]

 

عندما   يتكلم   الابناء  (1)

المرجع الديني الاعلى  آية الله العظمى  السيد محمد الحسيني الشيرازي  (دام ظله الوارف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.  

ــ لقد عاشرت الوالد سنين متعددة لعلها اكثر من ثلاثين سنة ولقد رافقته في اسفاره وعند ذهابه إلى الصلاة صبحاً وظهراً وعند الغروب ومع ذلك لم اره يضحك بصوت وقهقهة ولو لمرة واحدة وانما كان ضحكه تبسماً.  


ــ وكان رحمه الله دائم التفكر والفكر في الآخرة وكان يطبق كل شيء على الموازين الشرعية صغيراً كان ذلك الشيء ام كبيراً وعند ما كان يعظ انساناً فأن الآخرة تكون نصب عينيه بل وكأنها يوم غد كما يعد بعضنا بعضاً بغدٍ في داره أو غرفته أو ما اشبه ذلك. ولم اره متأثراً تأثراً ظاهراً الا مرّة حيث سمع بشيء خلاف الدين. فتأثر شديد التأثر حتى اخذ يبكي.


ــ وذات يوم تعرض له احدهم بالاهانة فقال رحمه الله: ان هذا الرجل لا يعلم انه جعل حبلا في عنقه واعطى رأسه بيدي في يوم القيامة وكفى.


ــ وكان رحمه الله مصداقاً لقوله(ص) من يذكركم الله رأيته. فكان إذ رآه شخص أو جلس عنده ذكره الله والدار الآخرة في تصرفاته واعماله واقواله.


ــ ولقد كان في غاية حسن الاخلاق وكان من سماحة اخلاقه انه لا ير الاساءة بمثلها، فد كتب إليه ذات مرة شخص كتاباً خاطبة فيه بلفظ «ايها اليهودي» فرغم تأثره من هذه العبارة الا انه لم يقل شيئاً، ولم يرد عليه ولو بكلمة واحدة.


ــ كما انه رُؤي في المنام لاحدهم فسأله ما انفع الاعمال لك في الآخرة مما عملته في الدنيا فأجاب الوالد: ان انفع الاعمال التي انتفعت بها بعد موتي هي ما كنت اتصدق به للفقراء خصوصاً الذين كانوا يأتون إلى باب منزلنا ويطلبون شيئاً من المال. وكان الوالد رحمه الله كثيراً ما يعطيهم ولا يردهم.


ــ ومما نقل الوالد رحمه الله، انه كان يحفظ القرآن في الليالي المقمرة وسرّه انه كان لا يتمكن من شراء النفط في سامراء للاسراج به كي يستضيء به اثناء قراءة وحفظ القرآن ليلاً.

لذا فقد كان رحمه الله يحفظ القرآن ليلاً على ضوء القمر حتى أتم حفظ القرآن تحت ضوء القمر، وكان حافظاً له إلى ان توفيّ رحمه الله. قال لقد ابتليت بالعمى الليلي جراء كثرة قراءة القرآن تحت ضوء القمر، فما كنت اتمكن من الابصار ليلاً وانما فقط في النهار، لهذا فقد نذرت لله ان شفاني زرت السيد محمد كل مرّة مع هدية مجموعة من الشمع، وفعلاً كان الوالد يزور السيد محمد كل عام مرّة كما نذر لان بصره صار قوياً جداً بحيث كان يستطيع رؤية الساعة العباس من دارنا قرب مخيم الحسين(ع) وكان يستطيع التمييز بين ارقامها، بينما أنا لا استطيع سوى رؤية جسم ساعة بالرغم من اني كنت في أول شبابي آنذاك.


ــ وذات مرّة كنا في طريقنا من النجف الاشرف إلى كربلاء من الطريق الفوقاني واثناء الطريق توقفت السيارة وقال سائقها ان البنزين قد نفذ عندنا فيجب علينا البقاء هنا حتى شروق الشمس ومرور السيارات لأنها لا تمر في هذا الطريق ليلاً. حينها اخذ الوالد يتمشى حتى الصباح، بينما كنت انا داخل السيارة لشدة البرد، وعند الصباح قلت للوالد: لماذا لم تنم طوال ليلة البارحة مع طولها وشدة البرد، فيها؟ قال لقد كنت منشغلا بقراءة القرآن مما اخرني عن النوم وهذه فرصة سنحت لي فاغتنمتها لقراءة القرآن فاتممت ثمانية اجزاء من اجزاء القرآن الكريم والحمد لله رب العالمين.


