبيعتها الثانوية أما كونها مباحة بطبيعتها الأولية فتدل عليها أصالة الإباحة العقلية والشرعية فكل مالم يوجد دليل على حكم من الأحكام الخمسة: (وجوب، حرمة، كراهة، استحباب، إباحة) فهو مباح للأدلة الأربعة:

قال تعالى: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (15) وغيرها من الآيات الشريفات.

السنة: فعن النبي(ص) : (،رفع عن أمتي تسعة، وما لا يعلمون (16). وعن الإمام الصادق… قال: (كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،)(17) وفي الحديث المشهور (ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم (18)،

العقل: فهو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان،

الإجماع: فيكفي فيه اتفاق عامة الأصوليين واكثر الإخباريين على أن الحكم الشرعي هو الإباحة في كل مالم يرد فيه دليل إلزامي من الشرع أو العقل،أذن أصالة الإباحة محكمة في كل شيء لم يرد فيه حكم إلزامي والشعائر الحسينية من الأشياء التي لم يرد فيها حكم إلزامي فتكون مشمولة بأصالة الإباحة فمن حرمها فقد ابتدع في الدين لأنه اسقط الأصل عن الاعتبار بلا مبرر.

ــــــــــ شبهات باطلة ـــــــــ

وهنا يسرع أصحاب هذه الدعوة الباطلة إلى القول بأن التطبير وضرب الأكتاف العارية بالسلاسل، مضرة بالصحة وكل شيء يضر بالصحة فهو حرام؟!والجواب عنه فهو بما يلي:

أولاً: ليس في الشعائر ما يضر وهي نقاشنا حول المقدمة الأولى او الصغرى لاصحاب هذه الشبهة وهي مقدمة غير مسّلم بها أولا فالتطبير لا يزيد على جرح الرأس ونزف كمية محدودة من الدم لا تضر الجسم بل قد تنفعه كالحجامة والفصد واما ضرب الأكتاف بالسلاسل فانه لا يضر الأكتاف بل على العكس يسبب قوة جلده، واما إذا أدت هذه الشعائر هلاك الإنسان او طرف من أطرافه فإنه يحرم عليه بالنسبة إلى نفسه فقط ولكن هذا داخل في العناوين الثانوية التي لا تؤثر على أحكام العناوين الأولية، فهل كل شيء اذا أصبح ضررياً يحرم وان كان بالعنوان الأولي واجباً كالصوم والحج فهل هذا يبرر ان تقول ان الصوم والحج محرمان لانهما قد يؤديان إلى ضرر؟ ان الضرر المحرم عقلاً وشرعا هو الضرر الذي لا يؤدي إلى هدف عقلائي صحيح أمثال الزهاد ومن صاغوا من حياتهم نموذج الجسد المعلق بالأرض والروح المعلقة بالسماء كثيرون (فآدم عليه السلام بكى على فراق الجنة حتى فتح الدمع في خديه أخدودين ويعقوب عليه السلام انتحب على فراق يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن ويحيى… فإن الدمع خد خديه واكل منهما حتى وضعت أمه عليهما لبدا (19)،(وشعيب… بكى حباً لله وخشية منه حتى عمي فرد الله بصره ثم بكى وعمي حتى رد الله بصره وبكى حتى عمي ورد الله بصره وعندما استجوب من قبل الله على كثرة بكائه وأجاب بأنه يبكي حباً لله قال الله عز وجل لهذا اخدمتك كليمي موسى بن عمران (20)،(والنبي(ص) وقف في محراب الصلاة حتى تورمت قدماه (فلقد قام رسول الله(ص) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تــــورمت قدماه واصفر وجه يقــــوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك (21)،(وان فاطمة الزهراء(ع) كانت تقوم حتى تتورم قدماها (22)،وان أمير المؤمنين… كان كل ليله يناجي الله ويذكر الموت والقبر والنار حتى تعتريه -من خوف الله- غشوة يخر منها كالخشبة اليابسة وان الإمام السجاد… فقد بكى وانتحب على أبيه الحسين… حتى قال مولى له: جعلت فداك يا أبن رسول الله أني أخاف ان تكون من الهالكين... وقال له أصحابه (انك لتبكي دهرك فلو قتلت نفسك ما زدت على هذا (23)،واما الإمام الحسن… فقد مشى إلى مكة خمسة وعشرين حجة ماشياً على قدميه،(24)،واما الإمام الحسين… فيكفي في كل صور كربلاء دليل وشواهد على ما تحمله الإمام من مضرة والم وهلاك في سبيل الله تعالى حتى أن أهل البيت عليهم السلام صاموا ثلاثة أيام دون ان يفطروا بغير الماء حتى كان الحسنان ليرتعشان من الجوع كأنهما فرخان منتوفان فقدر الله إيثارهم بسورة ( هل أتى) ، (وان الرباب زوجة الحسين… آلت على نفسها، بعد رجوعها إلى المدينة: أن لا تستظل تحت سقف وعاشت بعد الحسين سنة واحدة ثم ماتت كمداً، وقيل إنها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفاً عليه)(25) وهذه الأعمال والكثير من أمثالها التي ملأت السيرة الطاهرة تدل على ان مجرد الإضرار بالصحة غير محرم في الإسلام بل محمود ان كان في سبيل الله كما يظهر من وصف أمير المؤمنين… للمتقين في خطبته المشهورة وروى ابن قولويه في كامل الزيارات عن الإمام الصادق… انه قال: (أيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الأذى...)(26) ومن كل هذا يظهر أن كل ما يضر بالصحة ليس حراماً كما يبدو لبعض الناس بل قد يكون مستحباً شرعاً،واخيراً لا بد لنا من القول ان الممارسات الحسينية لم تنطلق من فراغ تاريخي او مصطنع بقدر ما كانت هذه الممارسات تشكل صوراً واضحة الدلالة والتعبير في المضمون والغاية هذه الصور جسدتها حياة الأئمة الأطهار في كل ممارساتهم الدنيوية او الدينية وحاولوا بشتى الوسائل المتاحة والمناسبة من تكريس هذه الشعائر في الحياة والواقع الاجتماعي للامة وبهذا الفعل والممارسة جعلت مصير هذه الشعائر مرتبطا بواقع الأمة ومصيرها سلباً او إيجابا باعتبارها الرافد لمعاني الحياة السامية فإذا أرادت الأمة السير نحو أهداف الإسلام العليا واتخاذ الجادة الصواب عليها المضي على طريق الثورة الحسينية عبر ممارسة هذه الشعائر واحيائها وليست هذه الشعائر إرهاصات فكرية او أدبية تشع في لحظة وتخمد في لحظات أخرى إنما هي حالة من التفاعل المستمر بين المعاني الحسينية وبين تطلعات الإنسان في عالم الاستبداد والظلم والوصول به إلى شاطئ الكرامة والحرية والإباء هذا التفاعل المستمر إنما هو حالة الأخذ والعطاء بين حالة النهوض التي تجسدت في شخصية سيد شباب أهل الجنة وعنوانها وبين طموحات الأمة وأهدافها وخياراتها الحضارية وهي أي الشعائر الحسينية مشروع أنساني واسلامي لا يمكن تجاوزه وإلغاؤه بمقولات التحديث المزيف الذي يريد تجاوز الفجيعة والدمعة والعبرة ببضع كلمات في الحضارة والثقافة الجديدة التي وان تزينت بزيف الكلمات وأبهى الصور البراقة فإنها لاتصل بحقيقتها إلى عظمة المأساة وسمو الشهادة والمعاني في واقعة كربلاء واقعة عاشوراء المعجزة التي ستظل على مدى الأجيال شامخة وان عصفت بها رياح التضليل وتيارات الأفكار الضالة والمضلة.


