شباط 2000م |
مجلة النبأ ـ العـد د 42 |
ذو القعدة 1420 |
الشورى.. |
||
|
|
وحدود الحرية |
عبد الله الفريجي |
الفت الأدبيات السياسية على وصف النظام الإسلامي بأنه نظام شوروي أي يعتمد على مبدأ التشـــاور في اتخاذ القرار السياسي بالاعتماد على ما ورد في نصوص القرآن الكريم مـــن الدعوة إلى الشورى و التشاور من قبيل الآية 38 من سورة الشورى ( والذين استجابوا لربهم أقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم و مما رزقناهم ينفقون) وكذلك الآية 159 من سورة آل عمران ( ...فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر... ) . ويستدل على كون النظام الإسلامي نظاما شورويا من مشاورة الرسول لاصحابه في عدة مواطن حفر الخندق(1) و عند ابتغاءه إعطاء المشركين ثلث تمر المدينة(2) وفي غزوة(3) بدر و عند مفاداة الأسرى بالمال(4) وكذلك في يوم أحد(5) ويتفق الجميع على أن الشورى محصورة فيما لا نص فيه وكان الصحابة يسألون الرسول قبل التقدم بالمشورة عن وجود النص وحينها يظهرون الاستعداد التام للطاعة وحين يجيب الرسول بعدم وجود النص فأن الصحابة يقدمون أراءهم حول الموقف المطلوب اتخاذه ، على أن الرسول (ص) لم يكن يعمل بكل الآراء ويكون له الرأي النهائي باعتباره القائد المنصوب من قبل الله ولا مجال للاجتهاد قبال رأيه لان رأيه يدخل في دائرة النص. |
|
ولهذا فان الخلاف لم يقع بين المسلمين فيما تم الإجماع على نصيته بل وقع الخلاف في دائرة اعتقد البعض بأن الله تركها للائمة لترى رأيها و اعتقد البعض الآخر بوجود النص وأنها مما يخرج عن دائرة الشورى والرأي. ولهذا انقسمت المذاهب السياسية الإسلامية حول عصر النص فاعتقد بعض المسلمين بأن عصر النص انتهى بانتهاء النبوة ولم يلزم الرسول أمته بأي خليفة بينما اعتقد البعض الآخر بان عصر النص ممتد إلى أثنى عشر إمام منصوص عليهم وتنتهى فترة النص بغيبة الإمام الثاني عشر لان الإمام نفسه أحال الأمة إلى العلماء وخولهم بـــاعتبارهم نواباً عنه في إصدار التشريعات والأحكام واتخاذ القرارات تبعاً للظروف التي تعيشها الأمة. ويختلف المذهب السياسي بين هذين الاتجاهين إذ بدأ النظام الشوروي عند الاتجاه الأول بعد وفاة الرسول وانتهى بنهاية عهد الخلفاء الراشدين بينما بدأ النظام الشوروي في الاتجاه الثاني بعد الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر (عج) على اختلاف في بعض التفاصيل واتحاد في اغلب الخطوط الرئيسية. |
|
والشورى في اللغة (تعني معرفة حقيقة أمر ما من خلال عرضه على أصحاب الرأي والحكمة)(6) أو (استنباط المرء رأي غيره فيما يعرض له في الأمور والمشكلات ويكون ذلك من الجهة التي يتردد فيها بين فعلها وتركها)(7). |
|
وترتبط دائرة الشورى بدائرة السيادة ويعتمد عليها لأن الإسلام قسم السيادة إلى دائرتين الدائرة الأولى التي هي دائرة النص والتي فيها السيادة لله ولا يقبل فيها تفويض العباد بأي حال إلا كونهم عبادا يمثلون الله وهي التي يمثلها النبي والائمة ونصوص القرآن أما الدائرة الأخرى فهي دائرة تفويض العباد ويتم فيها تفويضهم في دائرة يتملكون القدرة على إدارتها والتعامل معها. وهي تقارن ما جاء في النظام الديمقراطي حيث تكون السيادة للــشعب فيكون هو المصدر الأعلى للسلطات ولهذا فانه يعبر عن إرادته من خلال القانون ويجسد هذا التعبير بتفويض عدد من أعضاء المجتمع مهمة التشريع ويعقب ذلك بتصديق التشريع من قبل المجتمع سواء من خلال استفتاء عام أو من خلال هيئة مخولة بأداء ذلك كما يفوض هيئة أخرى لتنفيذه وهي الحكومة التي تكون خاضعة لنفس