القرآن بين سنن النهوض والسقوط

شروط النهضة..

عبدالرزاق الجبران

 الاطار الفكري أو العمق المتعامق للكدح الفكري للمفكرين الاسلاميين، لرؤية القضاء والقدر، اوصل إلى فهم أقرب للوعي القرآني أو روح الاسلام، في ان القدر هو جملة القوانين والتقديرات التي اودعها الله سبحانه وتعالى في قلب الكون ليشمل الطبيعة والانسان، هذه القوانين التي لا تختلف ولا تتخلف بحال، الا في موضع حاجة ربّانية وغاية إلهية تقتضيها خطوة معينة عند البشرية، وهنا ايضاً لا يمكن ان نسميه تخلّف قاعدي، وانما تغير القاعدة أساساُ، للافصاح عن  تعلق تلك الخطوة بالخالق سبحانه وتعالى في إطار المعجزة والكرامة، أمّا القضاء فهو نتائج تلك التقديرات والقوانين، أي ما يؤول إليه ترتب تلك التقديرات وايجادها في بني الانسان، لذلك قد يجتهد فكريا في رؤية ان الإنسان يصنع مصيره بيده لتطال الكيفية في الدائرة عند الوح المحفوظ، الذي فيه مصير الانسان، عاقبته، شقاءه وسعادته، فيقال ان الإنسان هو الذي يكتب بالقلم في اللوح المحفوظ مصيره وليس غيره (قل هو من عند انفسكم) فمن اوّليات الفكر الإسلامي.. الاختيار والحرية للإنسان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ليصح العقاب والثواب.

نريد ان ندخل بهذه المقدمة إلى عالم القوانين والتقديرات، المزروعة في هذا الكون، والى تقسيمها بدءاً إلى قوانين تكوينية حقيقية غير اعتبارية كما في القوانين الجعلية الشرعية.. التكوينية بدورها تنقسم من جهة رتبتها الخارجية في التشخيص إلى طبيعية التي تتأطرها المادة وتشمل قوانين المادة في عناصرها الطبيعية وقوانين الطاقة والفلك. فلها علومها.. في حيزها التجريبي عند المختبر الداخلي والخارجي.. فتناولها علوم الجيولوجية، والبايلوجي، والفيزيا، والكيمياء والاحياء والتي تحتويها علوم الطبيعيات. وتنقسم إلى تكوينية معنوية التي هي اقل رتبة من الملموسية كما عند المادي.. فهي حقيقية لا اعتبارية، أي لها وجود خارجي لكنه ظاهر بارز في آثاره، فمن يسيء السلوك مع الآخرين لابد وأن يجد إساءة. فالمقابلة ستكون محسوسة، وان كانت لا تتمثل خارجاً في تشخّص معين، فحصول الشجاعة ضمن سنة معينة وتوفير شروط معنوية تربوية تعبوية. لا يكون ظهورها بتجسد خارجي. لكن ذلك يظهر من الاقدام والجرأة. فالاقدام والجرأة دلالة وأثر على وجود الشجاعة؛ فقدان المروءة كذلك، الكرم، السماحة، روح الجهاد، وكثير من مفاهيم الحياة الفردية وجودها يكون بآثارها، وهنالك تكوينية. ليس بمادية. لكنها تتضمن ذلك، تدخل ضمن سنن الاجتماع، لكنها تفضي إلى وجودي مادي، وهي السنن الاجتماعية التي ترتبط مع القوانين الطبيعية المادية، ومثال ذلك توضحه الآية (65) من سورة المائدة (ولو أنّهم أقاموا التوراة والانجيل وما انزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..) والآية 16 من الجن (وألَّو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) فالمجتمع الذي يلتزم بقوانين العدالة في هذه الكتب السماوية والاستقامة العامة، من اعطاء كل ذي حق حقه وعدم تجاوز حريات الاخرين وحقوقهم. والكدح. لا سارق، ولا راشي ولا باخس ولا مطفّف.. ولا..، فسيتبع ذاك، نمو الاقتصاد، وازدياد خيرات الأرض واطمئنان النفس الإنسانية في هدأتها عن حقوقها، وتوفرها ضماناً. فهنا المجتمع داخل الآية أخذ بسنة بشرية مرتبطة بالمادة (خيرات الأرض) فاعطت السنة مادة محسوسة يرافقها شعور واحساس بناتج آخر وهو انتظام المجتمع.  

