آلية القضاء على الفساد في القرآن

السيد جعفر الشيرازي

قال الله تعالى (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض)(1).

إذ أردنا أن نقضي على الفساد و بؤره في المجتمع يلزم علينا أن نعرف الفساد و أسبابه، لنتمكن من محاولة الحل من الجذر، و الا كان العمل هباءً منثورا.

و لقد أعطانا القرآن الكريم تصوّراً متكاملاً عن الانحراف و نتيجته من الهلاك. و من تلك الاسباب:

البطر في المعيشة، قال تعالى: (و كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)(2) فإن البطر يوجب عدم رؤية شيء سوى المادة و اللذة و ما يتبعانه من الفساد و الإفساد.

الظلم كما قال تعالى: (و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا)(3).

الفسق قال تعالى: (هل يهلك الا القوم الفاسقون)(4) و قال تعالى: (و إذا أردنا أن نهلك قريةٌ أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول)(5).

عدم العمل بكلام الناصحين، قال تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم)(6) و قوله تعالى (و لكن لا تحبون الناصحين)(7).

اتباع الملوك و المستبدين قال تعالى :(ان الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها و جعلوا اعزة اهلها اذلة و كذلك يفعلون  و اني مرسلة بهدية)(8).

فإن الملكية و كل نوع من انواع الاستبداد منشأ للفساد و الذلة، لانهم يجمعون المتملقين حولهم و ينحّون المخلصين و يتعاملون بالرشوة، فلذا لا ملكية في الإسلام لأن الحقيقي منها ذلة و فساد، و الصوري منها لغو و تثقيل كاهل الامة.

عدم التدبر في القول و اتباع الآباء و اتهام الرسل و عدم اتباعهم كما قال تعالى (افلم يتدبروا القول ام جاءهم ما لم يأت آبائهم الاولين  ام لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون  ام يقولون به جنة بل جاءهـــم بالحق و اكثرهـــم للحق كارهون و لو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السماوات و الأرض)(9).

و لا يمكن القضاء على نتائج الفساد الا عبر التغيير في الواقع، لأن الفساد لا يكون الا عبر أسبابه، و ما دامت الأسباب مستمرة فالمسببات أيضاً مستمرة، لأن الدنيا دار أسباب و مسببات، كما قال تعالى: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(10).

و ينبغي في عمليّة الإصلاح مراعات عدة أمور للوصول إلى الهدف:

أولاً: نزاهة المصلحين

يتوجب في المصلحين النزاهة، و إلا فإن كلامهم يفقد أثره، بل يكون تأثيره عكسيّاً حيث إن الناس يقولون لو كان الكلام صحيحاً لعمل قائله به.

و لذا نهى القرآن عن الـــقول من غير عـــمــــل بل اعتبره مـــقــتـــاً كبيرا (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)(11) و انطلاقاً من ذلك فإن الأنبياء و الأئمة(عليهم السلام) الذين اختارهم الله تعالى لإنقاذ الناس إنما هم معصومون و منزهون عن كل عصيان و خطأ لسد هذه الثغرة (إن الله اصطفى آدم و نوحاً و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين  ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم)(12) و بعد ذلك جعلهم الله الأسوة قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة)(13) و قال أيضاً (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه)(14).

و بعد غيبة الإمام المعصوم(عليه السلام) أوكلت المهمة إلى العالم الرباني إذا كان صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فهذه الصفات يجب أن تتوفر في القيادة، و لأنها ليست معصومة فهي بحاجة إلى مراقبة دائمة و تقويم و جعلها أقرب إلى الصواب عبر الشورى (وأمرهم شورى بينهم)(15).

فلذا كان النموذج الإيجابي هو أقصر الطرق للوصول إلى الهدف المنشود، و النموذج السلبي هو أهم سبب لإبتعاد الناس عن الإصلاح و تنفرهم عنه..

ثانياً: عدم استعداد المجتمع

الإصلاح لا يمكن أن يكون دفعة واحدة، بل ككل أمور الكون يكون بالتدريج و شيئاً فشيئاً، فتوقع الإنقلاب الدفعي في غير محله.

فالمصلح يجب عليه أن يراعي حالة التدرج، فيكتشف في طريقه الخامات التي يمكنه الإعتماد عليها في عمليّة الإصلاح و يبتعد عن من كان يتوهم أنهم يفيدونه ثم تبيّن عدم صلاحيتهم، و مداراة المجتمع عبر التواضع و الإحترام و التحمل و الحلم و سائر مكارم الأخلاق لتخفيف حدة التوتر، لكي لا يأخذ المجتمع موقفاً سلبياً منه سلفاً، فيغلق فكره و عقله عليه. قال تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)(16).

و كان ذلك دأب الأنبياء لكي يتهيأ المجتمع نفسيّاً و عمليّاً لقبول الإصلاح. قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)(17) ، ومن هذا المنطلق نرى التدرج في آيات الأحكام، كي يتهيّأ المجتمع لها.

ثالثاً: الحكمة

و هي مراعاة ظروف الزمان و المكان و طريقة البيان، قال تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن)(18) فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه ليؤثر اثره، ثم الوعظ الذي يتركز على ذكر إيجابيات العمل الصالح و سلبيات العمل الطالح ليتحرك الإنسان من منطلق وجدانه و مصلحته، ثم التسلح بالنقاش و الجدل السليم الصحيح و لذلك لتفنيد أدلة المفسدين و إقناع الناس بالصالح.