المبدأ وهكذا نلاحظ ارتباط النظام الديمقراطي أو الشوروي بمبدأ السيادة حيث تكون في النظام الديمقراطي للشعب وبالتالي فهو حر بتجسيدها بأي هيئة يفوضها ويعطيها صلاحية مثل هذا الأمر أو لا يمنحها وتبقى السلطات بيده وبالتالي ستكون الاستفتاءات الشعبية سيما فيها الانتخابات الحرة هي المعبرة عن هذه الإرادة أما بالنسبة للنظام الشوروي فان السيادة هي الله يمنحها أحيانا لبعض العباد (الأنبياء والائمة) ولفترة خاصة باعتبارهم المجسدين لارادة الله ولعدم قدرة بقية العباد على تجسيد هذه الإرادة وعدى هذه الدائرة فإنها متروكة للعباد لهم أن يتصرفوا فيها لقدرتهم عـــلى هذا التصرف دون أن يؤدي ذلك إلى فساد ومن هنا يتضح أن تحديد دائرة التصرف بسبب العجز واحتمال إفضاء هذه التصرفات إلى مضار ولعلنا نرى في النظام الديمقراطي وجود مثل هذا التقييد إذ لا يجوز أن تمتد الحرية إلى حد تعطيل القانون أو إلى حد إزالة الديمقراطية واحلال النظام الديكتاتوري بدلاً عنها. (ولقد انتهج الإسلام مسلكاً وسطاً في مبدأ السيادة بين النظرية الثيوقراطية القديمة والنظرية الديمقراطية الجديدة حيث قسم الفقهاء اصل السيادة إلى قسمين: 1ـ السيادة الذاتية الأصلية وهذه تختص بالله سبحانه ومن ثم للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده إلى الأئمة المعصومين(عليهم السلام) بالتخويل والتفويض. 2ـ السيادة التبعية الامتدادية وتنحصر في فترة الغيبة الكبرى بالفقهاء المراجع لنصوص الأئمة(عليهم السلام) )(8). |
|
وبنظرة بسيطة نلاحظ وجود دائرة الالتقاء بين النظام الشوروي والنظام الديمقراطي ألا وهي دائرة تفويض الناس في إدارة شؤونه باعتبارها أصلا معتبرا ولا يصار إلى تعطيله إلا في ظروف خاصة تؤدي إلى العجز عن التصرف الصحيح أما بسبب الجهل وعدم القدرة على تشخيص المصلحة أو بسبب الاعتداء على حق الآخرين بتعطيل النظام أو بسلبهم حق الاختيار. وبناءاً على هذه القاعدة فان الإسلام أوكل إلى السلطة والى الناس أو كلاهما مسؤولية التصدي لمن يحاول سلب الأمة حق الاختيار عند ما يكون الطرف من خارج دائرة المجتمع الإسلامي أما إذا كان في داخل الدائرة الاجتماعية فقد أعطى الإسلام الأمة حق التدخل وإلغاء سلطة الإمام الجائر الذي يعتدي على القانون الإسلامي أو الذي يمارس التعسف بحق الأمة ويدخل هذا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أن الولي ما دام ولياً مسؤول عن إجراء القانون الإسلامي ومنع التجاوز عليه لأن ذلك يعني سلباً لحقوق الأمة كما أن الأمة بمجموعها مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما كان ذلك ممكناً. |
|
وبناءاً على هذا المذهب فان دائرة الشورى هي نفس دائرة الحرية في الإسلام لأنها الدائرة التي يرسمها القانون الإسلامي ويعترف فيها بحق الناس بإدارة شؤونهم سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية أو عقائدية ومع ذلك فان الإسلام سعى إلى تظييق مساحة سلب الحرية فبحسب ما هو ثابت في العقائد أن فترة النص الممتدة من النبوة إلى غيبة الإمام الثاني عشر تستغرق قرنين ونصف بينما يفترض بالإسلام الامتداد من البعثة إلى القيامة ولهذا فأن فترة النص قصيرة جداً في هذا الامتداد التاريخي وإنها كانت لمجرد بناء المجتمع الإنساني على أسس ثابتة وحتى يستطيع المجتمع الـــوصول إلى درجة عالية من الوعي لذاته وللعالم ولطبيعة النظام الذي يحمي حقوقه وفي نفس الوقت إنتاج طبقة في المجتمع متقدمة في إدراكها لطبيعة النظام الإسلامي الا وهم العلماء الذين سماهم الإسلام بنواب الإمام وهذه هي التي