بين المنعة واعتبارات الأمن العام |
حيدر البصري |
لا شك في أن البيت الذي يعيش فيه الإنسان يعد مملكته الخاصة التي اتخذها لتكون حرزاً لجميع ما يخصه مما لا يرغب في اطلاع الآخرين عليه، على كونه سكنه الذي يأوي إليه حين يتمكن منه التعب، وتأخذ منه مشاكل الحياة مأخذها. أن قضية المنزل مما لا يختص به الإنسان فحسب، وانما يشترك معه فيه غيره من الكائنات الحية التي تشاركه العيش على سطح هذه الكرة الأرضية. إذن فمقتضى اتخاذ الإنسان مأوى يضمه ويحتوي خصوصياته أن يكون هذا المأوى مالكاً للحرمة ما يحول بينه وبين ولوجه من دون اذن منه وانتهاك حرمته بالنسبة لغير من يختص به، أو من يأذن له في ذلك. »فمن المعقول أن يبقى جو هذا المنزل بعيداً عن تطفل الغريب، وأن لا يدخله إلا الأهل والأقارب والأصدقاء أو غيرهم بعد الاستئذان من صاحبه. ومن البديهي أن تكون حرمة هذا المنزل مقدسة، وأن تكون نتيجة طبيعية متممةً للحرية الشخصية«. أن كون هذا المنزل ذا حرمة يمكن الادعاء بأنه من الحقوق الطبيعية للإنسان، وبان مراعاة حرمة المنزل وعدم انتهاكه من الأمور التي فطر عليها الإنسان. فنحن إذا رأينا مراعاة الطير لحرمة عش غيره، وغيره من الحيوانات لهذا الأمر، يكون بديهيا، ويمكن أن يحكم به بضرس قاطع، كون منزل الإنسان ـ الذي يتميز على غيره بجوهرة العقل ـ ذا حرمة لا يجب انتهاكها. إلا انه ـ ومع الحكم بكون هذا الحق، حقا طبيعيا للإنسان ـ نجد الشرائع السماوية تشير وتنبه الإنسان إلى مثل هذه الحقيقة وكذلك فعلت القوانين الداخلية فضلاً عن القوانين الدولية: |
|
لقد أولى الدين الإسلامي مسألة حرمة منزل الإنسان أهمية بالغة، فقد ورد ذكر ذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم، بل أشار القرن الكريم إلى ما قلناه في صدر الكلام من كون البيت مما يشترك غير الإنسان معه فيه يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً) البقرة/189. لقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى ـ في خطوة لتعليم العباد ـ بجعل بيته أمنا للناس، وبكونه حرماً مقدساً يأمن من يلجأ إليه حيث يقول في ذلك: ( وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً) البقرة/125. ثم أشار بعدها لحرمة بيوت نبيه (ص) حيث يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الأحزاب/53. ثم انتقل القرآن ليصرح بحقيقة كون بيت الإنسان أمناً له وسكناً يأوي إليه وذلك في قوله: ( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين) الحجر/82. وقوله تعالى: ( وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين) الشعراء/149. وكذلك قوله: ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً) النحل/80. فإذا عرف الإنسان ووعى معاني الآيات القرآنية الكريمة في كون البيت الذي يتخذه الإنسان هو من خصوصياته التي لا يحق للغير التجاوز عليها، بقي عليه أن يتوجه لمقتضيات هذه الحرمة وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية التالية: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكّرون) النور/24-27. إذن فالمقتضى الأول من مقتضيات حرمة المنزل هو احترام طريقة دخول منزل الغير، فلا يحق للإنسان دخول بيت غيره بدون إذنه، وذلك أن المنزل يحتوي عرض الإنسان الذي يعتبر اعز الأشياء عنده، علاوة على خصوصياته التي لا يحب أن يطلع الغير