ــ ونقل لي قصة بهذا الشأن قال انه بينما كان يتمشى في صحراء سامراء ويقرأ القرآن وإذا بانسان اقترب منه قائلاً له: ماذا عندك؟ قلت لا شيء عندي ولماذا تسأل؟‍‍! قال أنا صياد ورأيتك من بعيد ولكني لم أتبين ما أنت فظننتك صيداً الا اني كلما حاولت تصويب البندقية عليك فأنها لم تنطلق فتعجبت وعندما دنوت منك وجدتك انسانا ازداد تعجبي. قال الوالد إني كنت اقرأ القرآن ولعل ذلك من بركة القرآن.


ــ وكان أيام عصر الجمعة يصعد إلى السطح وذلك في فصل الصيف والشتاء والحر والبرد على السواء ليتوسل بالامام المهدي«عج» ويبكي ويتضرع. وقد تشرف بلقاء الامام«عج» ثلاث مرات كما سمعت ذلك من بعض الثقاة إذ تشرف بلقائه«عج» في مقبرة صالح وهود مرّة ومرّة بالسرداب المقدس ومرة ثالثة عند درج السرداب المقدس حيث كان الوالد ينزل والامام«عج» يصعد، ولا اعلم تفصيل ذلك. باستثناء رؤيته للامام«عج» في نفس السرداب. حدث ذلك في صباح يوم الجمعة حينما كان يقرأ دعاء الندبة فلما وصل إلى عبارة «و عرجت بروحه إلى سماءك، قرأ بلفظ «بروحك» ولم يقرأ «وعرجت به إلى سماءك» كما في نسخة اخرى، قال فاحسست بأن شخصاً التصق بي في السرداب على جانبي الايمن فتعجبت من ذلك لأني عندما دخلت السرداب دخلت بمفردي لا أحد معي وكان الباب مغلقاً، فاذا به يقول لي: إننا لم نقل عرجت بروحه، وانما قلنا عرجت به إلى سمائك. ثم غاب حيث لم اره ولم احس بالتصاقه بي. لكن لا يخفى ان لفظ «بروحه» ولفظ «به» كلاهما بمعنى واحد، لأن العرب تطلق لفظ «الروح» بمعنى النفس ايضاً أي الجسد وليس الروح في قبال الجسد.وقد قال لي رحمه الله ذات مرة: كنت عند الليالي اذهب إلى السرداب المقدس من أول الليل حتى الصباح وانا وحدي واجلس هناك واغلق الباب على نفسي واشتغل بقراءة القرآن والدعاء والصلاة وما اشبه ذلك حتى إذا اصبح الصباح وصليت خرجت من السرداب وذهبت إلى البيت. كان ذلك أيام وحدته قبل زواجه.


ــ وكان في زمن المرحوم الحاج آغا حسين القمي يذهب ليلاً إلى حرم العباس ويصلي صلاته هناك وكان يلتصق بالحائط لئلا يصلي خلفه احد، كان ذلك قبل ان يصبح اماماً لصلاة الجماعة وكان يرى ان العباس(ع) باب إلى الحسين ثم يذهب بعد العباس إلى الحسين ليزوره.


ــ اصيب الوالد رحمه الله بالملاريا الشديدة ونصحه الاطباء بالذهاب إلى شيراز والبقاء فيها مدة حتى يتماثل للشفاء، فقصد شيراز عن طريق «بوشهر». قال وفي بوشهر زارني العلماء واقترح عليّ جماعة منهم ان اصعد المنبر وان اصلي جماعة في شهر رمضان، قال ففعلت ذلك وكنت ابين المسائل دون الاشارة إلى العلماء، بل اذكر المسائل المجتمع عليها، قال فكثر اقبال الناس على المسجد، فراقت هذه الطريقة للآخرين وأخذوا يبينون المسائل من على المنابر في شهر رمضان ثم خرجت من البلد. وقد رأيت شيئين ظريفين في البلد. الأول: ان الجو كان حاراً جداً هناك فكنت إذا زرت العلماء رأيت بعضهم جالسين في حاوية ماء لكي يحفظوا انفسهم من الحر الشديد وكان مجلسهم للمراجعين نحو ذلك.