تتسع فيها دائرة الاختيار للامة. ومن الطبيعي أن تبقى القاعدة الكلية هي نفسها في المجتمع الإسلامي ألا وهي قاعد تحديد الاختيار بالقانون ويلعب العالم دور الخبير بالقانون والذي يستطيع أداء مهمة إنتاج التشريعات على ضوء الظروف والمصالح المستجدة بناء على ما تركه الرسول والائمة من تراث علمي عمل العلماء على هضمه بدقة لغرض المحافظة على روح الشرع في العصور الممتدة بعد عصر النص وحتى يوم القيامة ولهذا فان العلاقات السياسية والاقتصادية ودائرة الحقوق والواجبات سوف لا تختلف الا بمقدار التفاوت بين العلم اليقيني لدى الإمام… والعلم الاستنباطي لدى العالم. |
|
ومن هذا المنطلق فان أساليب الإدارة في ظل القانون الإسلامي قد تتعدد دون أن تؤثر على انتماءها إلى روح الشرع الإسلامي بل إنها ستكون عبارة عن تكييفات بحسب المصلحة والظرف السياسي والاجتماعي والإفادة من التجارب الأخرى التي لا تتنافى مع طبيعة النظام الإسلامي خصوصاً أن الإسلام لا يعارض أي استعارة لتجارب البشر التي تتمايز عن سواها بمقدار من التطور يحسن تبنيها والاستفادة منها. ولذلك فان الشيء المهم لدى الشريعة هو الحفاظ على حق الاختيار بالنسبة للفرد والمجتمع المسلم و من هذا المنطلق نرى قيام البعض بالاستفادة من الأنظمة النيابية التي أنتجتها التجربة الديمقراطية الغربية بعد قولبتها بقالب التشريعات الإسلامية ولذلك رأينا انتشار أسلوب التمثيل النيابي أو أسلوب الاستفتاءات الشعبية أو الانتخابات الحرة كما يمكن إدخال أي أنظمة أخرى إذا حافظت على روح التشريع الذي يشدد بقوة على حقوق الناس ويؤكد عبر نصوص كثيرة أن كل شيء قابل للتسامح ما عدا الاعتداء على حقوق الناس بل حتى حقوق الحيوانات والنباتات. وهكذا نلاحظ أن الأدبيات السياسية المعاصرة تحاول ربط الأشكال المعاصرة بأشكال وقعت في العصور الإسلامية وتحاول التأكيد على أن ما هو قائم مستقى من التراث وليس من الغرب وبغض النظر عن مقدار ما في هذه المحاولات من الصحة فان المهم في هذه القضية هو اكتشاف الأسس التي انبثت في الشرع وليست الأشكال إلى تقام للتعبير عن هذه الأسس خصوصاً انه من غير الممكن منع التفاعل الحضاري بين المجتمعات الإنسانية ولعل الكثير من المعالم الحية في التجربة الديمقراطية استقاها الغرب من التجربة الإسلامية في عصور سابقة. ومن هنا فإننا نلاحظ أن الحركات الإسلامية صارت تتجه بوضوح لغرض تجسيد النظام الشوروي فلقد شاركت بعض الحركات الإسلامية بالتجربة الديمقراطية وحققت نجاحات كبيرة كما انخرط البعض في الانتخابات وحققوا نجاحات في دوائر معينة وهذا يعني أولا وقبل كل شيء تبني التيار الإسلامي للديمقراطية دون الشعور بأنها عملية استعارة من ثقافة أخرى لاعتقاد الجميع بوجود هذه الجذور. كما نلاحظ أن بعض الحركات والاحزاب الإسلامية تتبنى أشكالا شوروية في القرار السياسي وان هناك مؤتمرات دورية تشارك فيها القواعد لصنع القرار. |
|
ولعل أهم ما يطالعنا في هذا الصعيد أطروحة شورى الفقهاء لآية الله العظمى السيد محمد الشيرازي حيث أنها مبنية على أسس فقهية متينة ومستنبطة بطريقة استنباط الأحكام وقد يكون كتاب الشورى في الإسلام خير معبر عن هذه الأطروحة إذ أنها مشبعة ومستوعبة لكافة الجوانب والتساؤلات. واهم ما يطالعنا في هذه الأطروحة هي محاولة الجمع بين التنظيم الحزبي المعاصر والشكل المرجعي كما تجمع بين رأي الأمة والمكانة الخاصة للعالم في التجربة الدينية الشيعية ولعلنا نرى فيها عملية موفقة لتطوير نظرية ولاية الفقيه تلك النظرية التي ميزت العالم الشيعي في هذا العصر لكنها تحاول