القرآن.. والسنن

شأن القرآن بلا قياس فقط (انطلاقاً من الطريقة المنطقية للتعريف بالمثال) في ان شأنه شأن الكتاب المرفق مع آلة تقنية تنتج آلية ومنفعة معينة، هذا الكتاب يعرض قوانين الآلة الداخلية لكمال الانتاج ويعرض اسباب الخلل واشكاله، والحلول الكفيلة بذلك.

ان لهذا الكون وانسانه قوانيناً نظمها الخالق ضمن حكمة معينة تفضي بخليفته الإنسان إلى كماله المنشود ثم اودع الخالق جل وعلا قوانين خلقه في الكتب السموية التي ارسلها إلى الإنسان مع شارح لها ومطبق لا بتمامها..

القرآن الكريم تكفّل بالقسم الثاني من القوانين والتقديرات الالهية التي تحدد القضاء للاجتماع البشري، القوانين التي تشمل حركة الانسان، صعوده وسقوطه، في كل الابعاد والتشابكات التي تطرح به يمنة ويسرة، وكذلك القسم الثالث الذي أشرنا إليه القسم الذي يحوي القسمين الاولين في علاقة معينة.

الآيات الكريمة جاءت بالقوانين العامة الكلية. أي كليات تنضم اليها فروع مفاهيمية تغلّف حياة الإنسان في اوضاعه واوضاع مجتمعه، وقد يستغرب البعض كيف يمكن للكتاب ان يشمل هذه الابعاد المتشاجنة التي لا تحصى في شجريتها، وحينما نعود إلى الآية التي اشارت إلى شمول قوانين القرآن للابعاد الحياتية التي تكتنف حياة الانسان، بكل انحائها، فالآية الكريمة (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)، و(تبيانا لكلّ شيء) فاصلة في البين. امّا التفصيلات التوضيحية فهذا دور الأنبياء والائمة عليهم السلام والاولياء والراسخين في العلم الذي يشمل معه الحكماء الذين جَرُوْا على ذلك الخط، وهنا ايضاً يأتي دور العقل البشري في التجارب التي تحدث امام شمسه.

امّا القوانين المادية.. التي تتعلق بالكون فقط في نظم مادية غير متحركة بالارادة، فهي عوامل مسخرة للإنسان في صعوده، جاءت لا إيماءات في النقاط العامة للتسخير والاستفادة المثلى منها، فلا غاية من عالم المادة الا الدور التكاملي والحاجة الضرورية في كون تركيبة الإنسان (الحيوانية) جاءت ناقصة تكتمل مع الماديات المرفقة معه في الكون، لذلك فإن سنن الصعود البشرية تعتمد على عالم المادة في الكثير من شروطها. وهذا العالم الحالي يشهد في المنحى الاقتصادي على ذلك بل كل الازمان في حضاراته.. كان يشي في دور الفكر لاستثمار الطبيعة، امّ النقاط التفصيلية في وظيفة العقل البشري في كدحه وتجاربه ومسيره ذلك ظاهرة في الرقي من العصر الحجري.. حتى انفتاح الإنسان على الزراعة إلى عصر حديدي.. نهاية بالبخاري.. بعد كدح جماعي انهاه (جيمس واط) في ماكنته ليسمى العصر باسمه حتى عصر الذرة إلى عصر الانترنت.

هذه العصور تدل على النمو التسخيري للكون على طول الخط الفكري المتكامل زمنياً، والتي تقوم السنن بتوجيه ذلك التسخير، لذلك نستطيع ان نقول ان الثقافة القرانية، هي ثقافة رسالية تتمحور في هداية الإنسان لتلك السنن (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) 26 النساء. قبل أي ثقافة أخرى. فعرضت كليات تتعلق بالفرد والمجتمع والإطار الحضاري بصورة اعم.

