سريرة الباطن.. جوهرة السلوك والانقياد |
|||||||||||||||||||
من
المحاضرات الأخلاقية لسماحة الفقيه المحقق |
جاء في وصية لرسول الله (ص) إلى أبي ذر الغفاري اخترنا منها ما يناسب المقام بقوله: (يا أباذر إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)(1). والمعنى أن المهم في الإنسان ليس الصورة والمظهر بل أن يعيش في داخله الإنسان الحقيقي فعلاً في مبادئه وأخلاقه واخلاصه في العمل بكيفية مرتبطة بطريق واحد وهو طريق الحق والسير في مرضاة الله سبحانه.. وهذا ليس بالأمر اليسير ولا في متناول أي أحد بل يحتاج إلى السعي والتعب بتحمّل المصاعب.. وما أجمل ما عبّر به بعضهم عن هذه الحقيقة حين قال ما مضمونه: (إذا كان الإنسان إنساناً بإذنه ولسانه وعينه وأنفه، فما الفرق بين صورته المنقوشة على الحائط وإنسانيته الحقيقية.. لأن كلا الصورتين لها أذن ولسان وعين وأنف فلكي يصبح الإنسان إنسانا لابد له من أن يتمسك بالجوهر إن حصل عليه ومركزه القلب ويدع عنه القشريات أو الأمور المالية فإنها زائلة أو صور متحركة لا تعي الأشياء على حقيقتها كما لو كانت الصورة المنقوشة على الحائط لا حس لها ولا تكليف.. لذلك أراد منا سبحانه أن نجمّل الباطن ليكون الظاهر راسخا ومبدئيا لا يتزلزل بفعل العواصف والانحرافات وهذا لا يعني أن الله سبحانه لا يحب الجمال والنظافة الظاهرية وانما الثواب والعقاب يكون على سريرة الباطن وهو بدوره ينعكس على الخارج وإلا لا نطبق على هذا المعنى قوله سبحانه ( كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) (2) وقد فصّلنا الكلام في هذه الآية الشريفة في البحث السابق(3) وبتعبير آخر إن الله سبحانه لا ينخدع بالظاهر لأنه ينظر إلى القلوب ليس كما ينخدع الإنسان بالآخرين لأنه ينظر إلى الأفعال الخارجية وعادة الآخرين أن يستروا ما يكرهه الناس لذا حدّد الرسول الأعظم (ص) في وصيته مصدر الحركات والجوهر الغالي في قبول الأعمال وهو القلب وبه تتعلق النيات خيرها وشرّها والصور الخارجية آلات متحركة بفعل ايعازاته فمن الحكمة أن ينظر سبحانه إلى مصدر الايعازات لا الى ما يملكه الإنسان أو يقوله أو يتجمّل به في الظاهر فهو سبحانه ينظر إلى حقائق الأشياء وجوهرها وإلى آثارها وهي الأعمال التي تتخذ كيفيتها من مصدرها الأساسي وهو القلب فالظاهر إذن يكون مرآة تعكس ما في الباطن قال سبحانه: ( نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) (4) وقد جاء في تفسير الآية الشريفة ما يلي: (أي تشرف على القلوب فيبلغها ألمها وحريقها)(5). وقال رسول الله (ص) : (في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحّت سلم بها سائر الجسد فإذا سقمت سقم بها سائر الجسد وفسد وهي القلب)(6). فلا تجتمع في القلب أضداد الدنيا كحب اله وحب الدنيا معاً أو متابعة الله سبحانه ومتابعة الهوى فقد ورد في الآية الشريفة ( وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (7). فالقلب يحتل مرتبة كبيرة من الجسد فبدن الإنسان بمنزلة المدينة الكبيرة التي لها حصن منيع هو القلب والله سبحانه سلطان القلب ومدبّره ولهذا