إشراك كل اتجاهات التفكير المرجعي في عملية صنع القرار بدلاً عن الاعتماد على عالم واحد باعتبار أن الواحد معرض للخطأ والجماعة لا يمكن أن تجتمع إلا على صواب . وبغض النظر عن الانتقادات التي توجه إلى أي من هذه الأشكال في الاطروحات فـــان الشيء المهم هو قدرتها على إجلاء حد الحقوق في صورة قوانين معاصرة، واضحة المعالم على الطريقة المعمول بها في الدول الديمقراطية وفي ظل الدساتير التي نراها في الدول المتطورة ، ولا يكفي الادعاء باحتواء التراث على دائرة الحقوق ذلك أن أهم أمراض المجتمعات الفعلية هو الديكتاتورية وسلب الحقوق عن المواطن وان التجارب الديمقراطية التي شهدناها في العالم الثالث هي ديكتاتورية مقنعة. وعلى هذا الأساس يحتاج العالم الإسلامي من العلمـــاء وهم ورثة الأنبياء ووكلاء الأمة تجذير ثقافة حق الأمة وحق الفرد في الثقافة والقضاء على الأشكال الديكتاتورية التي هي سائدة فعلاً في الأوساط السلطوية وفي بعض المؤسسات الثورية هنا وهناك. ويقول الإمام الشيرازي: (ليست المشكلة فقط في الحكام المستبدين والمتزلفين الذين يدورون حوله وينالون من ماله وجاهه... بل الطامة في الرحم التي تولد هؤلاء الحكام وهي الأمة)(9). (ولذا فمهمة الوعاة دفع المرض عن الأمة حتى لا تستعد لتقبل المستبد)(10). وعلى هذا الأساس سيحتل حق المواطن الركن الأساسي في أي من المشاريع الشوروية المطروحة لأنه هو الذي سيمكن الأمة من أن تقول لا أو تقول نعم أو تقاتل أو تستسلم ولعلنا نلاحظ أن طرح كل ذلك يأتي في إطار حق السلطة وان حق المواطن يقع في الدائرة التي لا حق للسلطة فيها بينما يفترض أن يقع حق السلطة في الدائرة الصغيرة التي ينتهي عندها حق المواطن. |
|
وكل ذلك طبعاً يعتمد على إنتاج ثقافة دينية تحدد كل ذلك بناءاً على إطار فقهي وليست على أساس ثقافة عامة وخصوصاً أن المواطن في بلادنا لا يفهم الأمور إلا من خلال دائرة الواجب والحرام وهذا أمر لابد أن يبدع فيه العلماء ويمضون فيه حتى نهايته. وان عدم وضوح دائرة الحقوق هو الأساس في سكوت الأمة كما يقول الإمام الشيرازي على المستبد وعدم الاعتراض على تصرفاته. ويشير سماحته إلى ضرورة عدم التقيد بالقوانين الجائرة فيقول وإذا تمكن المسلم من خرق القانون الكابت ولم يفعل فقد ارتكب ابشع الآثام ـ أما إذا تقيد بالقانون الكابت مع تمكنه من خرقــــه كاملاً أو خرقاً في الجمـــــلة فقد ساعد في هدم الإسلام وإذلال المسلمين)(11). وهكذا يمكن ابراز دائرة الحقوق بطريقة مشابهة لكي تصبح جزءاً من ثقافة الأمة تمارسها في حياتها اليومية وعند ذلك تحدد دائرة الحقوق في نظام الشورى الإسلامي بوضوح ويقع الاستبداد في دائرة الخروج على الدين لوضوح لا يختلف عليه اثنان. |
|
الهوامش |
|
1 ـ الشورى طبيعة الحاكمية في الإسلام ـ تأليف الدكتور مهدي فضل الله ـ دار الأندلس 1984 ـ بيروت ص 59. 2 ـ نفس المصدر ص59. 3 ـ نفس المصدر ص60. 4 ـ نفس المصدر ص60. 5 ـ نفس المصدر ص63. 6 ـ الشورى والديمقراطية بحث مقارن في الأسس والمنطلقات النظرية ـ على محمد الاغا، الطبعة الأولى 1983 ـ المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر والتوزيع ص12. 7 ـ نفس المصدر. 8 ـ الحكومة الديمقراطية أصولها ومناهجها ـ فاضل الصفار ـ دار المحجة البيضاء ص18، 1997. 9 ـ الشورى في الإسلام آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ص48 بيروت ـ لبنان. 10 ـ نفس المصدر السابق ص41. 11 ـ الحرية الإسلامية آية لله العظمى السيد محمد الشيرازي ص56 مؤسسة الرابطة الإسلامية للنشر والإعلام ـ دار الفردوس. |