هذه القوانين جميعاً والتي تشرف على حركة البشرية هي عينها قوانين النهضة وشروطها، هي قوانين الصعود والسقوط الحضاري، لذلك فالقرآن الكريم هو الكتاب الذي يحمل بين دفتيه تلك الشروط، لا الوضعيات هنا وهناك، الا ما ارشد إليه القرآن من مصادر في أخذ تلك الشروط، كما في قضية التاريخ وما هو مطروح في ثنائية المعرفة بالقول في مصدريتهما (القرآن والتجربة البشرية التاريخ -) حيث ان القرآن هو من أمضى حجية ومصدرية التاريخ في كونه اداة معرفية للسنن. حينما جاء بقصصه، عارضاً الحقائق فيها، فلماذا لا نأخذ مما أخذ منه القرآن كون ما أخذ منه مصدراً للحقائق.. في تجارب الأمم وما ينطوي تحتها من نتائج لمقدمات سننية.

و لابد من الاشارة في مقام السنن إلى كونها تسير وفق ما يسمى في علم المنطق بـ(القضية الحقيقية) في انها تنفذ في كل الازمان لا على اناس يحدّهم زمن معين كما هو شان (القضية الخارجية).

حينما نأتي إلى القرآن نجد الاشارات الصريحة إلى امتلاكه السنن فكثير من الآيات تتناول ذلك من قريب ومن بعيد. فمثلاً الآية 76 في سورة الاسرار تتناول قضية الرسول(صلى الله عليه وآله) أيام دعوته مع قريش، وقبل ذلك توجه قريش واساليبهم في الصدام. فالآية 76 تعرض سنة الاستفزاز والاخراج، ونتيجة المكث القليل، تقول الآية (و إن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليُخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك الاّ قليلا) ثم تبع ذلك مباشرةً في وحدة سياق عند الآية اللاحقة 77 (سُنّة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا) وكأنه نفس القانون الذي مرّ على الرسل في صراعهم مع أقوامهم، أي ان هذه السنة تسير على البشر ولو بخصوصية نبوية أو ما يشمل كل الدّعاة المصلحين مع اقوامهم بادئ دعوتهم أو سبل الأقوام مع مصلحيهم.

الآية المدنية 38 من الاحزاب صريحة في وجود السنن التي تحكم البشرية (سنة الله في الذين خلوا من قبلكم وكان امر الله قدراً مقدوراً). الآية 62 من الاحزاب (سنة الله في الذين خلوا من قبل). الآية 43 من فاطر (فهل ينظرون الا سنة الاولين). الآية 85 من غافر (سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون).  الآية 23 من الفتح (سنّة الله التي قد خلت من قبل). الآية 137 من آل عمران (قد خلت من قبلكم سنن..).

هذا التكرار.. ما هواه دلالة تأكيدية كما هو معروف عند اللغويين والمفسرين في كون التكرار المتصل والمنفصل في وحدة موضوعية ذو دلالة على عدة مناطات، منها درجة الاهمية التي يملكها المكرّر، أو للتنبيه تحاسباً للاغفال عن كل من هو منفرد في طرحه.

إذن القرآن الكريم صرح بوجودية هذه السنن بين دفتيه مع انه يمكن معرفة وجوديتها بدون التصريح، فوجود نفس الشيء خارجاً يغني عن التصريح بوجوده وهذه دلالة أخرى على تأكيديتها واهميتها، بالاضافة إلى ان السنة جاءت في موضع مضاف لغوي لمضاف إليه هو لفظ الجلالة (الله) سبحانه وتعالى.. والمضافية تدل على الملكية والنسبة.