رابعاً: إشاعة الجو الصالح

فإنه من أهم المرغبات، و العكس بالعكس، لأن الإنسان يُحبُّ أن يحاكي بني نوعه إن خيراً فخير و إن شراً فشر، لذا كانت إشاعة الفاحشة من أشد المحرمات (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذي آمنوا لهم عذاب أليم)(19).

و يتم تهيئة الجو الصالح عبر مختلف البرامج مع مراعاة ظروف الزمان و المكان.

خامساً: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

فإن كل عمل يعمله الإنسان لو يخلوا من أثر عاجلاً أو آجلاً (و قل اعملوا فسيري الله عملكم و رسوله و المؤمنون)(20) و الكلام من العمل الذي يؤثر أثره سواءً كان كلاماً طيباً أم خبيثاً (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)(21) (مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)(22).

و من هذا المنطق وجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأن الكلام يؤثر اثره و لو بعد حين.

سادساً: البيان الواضح

فان وضوح الفكرة تبعد عنها أي شبهة و تسد جميع الثغرات التي يمكن أن يدخل المفسدون عن طريقها، لذا كان القرآن بلسان عربي مبين. و الرسول كان بلاغه مبيناً قال تعالى (فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين)(23).

سابعاً: استثمار جميع الإمكانات و الوسائل

قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم)(24) حيث إن عدم تكافؤ القوي يوجب خسارة الطرف الأضعف في المعركة، فالمصلح ينبغي أن يتسلح بما استطاع من قوة، و يجب أن تكون قوة ظاهرة توجب تخويف العدو و ردعه.

ثامناً: عدم اتباع سبيل المفسدين

القوى الاجتماعية الضاغطة كثيرة، و هي كثيراً ما تستدرج المصلح ليتحول بعد فترة وجيزة إلى جزء من جهاز الإفساد، فما أكثر وعاظ السلاطين الذين تعلموا الوعظ بداية عن إخلاص ثم انجرفوا إلى البلاط، لأن زينة الدنيا خدعتهم فقاموا بالتبريرات المختلفة ليـــقنعوا أنــــفسهم و الناس بصـــحة ما دخلــــوا فيه، و قد نهى الله تعالى عن ذلك حيث يقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)(25) و قال تعالى (كالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)(26) و نرى وصية موسى لهارون(عليهما السلام) (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)(27).

تاسعاً: القناعة التامة و الثابتة

لأن العقبات كثيرة و عدم القناعة التامة، أو العاطفيّة في التحرك تستوجب الخضوع أو الخنوع بأول استهزاء أو أول مقاومة من المجتمع.

فلذا نرى آيات كثيرة ركزت على لزوم اليقين. قال تعالى (حتى يتبين لهم انه الحق)(28).

عاشراً: تكاتف الجهود

لأن اليد الواحدة لا تصفق كما في المثل فإن تبعثر الجهود توجب عدم الوصول إلى الهدف المنشود. قال تعالى: (و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا)(29). و قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم)(30).

الحادي عشر: الاهتمام بنشر الثقافة و العلم

فإن الجهل هو البؤرة المناسبة لنمو الفساد و سيطرة الملأ من القوم على رقاب عامة الناس، في حين أن العلم نور يبصر به الناس، و كلما ارتفعت ثقافة الناس و علمهم ضعفت و اضمحلت أسباب الفساد، فلذا ركز القرآن الكريم على لزوم كسب العلم و أنه الرادع قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)(31). و تعليم الكتاب و الحكمة من اولى مهمات الأنبياء (هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة)(32).

الثاني عشر: الاستقامة

فإن المشاكل جمة ليمتحن الله السائرين في سبيله و يمحصهم ليميز الخبيث من الطيب، فالمصلح يواجه بمقاومة من المجتمع، و محاربة من الملأ من القوم، و ضرب لمختلف مصلحه المادية و المعنوية، و محاولات تشويه سمعته و الافتراء عليه، و اخيراً محاولة تصفية جسدياً.

هذه المشاكل توجب عدم توجه الناس إلى الاصلاح، أو التوقف في منتصف الطريق و الاستسلام لتلك الضغوطات و ترك لاصلاح.

فالاستقامة هي التي توجب وصوله إلى النتيجة ولو بعد حين (فاستقم عما امرت و من تاب معك و لا تطعنوا انه بما تعملون بصير  و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من اولياء ثم لا تنصرون)(33) وقال تعالى(و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين  و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا و اسرافنا في امرنا و ثبت اقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا و حُسن ثواب الآخرة و الله يحب المحسنين)(34).

المصادر:

(1) هود 116.

(2) القصص 58.

(3) يونس 13.

(4) الانعام 47.

(5) الإسراء 16.

(6) الشعراء 139.

(7) الاعراف 79.

(8) النمل 34 35.

(9) المؤمنون 68 71.

(10) الرعد 11.

(11) الصف 3.

(12) آل عمران 33 34.

(13) الاحزاب 21.

(14) الممتحنة 4.

(15) الشورى 38.

(16) طه 44.

(17) آل عمران 159.

(18) النحل 25.

(19) النور 19.

(20) التوبة 105.

(21) ابراهيم 24.

(22) ابراهيم 26.

(23) المائدة 110.

(24) الانفال 60.

(25) هود 113.

(26) الاعراف 175.

(27) الاعراف 142.

(28) فصلت 53.

(29) آل عمران 103

(30) الانفال 48.

(31) فاطر 28.

(32) الجمعة 2.

(33) هود 113.

(34) آل عمران 146 - 148.