الحصن أعداء كثيرون من النفس الأمارة والشياطين الغادرة وأصناف الشهوات النفسانية والشبهات الشيطانية فإذا صفى قلب العبد بالطاعات ومال عن الشبهات والشهوات استولى عليه حب الله تعالى ومنعه عن حبّ غيره وتصير الآلات البدنية مطيعة للحق منقادة له ولا يأتي شيء منها منافي لما يرضاه الله سبحانه لأنه يحمل قلباً واحداً لا أكثر وهكذا لو كان العكس فالخارج لا يكون إلاّ كما كان عليه القلب. وفي رواية تنقل في أحوال نبي الله موسى … عندما مرّ على قريةٍ من قرى بني إسرائيل فنظر إلى أغنيائهم قد لبسوا المسوح وجعلوا التراب على رؤوسهم وهم قيام على أرجلهم تجري دموعهم على خدودهم فبكى رحمة لهم فقال: إلهي هؤلاء بنو إسرائيل حنّوا إليك حنين الحمام وعووا عوي الذئب ونبحوا نباح الكلب فأوحى الله إليه: ولم ذاك لأنّ خزانتي قد نفدت أم لأنّ ذات يدي قد قلّت أم لست أرحم الراحمين؟ ولكن أعلمهم أنّي عليمٌ بذات الصدور، يدعونني وقلبوهم غايبة عنّي مايلة إلى الدنيا(8). |
|
في إحدى جلسات البحث العلمية جرت مناقشة حول أصعب آية في القرآن الحكيم وكنت من ضمن الحاضرين فذكر بعض العلماء أنها في سورة هود وبالتحديد في قوله تعالى ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير) (9) والمعنى أنه يتوجب على الرسول الأعظم (ص) أن يستقيم على الوعظ والإنذار والتمسك بالطاعة والأمر بها والدعوة إليها وهو أمر لم ينحرف عنه الرسول الأعظم (ص) ولكن ما يصعب على قلب رسول الله (ص) هو في قوله سبحانه ( ومن تاب معك) أي فليستقيموا هم أيضاً لذا ورد عن ابن عباس: (ما نزلت على رسول الله (ص) آية كانت أشدّ عليه ولا أشق من هذه الآية ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له أسرع إليك الشيب يا رسول الله قال شيبتني هود والواقعة)(10) فالاستقامة أداء المأمور به والانتهاء عن المنهي عنه دون التراجع تارة و القبول تارة أخرى فالاستقامة على مرّ الوقت تكون صعبة جدّاً بالأخص على من يكون ضعيف التحمل وضعيف البصيرة.. ولم يكن في نظري أنها الأصعب لأن الاستقامة مسألة نسبية قد تكون صعبة لدى فرد من الأفراد لأنه عاش في وسط مرفّه يصعب عليه تغييره وعادات مارسها بأيمان منه.. لكن هناك أفراد عاشوا الحياة البسيطة فلا يصعب عليهم الالتزام واتباع ما يفرضه الإسلام عليهم من أوامر ونواهي (ولعلّ بعض الأصحاب كان يلتذذ باللذة المعنوية التي أذابته في حب الله سبحانه فلم تكن الاستقامة عنده بالأمر الشديد). |
|
والبعض الآخر اقترح آية شريفة أخرى وهي قوله تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانــــكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةً تخشون كــــسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في ســــبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(11) والمعنى أن الإنسان شديد التمسك والعلاقة في هذه الدنيا بأبيه وأخيه وزوجته وعشيرته وماله ومسكنه وهو يحرص عليها أشدّ الحرص عندما يدعوه الله سبحانه إلى أن يضحّي بها في سبيل الله ورسوله (ص) فيكون الأمر صعباً حين يفارق هذه الأمور التي عمل على