ــ وكان يحضر مجلس الاستفتاء لخالي السيد ميرزا آقا ابن الميرزا على الكبير كان ذلك أيام كنا في النجف الاشرف ولما جاء إلى كربلاء كان يحضر مجلس استفتاء المرحوم الحاج آقا حسين القمي في الليالي حيث يذهب بعد الصلاة إلى منزله مع السيد الميلاني والسيد الكاشاني وغيرهم ويبقون هناك حتى ساعة متأخرة من الليل ثم يرجع إلى الدار وكان الحاج آقا حسين القمي رحمه الله يعتمد عليه اعتماداً كبيراً واحياناً كان يقول اني لم اجد في ايران ولافي العراق شبيها ومثيلاً للسيد ميرزا مهدي في أخلاقه وعدالته.


ــ و كان رحمه الله يقول الشعر الجميل كقصيدة درة اشرقت حول الزهراء عليها السلام. الزهراء، وقصيدته حول الامام المهدي«عج» وغيرها؛ كما انه كان يلطم مع جماعة الطلبة في سامراء.


ــ وذات مرة وبينما كان ينصب السواد للعاشر في الحسينية فاذا بالسلم الذي كان يصعده سقط عليه لكنه لم يصب بأذى وقد رأت والدته فيما نُقل لي انه قيل له كيف يصاب بأذى وقد أخذه الخمسة الطيبون اصحاب الكساء وهم الذين تلقفوه لئلا يُصاب بأذى اثناء سقوط السلم عليه مثل هذا الإنسان لا يصاب بأي اذى.


ــ ونقل لي انه لما خرج من سامراء اثناء حرب العراقيين مع البريطانيين، في ذلك الحين منع البريطانيون اخراج النحاس لأنه كان يصنع منه العتاد قال وخرجت من سامراء قاصداً كربلاء وكنت محملاً بالنحاس من قبل عائلتنا والعوائل الاخرى وكنت احمل ذلك النحاس على سبع دواب وكان هذا النحاس يصدر اصواتاً اثناء الحركة كما هو شأن النحاس قال ولما وصلت إلى جسر بغداد وكان محفوفاً بالشرطة يفتشون اثاث الناس وكنت حينها اقرأ دعاء للتخلص منهم والدعاء الذي كنت اقرأه هو: اللهم اني اتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة واهل بيته الذين اخترتهم على العالمين فذلل بي صعوبتها واكفني شرها فانك الكافي المعافي الغالب القاهر القادر. وهذا الدعاء هو دعاء الامام علي(ع) علّمه إلى الرجل الإيراني الذي جاء إليه يشتكي في قصة مشهورة مذكورة في البحار. قال وحينما مررت على الجسر والشرطة على طرفيه واقفون وبالرغم من كثرتهم فأنهم لم يتنبهوا لي اطلاقاً ولقد مررت انا ومن معي على الحمير بسلام ولم يكن ذلك الا ببركة ذلك الدعاء. واني المؤلف ايضاً جربت هذا الدعاء في وقت الازمات وما دعوت به في ازمة الا وانفرجت باذن الله سبحانه.


ــ وفي عهد عبد الكريم قاسم عندما طغت الشيوعية في كربلاء اجتمع الوالد رحمه الله مع السيد الحكيم والسيد الخوئي وكان آنذاك مرتبطاً ببعض الجبهة العلمية في النجف الاشرف، اجتمعوا وقرروا اصدار فتوى ضد الشيوعية فصدرت الفتوى المشهورة وهي «الشيوعية كفر وإلحاد» ونشروا هذه الفتوى في كافة انحاء العراق ولهم صورة في بيت الوالد وبعد صدور الفتوى وانتشارها قرر الشيوعيون اغتيال مائة واربعة عشر شخصاً وكان من جملة اولئك الوالد رحمه الله حيث كان له الدور المهم في محاربتهم بالفتيا والتحريض ضدهم، كما كنت أنا من جملتهم حيث كنت اقوم بنشاط كبير؛ لكن الله لم يوفقهم لتنفيذ مأربهم. نعم قتلوا بعض الاشخاص، واهتم الكربلائيون آنذاك بالاحتفال بذكرى مولد الامام علي(ع) وقد اقيم الاحتفال فعلاً وذلك بعد فترة تحضير وتهيئة دامت ثلاثة أشهر وقد دعونا لهذا الاحتفال مئات الشخصيات الكبيرة سواء في ذلك التجار والعلماء وبعض قادة الجيش وما أشبه ذلك. وصار هذا الاحتفال احتفالاً مثالياً  ولعل كربلاء لم تشهد مثله قبل هذا الاوان وقد حضر فيه كبار علماء السنة وكبار العلماء  الشيعة ايضاً وكان لهم مشاركات ومن بينهم السيد الحكيم إذ شارك بكلمة. اما الوالد فلقد تعذر حضوره للصعوبة.