عليها، فمقتضى ذلك أنه يجب الاستئذان قبل الدخول. ( ليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة/189. فالآية المتقدمة تشير إلى انه لا يجب ولوج بيت الغير بغير الطرق المشروعة، فان ذلك من المحرمات في الإسلام، والإشارة من ظهورها كناية عن الطرق غير المشروعة لدخول البيوت. أن الدين الإسلامي حينما أشار إلى حرمة البيوت لم يقصد بذلك أن البيوت محرمة لكونها بيوتاً، وانما جعل الدين الإسلامي للبيوت حرمة بما تحتوي عليه تلك البيوت، ولذلك تجد إذنا من الشارع في دخول البيوت المهجورة وذلك أنها لا تحوي في داخلها ما لأجله جعلت الحرمة للبيوت من ساكنيها وخصوصياتهم. فتجد القرآن الكريم يشير إلى ذلك بقوله: ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ فيها متاع لكم) النور/29. |
|
هل يجوز إخراج الإنسان من بيته بغير وجه حق |
|
لقد أنكر الإسلام إخراج الإنسان من بيته بغير وجه حق. وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك، كما يدل على عظمة هذا الخالق الذي يمتلك ناصية الإنسان ولكنه مع ذلك يصور لنا الخلق الرباني بعدم تجاوز هذا الرب الكريم على من خلقه ،ويمتلك مصيره حيث يقول: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) الأنفال/5. أما بالنسبة للسنة النبوية الشريفة فقد نقلت لنا كتب الأخبار الكثير مما يدل على حرمة البيت من قبيل تلك الأحكام الشرعية والعقوبات التي تترتب على من ينتهك حرمة المنزل سواء بالولوج أو الأطلال من قبيل فقء العين، وهدر من يلج بيت غيره بصورة غير شرعية فيما لو حدث له حادث. |
|
كان ما تقدم إشارة إلى حرمة المنزل في الدين الإسلامي، أما حرمته ومنع التجاوز عليه وانتهاكه في القوانين الوضعية فيمكن أن نلتمسه من خلال كل من القانون الدولي، والقوانين الداخلية. |
|
ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 12)، وفي العهد الدولي (المادة 17) التالي: »لا يجوز إجراء أي تعرض تحكمي لأي إنسان في حياته الخاصة، أو أسرته، أو منزله، أو مراسلاته، ولا أي مساس بشرفه وسمعته. ولكل إنسان حق في حماية القانون من مثل هذا التعرض أو المساس«. |
|
أن غالبية القوانين الداخلية للدول تتضمن موادها بنوداً مؤداها عدم جواز انتهاك حرمة المنزل، وذلك أن قدسية حرمة المنزل في الواقع نتيجة طبيعية متممة للحرية الشخصية. كما فصل بعضها الأسباب التي تبرر دخول المنزل، والضوابط التي يجب اتباعها فيما لو اقتضى الأمر دخول منزل ما لاجل التحري، أو القبض على الجناة، أو مصادرة بعض الأموال أو الأشياء الجرمية. فيما نص البعض من قوانين العقوبات على »مجازاة كل شخص يخرق حرمة منزل أحد الناس في غير الحالات التي ينص القانون ودون مراعاة الأصول التي يفرضها«. |
|
من المبادئ التي تتفرع على الحرية الشخصية وحرمة المنزل مبدأ المنعة والذي عُرِّف بأنه: »حق المرء في أن يحافظ على أموره الخاصة، وأن يكتمها عن الغير، ويمنع إفشاءها، لا سيما إذا كانت شخصية محضة أو سرية أن هذا المبدأ يقتضي عدم جواز ممارسة التجسس على خصوصيات الإنسان من قبيل اتصالاته الهاتفية المنزلية ومراسلاته الشخصية وغير ذلك من الخصوصيات«. غير انه مما تجدر الإشارة إليه أن هذا المبدأ ليس مطلقاً، وانما توجد هناك حدود يقف عندها مبدأ المنعة، وذلك فيما لو كانت هناك اعتبارات وضرورات تقتضي تجاوز مبدأ المنعة لتحقيق هدف اكبر من المصلحة