جمعها والانتساب إليها لا سيّما أن الإنسان غالباً ما يكون شديد التعلّق بالأمور المادية.. ومن وجهة نظري أيضا لم تكن هذه اصعب آية لأننا نرى وعلى مرّ التاريخ شواهد عديدة على انسلاخ المسلمين الأوائل عن هذه العلائق بمجرد إيمانهم بأن طريق الجهاد هو السير في حب الله سبحانه ورسوله (ص) فلم يكن هذا الأمر عائقاً صعباً نعم تظهر صعوبته على من كان يرتبط بالإسلام بجسده أو بدنه دون قلبه أو دون إيمان راسخ وهذه الشريحة لا يصعب عليها التضحية بالامور المادية فقط وانما كانت تعمل على تحبيط الآخرين والنفاق وتحذيرهم من قتال الكفار حتى لا يقتلوا فهم لا يعرفون معنى للشهادة أو للحياة الآخرة فالدنيا لذّتهم لا الآخرة ومن الطبيعي أن يصعب عليهم الأمر. |
|
وقد قمت بطرح آية شريفة في البحث لعلها تأخذ بمجامع كل إنسان وهي آية نتعامل بها في كل يوم عشرات المرات الا وهي قوله تعالى ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) (12). ولعل السؤال هو أين مركز الصعوبة؟ مركز الصعوبة يتجلى في كلمتين (كيف تعملون) فالكيفية تختلف من شخص الى آخر فالبعض يصلّي في المسجد جماعة وفي الظاهر يبدون للناظر أنهم واحد ولكن هل جميعهم متساوون في الكيفية؟ وقبل الجواب لابد من الرجوع إلى الآية الشريفة وبيان ما جاء فيها بخلاصة: إن الله تعالى يقول نحن أخذنا آبائكم وجعلناكم خلائف في الأرض ليس بسوء نظرة للآباء ولا حسن نظرة لكم وانما هم ذهبوا وانتم جئتم لنرى كيفية عملكم وهذا الأمر قد يبدو على طبيعته بوضوح في تصرفات اي نخبة من المجتمع. خذ مثلاً الحاضرين في الدرس كلهم طلاّب علم ولكن كل واحد يختلف في الكيفية عن الآخر فهناك من يطلب العلم لأجل الثواب الأخروي والآخر يطلبه لأجل العلم ذاته والآخر لأجل أن يقول الناس هذا عالم وقد تكون لآخر مصلحة ما وهكذا باختلاف الدوافع... وبتعبير آخر: قد نرى قارئين للقرآن ولكن أحدهما يريد الوصول إلى آخر السورة ويختم القرآن الحكيم في مدة معينة والآخر يقرأه ليتدبر في آياته ويتنبه فهل هذه الكيفية واحدة؟ وبتعبير أدق: يوم عاشوراء صلّى الإمام الحسين … بأصحابه جماعة "وعمر بن سعد صلّى بأصحابه جماعة".. ومن الواضح أن لجماعة الإمام الحسين… منازل ومراتب إيجابية ولجماعة عمر مراتب ومنازل سلبية فالكيفية الأولى بعكس الكيفية الثانية تماماً وهكذا تظهر صورة الكيفية واضحة عند المواجهة مع العائلة أو مع المدرسة أو مع الأصدقاء أو مع المجتمع.. لذلك تصورت أن هذه الآية الشريفة هي اصعب آية معتمدا على أن الكل مبتلي بها في اليوم الواحد عدة مرات في الصلاة وفي الكتابة وفي الحفظ وفي الجلوس وفي السير والركوب والتخاطب والبيع والشراء.. ولعل المراد يتوضح لنا أكثر بسرد عدة أمثلة ووقائع تقربنا إلى المعنى أكثر ومن خلاله يمكن العروج على مسألة مهمة وهي محور موضوعنا هنا. |
|
لو كان هناك إمامان للجماعة في منطقة واحدة وكل واحد منهم يصلّي في مسجد معيّن يومياً وفي أثناء الصلاة تذكّرا أنهما ليسا على وضوء وقطعا صلاتهما وقاما بأخبار الناس بإعادة صلاتهم لأنهما ليسا على وضوء.. ومن الطبيعي ان هذا الإخبار يتطلب جرأة وقوة كبيرة في النفس تساعدهم على ذلك. والمهم أن أحدهما قطع الصلاة خجلاً من الله سبحانه وانقياداً لأوامره سبحانه ولم يهمّه ما سيقوله الناس عنه.. وأما الآخر فقد قطع صلاته ليس في سبيل الله تعالى وانما كان يريد في ذلك أن يقول الناس إنّه إمام جيد وجرئ وعادةً أن أمثال هذا الإمام يصيبه العجب بالنفس لأنه لم يربّي باطنه أو يهذّبه. فهل يجازيهم الله سبحانه بنفس المستوى؟ هذا ليس محل بحثنا وانما البحث في أنه ما الفرق بينهما؟ الفرق هو في الكيفية. وقد ذكر علماء الأخلاق من علامات كيف تعملون: الا يلتفت في أموره إلى غير الله سبحانه ولا يكون اتكاله في مقاصده الا عليه ولا ثقته في مطالبه إلاّ به فيتبرأ عن كل حول وقوة سوى حول الله وقوته ولا يرى لنفسه ولا لأبناء جنسه قدرة على شيء ولا منشأية لأثر ويعلم أن ما يرد عليه منه تعالى وما قدّر له وعليه من الخير والشر سيساق إليه فتستوي عنده حالة الوجود والعدم والزيادة النقصان والمدح والذم.. والسر فيه انه يرى الأشياء كلها من عين واحدة هو مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يراها مسخرة تحت حكمه. قال الإمام الصادق… من ضعف يقينه تعلق بالأسباب ورخّص لنفسه بذلك واتبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة.. (13). فالكيف إذن مركزه القلب وإذا ارتبط القلب بالله سبحانه لا يمكن أن يزل أو ينحرف فيكون الباطن والظاهر متوازنين ولا يهمّه إن خسر أو ربح شيئاً من هذه الدنيا، ولقد تصدّق الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب … بخاتمه وهو راكع ونزلت بحقّه الآية الشريفة من قوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (14). وبنفس هذه الصورة تصدّق آخر ولكن نزلت بحقّه الآية الشريفة ( فلا صدّق ولا صلّى * ولكن كذّب وتولّى * ثم ذهب إلى أهله يتمطّى) (15). وفي سبب نزول الآية المباركة ورد: (أن رسول الله (ص) دعا إلى بيعة علي … يوم غدير خم فلما بلّغ الناس واخبرهم في علي ما أراد الله أن يخبرهم به رجع الناس فاتكى معاوية على المغيرة بن شعبة وأبي موسى الاشعري ثم أقبل يتمطى نحو أهله ويقول: والله لا نفي لعلي بالولاية أبداً ولا نصدّق محمدا(ص) مقالته فيه)(16). ومن هنا يظهر أثر القلب ويظهر الفارق الواضح في كيف تعملون وقد انشأ حسان بن ثابت في ذلك يقول: أبا
حسن تفديك نفسي
ومهجتي وكلّ
بطيء في الهدى ومسارع |
|
في خطبة للإمام أمير المؤمنين … يقسّم فيها الناس إلى أربعة أقسام وما يهمنا هو قوله: (..ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية..) (18). بعض الناس يكونون عاجزين عن الوصول إلى الدنيا ولكن يحتالون لها بالسمعة والرياء كالزي والهيئة فتراه يظهر التواضع والوقار والتنزه عن النجاسة بتقصير ثوبه فيظهر حاله حال الصلحاء والأتقياء فيفتتن به الناس وترغب إليه قلوبهم ويعظم قدره عندهم ويروه أهلاً للأمانة فيقولون إنّه ملتزم حتى بالمستحبات فهو يمشي بسكينة وله هدوء في قلبه. وهذا ما نسميه طبعاً بتجميل الظاهر ولكن الويل كل الويل لأمة قد تبعته وقدسته فهي في انحراف عن المبادئ والموازين دون علم منها فسيان عنده شاع الظلم أم العدل أو شاعت المحبة أم البغض فهو يروم الوصول إلى مراده ومثاله على مرّ التاريخ واضح للعيان في حكّام السوء كمعاوية وأمثاله من بني أمية أو بني العباس أو صدام أو… وهذه الكيفية في مقابلها كيفية أخرى في العمل لا انحراف فيها فهي الطريق المستقيم والحق الدافع متمثلة بسيرة أمير المؤمنين … والأئمة المعصومين عليهم السلام فكل خطوة يخطونها هي في سبيل الحق وفي سبيل النجاة ولم يميلوا عنه فبهم عليهم السلام استطعنا كشف الحيل وزيف من ادّعى الزهادة والقداسة ولا زالوا هم الميزان الذي نعتمد عليه في تشخيص واقع القيادة وواقع الأمّة. |
|
ويمكن تصوير ذلك من خــلال هذا النموذج فإذا كان هنا شخص من الأخيار تصرفاته الظاهرية شرعية وذا صلة بالناس يزورهم ويستضيفهم وتصدر منه حالات ظاهرها الإيمان..! إن لناس تميل إليه وتثق به ثقة كبير وتستأمنه على أموالها وما شابه ولنفرض أن هذا الشخص صار سبباً لأن يلتزم به أحد الشباب متخذاً منه أسوة له في كل التصرفات ولكن فجأة وبعد سنوات يكتشف هذا الشاب أمورا منافية للإيمان بدرت من المعلم حينها تكون الصدمة عليه قوية جداً بحيث يتراجع هذا الشاب عن كل عمل خيّر، فلماذا هذا التراجع والاختلاف في كيفية العمل؟ فلو كان قلب هذا الشاب مرتبطاً بالله سبحانه منذ البداية لما اختلفت كيفية عمله في الدنيا حتى وإن زلّ أو انحرف المعلّم فإذا زلّ أستاذي (لا سامح الله) الذي تعلمت منه يجب أن لا أزل انا لأن القلب يجب أن يتصل بالله سبحانه وليس بأفراد تصوّرنا أنهم متصلون بالله تعالى نعم الأستاذ وسيلة تفتح لنا الآفاق المجهولة وتضع أقدامنا على الطريق هذا إن لم يكن أستاذنا من المعصومين عليهم السلام لأن المعصوم لا يزل ونحن والحمد لله لنا وسائل وطرق توصلنا إلى الآفاق المطلوبة بدون انحراف لو اتبعناها بحق فقد جاء عن رسول الله (ص) انه قال لعمار بن ياسر ما مضمونه: (لو سلك كل الناس وادياً وعلي سلك وادياً فاتبع علي..). ومن ذلك نعرف أن غير المعصوم نسير خلفه ما دام هو في طريق الله سبحانه أما إذا انحرف فلا نتبعه وهذا الأمر يحتاج إلى قلب راسخ ذي كيفية متوازنة.. |
|
الأمة إذا انحرف بعض قادتها هل تنحرف هي أيضاً؟ المواضيع المرتبطة بالماديات نعرفها جيداً وصورتها واضحة أمامنا أما لو تعلقت بالمعنويات فنحتاج فيها إلى التوجيه لعدم اتضاح الصورة أمامنا لذلك تنحرف الأمة غالباً بانحراف قادتها لأنها متكاملة في الماديات.. والعلاج الطبيعي يوجّب على الأمة أن تتمسك بالجوهر ولا تتركه فمن علامات (كيف تعملون) هو ارتباط الإنسان بالقلب فلو رأى الأشخاص الذين كان يعتبرهم بألوف الدرجات من الإيمان والتقوى والعلم والذكاء والفهم.. انحرفوا فان انحرافهم هذا لا يجب أن يحدث ثغرة في إيمانه لأننا إذا لمسنا الجوهر لا نتركه نعم الإيمان المستودع يتقلب يوماً عن يوم. فاذا وجدنا زلّة العالِمْ زلّة العالَمْ هذا معناه الكيفية ناقصة فينا. فلا نربط ثقتنا بالله تعالى مثل ارتباطنا بزيد وعمر لأن الإيمان لو كان قشريا أو مستودعا سيزول.. لنفرض هنا مثالا ـ والمثال لا يسأل عنه ـ إذا كان هناك اكثر القديسين في زماننا زلّ يجب أن لا يزل إيماننا لأنه مرتبط بالجوهر أما لو كان قشريا فاحتمال زواله كبير. ولو عرفنا أن المعلّم الفلاني كان مرائيا لا نندم لأننا تمسكنا بالجوهر ولم نتبع غيره وغير المعصوم عليه السلام. فنحن نرى أن الثلج في الصيف غال لأنه مطلوب أما في الشتاء فهو رخيص لعدم الطلب وهذا جار في كل أمر اعتباري أما الجوهر لا يتغير ومركزه القلب. لذلك علينا أن نميز اليوم بين من يدّعي القداسة ومن سلم قلبه من كل خداع حتى لا نصل إلى مرحلة نعض فيها على اليد أو ننحرف كانحراف علي بن أبي حمزة البطائني المعروفة قصته بعد أن نال مرتبة كبيرة من القداسة حتى صار وكيلا مطلقاً للإمام الكاظم… ثم انحرف بفعل الماديات وتبعه على ذلك جماعة لم يعرفوا من الإسلام إلا قشره. |
|
البعض من القادة تراه يرفع الشعارات الطنانة من اجل الحرية والسلام قبل تسلّطه على رقاب الناس ويعمل على ترسيخ المبادئ والقواعد العامة التي ينشرها بين الرعية للاستفادة منها ومن ذلك مسألة النقد للظواهر السلبية سواء في تصرفات القيادة أو ما يرتبط بها حين التطبيق وحينما يصل إلى الغاية وهو المهم في الموضوع. إما أن نراه يستمر على الكيفية الأولى وبنجاح أو العكس بأن يقوم بكم الأفواه وملء السجون لو بدر من أحدهم نقد أو تصحيح لما ظهر من أخطاء واضحة السلبية وهذا الأمر مرتبط بالكيفية أيضا فلو تقبل النقد ومال إلى الصحيح من الأعمال كان إيمانه جوهريا أما لو رفض وتمادى كان إيمانه قشريا وقد ذكرنا عن أمير المؤمنين … في تصنيفه للناس في الحديث المتقدم أن هناك من يطلب الدنيا بعمل الآخرة فهو يناضل باسم التقوى والأخلاق والإيمان لأجل هدفه الدنيوي وقد يكون إيمانه غير جوهري فهو ينحرف أثناء المسير ولننظر إلى ما أوصى به أمير المؤمنين … لمالك حينما ولاّه مصر: (وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم)(19). أي يعني إعطاء الرعية حق انتقاد المسؤول إذا ما عمل عملاً مخالفاً كما كان مالك ينتقد المسؤول فهو الآن مسؤول ومعرض للانتقاد لذلك حينما يرتفع الإنسان إلى المستوى الأعلى ويرتقي في مدارج الكمال يجب أن ينظر إلى من دونه نظرة عطف وحنان ويمد يده إليه محاولاً أن ينهض به فإن أعياه ذلك لم ينطو قلبه على الغش له ولا الحقد عليه.. وقد روي عن رسول الله (ص) : (أن بدلاْء أمتي لم يدخلوا الجنة لكثرة صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكن دخلوها برحمة الله وسخاوة النفس وسلامة الصدور). وهذه سنة الله تعالى في الحياة إذ إنها قامت على أساس تكملة الأدوار فمثلاً مسيرة الدين مع البشرية إذ انه كان كل نبي يأتي ليتمم ما قام به النبي الذي قبله إلى أن تكامل الدين في آخر صورة وطرح للعالمين على يد خاتم النبيين محمد (ص) وهكذا الأدوار التي جاءت بعده على يد الأئمة المعصومين(ع) .. ونحن من الضروري أن نلتزم بذلك ونعمل طبق هذا الأسلوب والمنهج الصحيح فلو انشأنا مؤسسة أو هيئة أو حكومة فلابد أن ندرس وندقق في عمل المؤسسات والهيئات والحكومات التي سبقتنا ونكمّل ما توقف عنده الماضون ونضع الخطوات الصحيحة على الطريق ليأتي الجيل اللاحق ويكمّل ما توقفنا عنده لا أن نهدم البناء ونقيم مكانه آخر فنبدأ من الصفر أو ننحرف عن الطريق الصحيح بحيث يكون الظلم عدلاً والقيد حرية والاستبداد شورى فتتشابك الخطوط على الجيل اللاحق بحيث يتوجب عليه أن يعمل جاهداً ليفصل بين الظلم والعدل أو الاستبداد والشورى وبعد التصفية يكون العدل في مكانه عدلاً والظلم في مكانه ظلماً لذلك نرى في يومنا هذا من أظهر رأيه بشجاعة أو ما يمليه عليه ضميره يكون مستبداً والحاكم يكون عادلاً لأن الموازين والمبادئ انحرفت عند الأمة وتمسكت بالقشريات لا بالجوهر والجوهر شيء غال لا يسلّم إلينا اعتباطاً وانما هو يستودع فيمن كانت كيفية عمله نابعة من القلب. |
|
نحن على صغر وضعف عقولنا نحاول أن لا نعمل ما ليس بحكمة فهل الله تعالى يعمل ما ليس بحكمة؟ فإذا كان هناك شخص غير عادل لا نصلّي خلفه.. وإذا كان لدينا الملايين لا نسلمها إلى الطفل ولذلك لا يسلّم الله سبحانه لنا الجواهر الغالية إذا لم نكن نحن لائقين لها.. ينقل في أحوال أحد أصحاب المهن الحرّة وكان حمالاً (ومن الطبيعي أن بعض المهن الموجودة هو الحمّال وأنه يحمل قلباً قد يكون خيرا من الكثير) فسألوه أنت ابن من؟ قال: ابن فلان. فقالوا له: نعم الأب وبئس الولد. قال: لا وانما قولوا نعم الجد وبئس الأب لماذا؟ لأن جدي ربّى أبي وصار معروفاً بين الناس ووصل إلى هذا المقام وبئس الأب الذي هملني ولم يدعني أن أدرس أو اصل إلى حرفة قد تكون افضل من الحمالة. ولكن هذا الكلام غير متوازن ولا ينظر إلى ما يحمله الإنسان في جوهره من قلب فلو نظرنا إلى القلب لما كان هذا التمييز بين البشرية. فالقلب أذن غير منكشف لنا وما ظهر لنا هو مادي اعتباري لا أكثر أما الله سبحانه فهو ينظر إلى قلوبنا ومن علامته انّ قلب الإنسان لا يتزحزح ولا يتأثر ولا يزداد ثقة بفعل الأخيار ولا ينقص بسوء فعل السيئين ويجب أن لا يؤثر فيه الانحراف ليبقى القلب منعماً بالإيمان والحصول على التوفيق الإلهي في الدنيا والآخرة. |
|
الهوامش |
|
(1) مكارم الأخلاق ص469 مؤسسة الأعلمي ط6 بيروت. (2) الصف/3. (3) راجع مجلة النبأ العدد42 (4) الهمزة/6،7. (5) راجع مجمع البيان للطبرسي(ره) المجلد الخامس ص538 طبع دار إحياء التراث العربي بيروت. (6) الخصال للشيخ الصدوق (ره) ص31 باب الواحد حديث 109 طبع جامعة مدرسين/قم المقدسة. (7) الأحزاب/4. (8) سفينة البحار ج7 ص344. القلب وما يتعلق به/طبع دار الأسوة للطباعة والنشر إيران. (9) هود/112. (10) تفسير مجمع البيان للطبرسي (ره) ج5-6 المجلد الثالث ص199 دار إحياء التراث بيروت. (11) التوبة/24. (12) يونس/14. (13) راجع جامع السعادات ج1 ص120. اسماعيليان/قم المقدسة/ المصور على طبعة النجف الاشرف 1383هـ. (14) المائدة/55. (15) القيامة/31-33. (16) البرهان في تفسر القرآن ج4 ص409. (17) راجع مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي (ره) المجلد الثاني ص211. (18) راجع نهج البلاغة خطبة 32 ص74 تحقيق صبحي الصالح طبع دار الكتاب اللبناني. (19) نهج البلاغة ص427. كتاب رقم 53/تحقيق صبحي الصالح. |