ومنذ ذلك اليوم اصبح لكربلاء دور مهم في محاربة الانحرافات التي حفّت بالعراق، فنفي بعضهم من قبل الشيوعيين وطوردوا من القوميين وحوربوا من البعثيين حيث قتل البعثيون من أهالي كربلاء ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص في قصة الانتفاضة المشهورة.


ــ وفي أيام الشيوعيين في كربلاء كانت تخرج مظاهرات للشيوعيين بكل استهتار وذلك مساء كل يوم. ولما رأى الوالد انهالا تناسب قدسية كربلاء وتسيء إلى حرمتها فقد ارسل إلى((… وهو من الثوار  وكان وقتها متصرفاً للواء كربلاء.. ارسل إليه ان امنع هذه المظاهرات المسائية فأجاب:() ان لا شأن لرجل الدين بالتدخل في الامور السياسية. لكن الوالد ردّ عليه بان هذا ليس امراً سياسياً وانما هو امر ضد الدين باستهتار النساء استهتاراً غريباً بالاضافة إلى قرائتهم الاشعار المنافية ومنها «بعد شهر ماكو مهر ونذب القاضي بالنهر» وتحت اصرار الوالد بايقاف المظاهرات خاف المتصرف فامر تلك المظاهرات بالتوقف. لكنهم لجأوا إلى حيلة أخرى وهي حيلة ما سموه بانصار السلام، فذهبت انا إلى بغداد لغرض اللقاء بمجيد الربيعي وعبد الكريم قاسم لمنع هذه المظاهرة ولكن عبد الكريم قاسم كان مصراً على خروج تلك المظاهرة وخرجت المظاهرة فعلاً في كربلاء مما خلف بعدها المآسي والويلات بشكل كبير.


ــ قال ذات مرة كنت اسير في شارع الامام علي(ع) قرب حمام البغدادي فاطلقت عليّ نار «رصاصة» ولكن من حسن الحظ ان الرصاصة مرّت من جانب اذني ولم تصبني باذى. وذلك أيام ما كان العثمانيون يرشقون اهالي كربلاء الامنين بالرصاص وبهذا الصدد نقل لي جماعة من الثقاة ان في تلك الأيام اقبل الجيش العثماني إلى القرب من العباس فلما ارادوا الهجوم على المدينة وقتل الجميع خرجت نار من القبر الشريف ومن القبة الشريفة وتوجهت إلى ذلك الجيش فأخذ الجيش بالهروب والفرار وهم يقولون - أي افراد الجيش - «امام عباس لدي» أي جاء الامام العباس، وكانوا قد اوسعوا فيها الفساد.


ــ و مما اذكر انه ذات مرة جاء إليه متصرف لواء كربلاء يطلب السماح منه لفتح دار للسينما في كربلاء فامتنع الوالد فقال المتصرف سوف افتحها في حي الحسين(ع) وهو بعيد عن كربلاء. قال الوالد انه جزءٌ من كربلاء ولا اسمح باقامة سينما فيه. قال المتصرف افتحه وبشرط منع عرض الافلام المحرمة فيها قال الوالد هذا مجرد كلام وسوف لن يلاقي التطبيق فاصر المتصرف على انشاء السينما ولكن اصرار الوالد على عدم السماح بذلك ادى إلى انصراف المتصرف عن هذا الامر وامتنع عن فتحه.


ــ وكان متصرف كربلاء وهو عبد الرسول الخالصي عازماً على تخريب الآثار المهمة من اطراف الصحن بحجة استحداث «فلكة» لكن الوالد وقف امام ذلك للحيلولة دون حصوله وقام بتعطيل صلاته لعدة أيام ولكن تصميم الحكومة كان قطعياً فهدموا من اطراف كربلاء الآثار العليّة والدينية امثال مسجد رأس الحسين ومدرسة الصدر ومدرسة الزينبية ومدرسة حسن خان ومقابر جملة من العلماء بالاضافة إلى الصحن الصغير.

واراد عبد الرسول الخالصي ان يزور الوالد بعد ذلك فامتنع الوالد عن قبول زيارته.


ــ و في أيام الشيوعيين تعرض السيد الحكيم في النجف الاشرف للاهانة ولما سمع الوالد ارسل إليه جماعة بدعوته للمجيء إلى كربلاء والصلاة مكان الوالد فتلقى السيد الحكيم هذه الدعوة بالقبول وجاء إلى كربلاء فاستقبلناه استقبالاً كبيراً وذهب الوالد لزيارته وقدم السيد الحكيم شكره للوالد ودعاه الوالد لاقامة صلاة الجماعة مكانه لكن السيد الحكيم أبى ذلك وقال اني اصلي الجماعة. قرب مقبرة الميرزا الشيرازي في شرقيّ الصحن بينما كان الوالد يصلي قرب باب الزينبية غربيّ الصحن، و اخذ السيد الحكيم يقيم صلاة الجماعة.

هناك حيث اراد والتفّ الناس حوله وفي ذلك الحين جاء عبد الملك مدير شرطة مدينة كربلاء إلى السيد الحكيم والى الوالد وقال لهما يجب ان تعلموا ان سياسة الحكومة هي ترويج الشيوعية وكبت من يخالفهم وردني امرٌ من الحكومة أنه إذا حدثت منازعة بين شيوعيّ وبين غيره يتوجب عليّ ان اعاقب غير الشيوعي وان كان محقاً، وان اترك الشيوعي وان كان على باطل. كما اني رأيت ذلك حيث ان الشيوعيين المزعومين بانصار السلام نهبوا محلات و دكاكين. شارع الامام علي(ع) نهباً علنياً عصر ذات يوم فاعتقلت الحكومة اصحاب الدكاكين وتركت العنان للشيوعيين وشأنهم.

لكن الله سبحانه كان لهم بالمرصاد فبعد ذهاب عبد الكريم قاسم وسقوط حكومته استلم عبد السلام عارف الحكم بعده فاعتقل اولئك الشيوعيين واودعهم السجن وامر بقتلهم بالرصاص أو بنفخ بطونهم حتى الموت، وهاجر الوالد رحمه الله إلى ايران لاجل استنقاذ ما تبقى من الإسلام مما افسده البهلوي الأول.


ــ و نقل لي شخص من الثقاة انه رأى المرحوم الوالد في الصحراء بين النجف وكربلاء يمشي وحيداً فتعجب من ذلك، وانه كيف جاء إلى هنا والصحراء مقفرة ولا سيارة ولا ناقلة اخرى تقوم بنقله إلى هنا، قال ولما رجعت إلى كربلاء بنفس السيارة التي كانت تقلني رأيته في كربلاء.


ــ و كذلك نقل لي بعض الثقاة انه رحمه الله كان يذهب إلى المقبرة ويدخل قبراً خالياً وينام فيه ويتذكر اعماله ثم يقول بصوت عال (رب ارجعون لعلي اعمل صالحاً فيما تركت) وبعد فترة يخرج من القبر فيذكّر نفسه بانه رجع إلى الحياة فليعمل لآخرته ما ينجيه.


ــ وكان الوالد رحمه الله ينظف غرفته بنفسه ولا يأذن لغيره بتنظيفها وكنسها، لأن في ذلك تكليفاً كما كان يقول، وكان يغسل ثيابه بنفسه ايضاً.


ــ وفيما نقل لي انه لما انتقلنا من سامراء واقمنا في الكاظمية لمدة ستة اشهر ولم يكن عندنا شيء فكنا نتناول الزهدي وخبز الشعير وكنا نشتري قرصاً من خبز الحنطة لوالدتنا لأنها لا تتمكن من اكل خبز الشعير والتمر ولما صار الطريق آمناً جئنا إلى النجف الاشرف وأقمنا هناك إلى ان خرجنا منها متوجهين إلى كربلاء عند مجيء السيد القمي اليها وبطلب منه. نعم كان في هذا الحين تلميذاً عند خالي الشيخ ميرزا محمد تقي رحمه الله قائد ثورة العشرين وكان معه في قيادة الثورة.


ــ ونقل لي رحمه الله انه في عطلة من العطل جاء إلى السيد محمد راجلاً من سامراء والمسافة من هناك ثمانية فراسخ قال واني لم اتزود الا بالخبز اليابس، فكنت آكل ذلك الخبز اليابس مع ماء البئر المرّ طوال فترة بقائي هناك وهي مدة شهر، واتفق ان جاءني احد الاصدقاء بشيء من الجبن اليابس فكنت آكل احياناً الخبز اليابس مع الجبن لايام معدودة فقط.


ــ وقد نقل لي انه ظهر من السيد محمد معجزات رآها كونه كان رحمه الله في حرمه وقد شاهدها بنفسه ومن جملتها ان السيد كان يصيح احيانا بلسان إنسان يذكر مشكلات الناس الموجودين هناك فمثلا كان يصيح بلسان رجل أو امرأة من الاعراب بدون اطلاع احدهم على المشكلات التي كانت تنطلق عبر السنتهم فيقول: هذا لسان السيد محمد، ان فلاناً نذر لي خروفاً ولم يأت به اليّ وفلاناً نذر عدداً من شياه وفلاناً نذر أياماً من الصيام وفلاناً مدين للناس وهكذا وكان رحمه الله ينقل لي من هذه القصص بعض العجائب وكان يقول انه بعد الفحص والتقصي يتبين له ان كل ما كان يقوله ذلك الإنسان عن لسان السيد محمد كان صحيحاً وواقعاً.


ــ وكان رحمه الله يباشر الكثير من الاعمال المنزلية بنفسه مع مهامّه المرجعية الكثيرة. ومنها ان موجة من الملاريا اصابتنا جميعاً وكنا حينها عشر افراد باستثناء الوالد وكانت الملاريا شديدة جداً حتى اننا كان يغمى علينا من شدة وطأتها وكان الوالد يذهب لاحضار الطبيب الينا قبل طلوع الشمس حيث يكون بعضنا نائماً في وقت كان الحر شديداً وكان الطبيب يقوم بفحصنا واحداً بعد واحد ثم يصف لنا الدواء من الاعشاب القديمة لكل واحد منا حسب اصابته فيذهب والدي إلى السوق لشراء الادوية وفي ذلك الوقت وكان يباشر امورنا الخال رحمه الله لأن والدتي كانت مريضة هي الاخرى ايضاً، فان الجميع مرضوا عدى الوالد وبعد انتهاء المرض منا كان الطبيب قريباً منا فذهب الوالد إليه لاعطاءه اجرة المداواة والادوية فكان الثمن نصف دينار بما يعادل ثمن خمسمائة قرص من الخبز، كل اربعة اقراص منها بمقدار اوقية واحدة أي اكثر قليلاً من الكيلو غرام الواحد.

كما انه الوالد كان يقوم على علاج اختي الصغيرة زوجة السيد كاظم الخراساني لأنها مرضت مدة ثلاث سنوات بسبب عين اصابتها حيث انها استطاعت من المشي وهي بنت ستة اشهر فقط لذلك اصيبت بالعين فمرضت وطال مرضها وكان الوالد يذهب بها كل يوم إلى الطبيب في النجف الاشرف حتى تماثلت للشفاء باذن الله وفي نفس الوقت كان والدي يذهب إلى الطبيب في كل يوم من اجل اخي حسن لان ختانه صار موجباً للمرض ودام ذلك مدة عام كامل، وهكذا كان الوالد يقوم بكل هذه الاعمال بدون كلل وملل ودونما أي تأفف.


ــ ومن نصائحه لي رحمه الله انه ذات مرة نصحني بالتقليل من نومي قائلاً: اني كنت في أيام شبابي وخلال الليل والنهار لا انام الا ساعتين ونصف الساعة فقط وباقي اوقاتي انشغل فيها بالقراءة والحفظ والمطالعة وقراءة القرآن والأدعية وما اشبه ذلك؛ وكان يحفظ من الشعر ثمانية آلاف بيت من جملتها ألفية ابن مالك ومنها قصيدة محمد باقر المسمى بـ(النجم الثاقب ومن جملتها ايضاً مقامات الحريري وغير ذلك.


ــ ومن جملة ما نصحني الوالد رحمه الله انه نصحني ذات مرة ان إذا ظهرت اعمالي في يوم القيامة فيجب ان تكون خفاياي مثل ظواهري فاذا رأى الناس اعمالي قالوا ان ما كنا نراه في الدنيا من اعمال هذا الرجل هو عين ما نراه الآن بلا زيادة ولا نقصان، وقال لي: وكنت قليل النوم قائلاً لنفسي: تنام في القبر مدة طويلة جداً، فاقلّ نومك الآن وأخره للقبر.


ــ ومما اتذكر من الوالد ان الشيخ محمد الكلباسي رحمه الله وكان معتمداً لدى الوالد ومسئولاً عن توزيع الشهرية للطلاب، انه رحمه الله رأى الوالد في المنام وذلك بعد وفاة الوالد بأسبوع وقال له الوالد قل لمحمد «أي انا» انه لم يوصل اليّ الامانة ولما قال لي الشيخ محمد ذلك تعجبت لأني كنت قد اوصلت كل الامانات ال اصحابها وبعد تفكر علمت ان مراد الوالد بالامانة هو طاقة عباءات لم تكن تساوي شيئاً كانت قد اُهديت إلى الوالد لاجل التوزيع وكانت موجودة في دارنا. فبادرت إلى اعطاءها للشيخ محمد الكلباسي لكي يقوم بتوزيعها على الطلبة وبعد ذلك رأى الشيخ محمد الوالد في المنام رآه مستبشراً وقال له قل لمحمد ان الامانة قد وصلت. مما يبيّن انزعاج الوالد لعدم وصول تلك الامانة.


ــ وكان رحمه الله جميل الخط وكان يكتب كل جمعة درساً من احدى رسائل السيد العم عبد الله وكان السيد عبد الله آية في جمال الخط.


ــ وكان رحمه الله حسن المعاشرة مع الناس ولذا ربى مدينة كربلاء تربية اخلاقية دينية. وقد رزق رحمه الله من والدتي وهي زوجته الوحيدة التي تزوج منها أول زواجه إلى حين موته رزق منها ست اولاد ذكور هم: محمد وعلي وحسن وحسين وصادق ومجتبى ومات منهم ولدان في صغرهما: علي وحسين كما رزق سبعة بنات بقي منهن ستة وماتت السابعة في صغرها واسمها عذراء.


ــ كما انه رحمه الله كان يقرأ التعزية كل يوم عند وقت الفطور صباحاً وذلك بعد ان نجتمع كلنا فيقرأ التعزية من كتاب الامثال وجلاء العيون للمجلسي أو وقايع الأيام  اما ما اشبه ذلك وكان يبكي هو ويُبكي الحاضرين، والحاضرون هم نحن افراد العائلة فقط وتعلم منه السيد ميرزا جعفر عمي رحمه الله واخذ يقرأ، وفي بعض الايام قال السيد ميرزا عبد الهادي رحمه الله للسيد ميرزا جعفر اقرأ لنا - ولم يكن يعلم ان السيد ميرزا  جعفر يقرأ لعائلته في بعض الأيام - فقال ميرزا جعفر: اني لست منبرياً، قال السيد عبد الهادي نعم انك مقبول عند الحسين(ع) فقد رأيت في المنام ان يوم القيامة قد قام وان الامام الحسين(ع) عدّك من المنبريين وشطب اسم منبريٍّ بسبب انحرافه وكتب اسمك مكان ذلك الاسم المحذوف. واني لا اشك ولا ارتاب في اني إنْ وُفقت بشيء فهو بسبب الوالد رحمه الله حيث ان الامام الحسن(ع) وسائر المعصومين لهم العناية المتزايدة والكرامات الكثيرة لا بزمان حياتهم بل وحتى في هذا الزمان.


ــ وكان قد اوصى رحمه الله ان تدفن معه التربة التي كانت عنده عندما يدفن، هذه التربة التي اوصى بدفنها معه كانت تصبح كقطعة دم يوم عاشوراء ثم تعود إلى حالتها الطبيعية في اليوم الحادي عشر، كما اوصى بأن يدفن معه المصحف الذي كان يحفظ فيه أيام شبابه وكان مصحفاً صغيراً، وعُمل بوصيته في الامرين فدفنت معه التربة وهي على صدره وكذلك المصحف وهو عند رأسه.

إقتباس بتصرف عن كتاب سيصدر لسماحته بعنوان والدي