الشخصية. إذ أن الأمر يكون عندها لاجل حماية مصلحة اكبر من مصلحة حفظ المنزل وحرمته. وخاصة فيما لو كانت الاعتبارات المتقدمة متعلقة بالحفاظ على المجتمع ورعايته، كما لو كان في المنزل عصابة تمارس تهريب المخدرات، أو بث الرذيلة في جسد المجتمع، أو كان في المنزل عصابة تقصد التجسس والنيل من سلامة وأمن الدولة. فهل يعقل والحال هذه أن يكتف مبدأ المنعة، أو حرمة المنزل أيدي العدالة أن تطال من يحاول أن ينخر جسد المجتمع بحجة الحفاظ على حرمة المنزل ومراعاة لمبدأ المنعة؟ |
|
كل ما تقدم ذكره مما يخص حرمة المنزل في القوانين الوضعية هو ما ذكر في متون القوانين الوضعية، ولكن هل لهذا الأمر حظه الأوفر من التطبيق أم لا؟ في الواقع »كثيراً ما تنتهك هذه المنعة الخصوصية بإساءة التذرع بحجة الأمن العام، لا سيما في البلاد الديكتاتورية حيث تستعمل الأساليب البوليسية التعسفية لمراقبة الخصوم السياسيين وغيرهم بواسطة التنصت على خطوط الهاتف والاطلاع على المراسلات البريدية، والسطو على المنازل، وما شاكل ذلك. وقد تستعمل هذه الأساليب حتى في البلاد الديمقراطية«. فبعد انهيار جدار برلين مثلاً تبين أن الاستخبارات الألمانية الشرقية كانت قد وضعت عشرين ألف غرفة تنصت على المواطنين كما شكلت لكل مواطن إضبارة خاصة. أما التنصت على أجهزة الهاتف فحدث عنه ولا حرج ولا يكفيك انك لا تستطيع أن تنبس ببنت شفة دون أن تسجل عليك كلماتك بشريط تواجه به حين الحاجة. هذا غير انتهاك حرمات المنازل التي تنتهك دون إذن ومجوز قانوني تحت تبريرات وحجج مختلفة. إذن فما يكتب على الورق يختلف تماماً عن الواقع الذي يضج بالانتهاكات الصارخة لحرمات المنازل والتدخل في خصوصيات الناس. هذا بالنسبة للقوانين الداخلية، واما القانون الدولي فانه لا يخلو عن الاشكالات التي ترد على القوانين الداخلية. فالقانون الدولي غالباً ما يفتقد لصفة الإلزام التي تعد الضمانة الأقوى لالزام الناس باتباع القوانين، ومع فقدان هذه الصفة لا يفترق الأمر فيه عنه في القوانين الداخلية، حيث نرى ـ في الواقع ـ أن القانون الدولي هو الأكثر من بين القوانين الوضعية تعرضاً للانتهاك. وعليه فلا يمكن وصف قواعد القانون الدولي هنا الا بما نصف به القواعد الأخلاقية التي يعود أمر تطبيقها والخضوع لها لضمير الفرد. وبما أن الضمير قد مات في عصرنا إلا ما ندر فليس هناك مجال لتطبيق هذا النوع من قواعد القانون الدولي. |
|
أما في ظل الشريعة الإسلامية، وبالذات في فترة تطبيق الأحكام الصحيحة منها فلم تكن قواعد القانون الإسلامي الخاصة بحرمة المنازل وقدسيتها حبراً على ورق، بل على العكس من ذلك تماماً. فالشريعة الإسلامية الغراء لم تكتف في ذلك بالإرشاد وحسب، إنما فرضت العقوبات اللازمة فيما يخص التجاوز على حرمات البيوت أما ما حدث في فترات متعاقبة إبان كل من الحكمين الأموي والعباسي من انتهاكات على خصوصيات الناس وتجاوزات على حقوقهم وحرمة منازلهم، فانه من غير المعقول إلقاء اللائمة على الدين الإسلامي. فانه وكما كررنا كثيراً ـ هناك فرق بين النظرية، والتطبيق الخاطئ لها. كما أن النظرية لا يمكن أن تتحمل وزر عدم فهمها وإدراكها، والتطبيق الخاطئ لها. وما حدث من انتهاكات لحرمات المنازل إبان العهدين المذكورين إنما هو من قبيل التجاوزات التي لا ربط لها بالإسلام، لذا لا يمكن حساب هذه التصرفات على النظريات الإسلامية. |