في الآية 26 من النساء يظهر دور القرآن كونه كتاب هداية لتلك القوانين العارجة بالإنسان إلى كماله وإرادة الله سبحانه وتعالى لتبيين في غائية ظاهرة لغوياً بلام التعليل: (يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) فتبينها يمكّن الإنسان من اختصار الطريق الكدحي في بدلية تجريبه نفسه ذلك ليكتشف الصواب والخط والوقوف على ابعاد السنة وتمامية حصولها والوان نتائجها، فيكون هو المختبر الاستهلاكي التدميري أو (كبش الفداء)، فبدل ذلك يكون القانون ناجزاً امامه. فيتحاشى الوقوف والهلاك ويتوفر عليه وقت يحتاجه لخطى لم تخضها البشرية لينفع بها الاجيال القادمة.

حدية السنن وحتميتها

يرى بعض المفكرين وجود فارق بين التقديرات والقوانين المادية الطبيعية والاجتماعية أي سنن المادة والإنسان في حديتها وحتميتها. وذلك ان السنن المادية تملك ذلك في تبعية النتائج للمقدمات دون الاجتماعية، فانصهار الحديد يملك درجة معينة وباقي المعادن كذلك، وحدوث الظواهر الجوية لها شروط معينة وقف عليها العلم وحصرها لا خروج للظاهرة عنها حين توفر شروطها، حدود وصول الصوت في مسافة معينة وداخل وسط معين، سائل أو غازي، وكثير من اشياء الكون التي تملك قالب المادة والطاقة، امّا سنن البشر فقد يرى البعض انها لا تملك حداً فاحشاً من الدقة وتقسم إلى اقسام منها من يكون حتمياً ومنها غير ذلك، لكن التعمق في حصول السنن سيجد غير ذلك، وتساوي القوانين المادية والاجتماعية لكن الابهام منبع من صعوبة الوقوف على جميع مداخل القانون الاجتماعي، فحينما يرى الباحث ضمن استقراء تاريخي في قضية اجتماعية تكرراً لها في الزمن عدّة مرات ويرى تخلّفاً في النتائج بعض الاحيان، فان ذلك يؤدي به إلى إخراجها عن إطار القاعدة في حتميتها كون القاعدة تنخرم بتخلّف ولو في مورد واحد.. لانها كما هو معروف في الاصطلاح (لا تقبل التخصيص) باعتبارها مدركاً عقلياً.. لكن الامر في حقيقته هو عدم الاطلاع التام وصعوبته على الشروط والمقتضيات والموانع في السنة لذلك لصعوبة ذلك امام العقل البشري تكفّل بها، فقد تكون الحادثة المكررة عندهم هي أصلاً لم تكرر ذاتها وانما فقط ثوبها، امّا الحقيقة فإنها غير الاولى في جوهرها أي انها غير السنة الاولى أو انها.. ولادة من السنّة الأم، فواحدة منهن قد تكون تملك مؤثرات خفية واقتضاءات لم يدركها العقل وتفحصه، كما هو في علم الاصول حينما تناقش صعوبة الوقوف على الظروف المحيطة بالموضوع الذي يملك حكماً معيناً، ونقص الادراك العقلي احيانا في ادراك علة الحكم، بما يملكه من احكام ثانوية كثيرة، تفرضها تشعبات الحياة، في دخول حرج معين أو ضرر. في اشكال عدّة كل شكل يفرض نفسه بقدر مقدّر، أو انقلاب للموضوع له خصوصية 0 هذا الانقلاب في ادراكه، أو معذرية نابعة من إدراك خاص أو اولوية واقعية تأتي من خط عام في روح الإسلام. أو تزاحم معين من اهمية لموضوع على آخر لذلك فقد يجهل الحقيقة التي تحيط بالسنة بتمامها فالمختبر المادي غير المختبر الاجتماعي في بساطة الوقوف على ابعادة، هذه الثباتية والحدّية والحتمية ظاهرة في الآيات التالية.

الآية 77 من سورة الاسراء (.. ولا تجد لسُنتنا تحويلا)، الآية 62 من سورة الاحزاب (.. ولن تجد لسُنة الله تحويلا)، الآية 43 من سورة فاطر (فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا)، الآية 33 من سورة الفتح (ولن تجد لسنة الله تبديلاً)...