1 ـ موسوعة العتبات المقدسة -جعفر الخليلي- ص370

2 ـ موسوعة العتبات المقدسة، جعفر الخليلي، ص380

3 ـ مستدرك الوسائل، 10/318/ح،12084 كتاب الحج باب (49) استحباب البكاء

لقتل الحسين… ،

4 ـ بحار الأنوار: 10/32 و22/175/16،

5 ـ بحار الأنوار، 98/117/328/8 باب كبير زيارة الحسين… يوم عاشوراء،

6 ـ كامل الزيارات 201/202/2 باب (32) ثواب من بكى على الحسين…

7 ـ آمالي الصدوق 68/4-المجلس السابع عشر يوم الجمع 15رمضان 367ه

8 ـ الشعائر الحسينية للسيد حسن الشيرازي: ص58

9 ـ البقرة آية 14/15

10 ـ كامل الزيارات: 228-229/ج2 باب(40) دعاء رسول الله(ص) وعلي وفاطمة

والائمة عليهم السلام لزوار الحسين… ،

11 ـ بحار الأنوار: 97/120-121/22 كتاب المزار باب (2) ثواب تعمير قبور

النبي والائمة صلوات الله عليهم أجمعين،

12 ـ كامل الزيارات 492-493/11 باب (98)

13 ـ مجمع البحرين 4/352 (باب)

14 ـ سورة الحاقة آية 44-47

15 ـ سورة الإسراء، آية 15

16 ـ التوحيد 353/ج24 باب (56)، الأنوار: 2/280/47 باب(33)

17 ـ تهذيب الأحكام: 9/79/72 باب الذبائح والأطعمة

18 ـ الكافي 1/164/3 كتاب التوحيد

19 ـ قصص الأنبياء الراوندي،

20 ـ علل الشرائع، 1/74/75/1 باب (51)

21 ـ الاحتجاج 1/326،

22 ـ بحار الأنوار 43/75-76/62، تاريخ السيدة فاطمة الزهراء(ع)

23 ـ مناقب ابن شهر آشوب 4/180

24 ـ الكافي 1/463/6 كتاب الحجة

25 ـ الشعائر الحسينية لسماحة السيد حسن الشيرازي: ص49

26 ـ بحار الأنوار: 44/81/281/،13 كامل الزيارات: 201/1 باب (32)


 

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية