المرجعية امتداد وأصالة

عبد الله موسى

يتصدر الحديث عن التكامل في الشريعة الإسلامية كل الأدبيات التي تناولت هذا الدين الحنيف، ولعل هذا الأمر هو الرابط الأساسي الذي يتفق عليه جميع المسلمين بكافة مذاهبهم والعروة التي يتمسك بها المسلم في تثبيت هوية انتماءه للإسلام، حتى أن غير المسلمين ممن عكفوا على دراسة هذا الدين الحنيف ومنهم المستشرقين المنصفين لم يجدوا بداً من التسليم بهذه الحقيقة الساطعة، حيث مثل الشكل الهرمي لمتبنيات الفكر الإسلامي وحده غير قابلة للتبعيض أو الفصل عن أجزاءها الأخرى، مما أعطاه قوة إضافية خاصة ميزته عن باقي الأديان والملل والشرائع الوضعية فاحتل الإيمان قمة هذا الهرم ثم تلتها النبوة وامتداداتها والتي مثلها خلفاء رسول الله)صلى الله عليه و آله و سلم( الذين نصت عليهم الأحاديث الشريفة تتناقلها كتب المسلمين، حيث أخذت الإمامة الدور القيادي الرئيسي في ترسيخ مبادئ الإسلام وتحديد الأطر التي أبقت عليها ثم جاء دور العلماء حيث استلم فقهاء الأمة ثقل الأمانة عن الإمام الثاني عشر)عجل الله تعالى فرجه الشريف( في الوصية الواردة من الناحية المقدسة في نهاية الغيبة الصغرى، وقد امتاز أتباع مذهب أهل البيت)عليهم السلام( بتمسكهم بخط الإمامة عبر المؤسسة المرجعية التي استقلت كمدرسة إسلامية عريقة يرجع إليها نصف المسلمين في العالم، وهي المدرسة الإسلامية الوحيدة التي تمتاز بقرب امتدادها الشرعي من عهد الرسالة، وخلوها من فترة انقطاع (حقيقية) عن مصدر التشريع الثاني بعد القرآن الكريم، وإذا كانت فترة غيبة الإمام الحجة)عجل الله تعالى فرجه الشريف( يمكن تسميتها انقطاعاً، فإن الإرث الذي خلفه الإمام)عجل الله تعالى فرجه الشريف( والأئمة)عليهم السلام( من قبله وضع أسس مرجعية المسلمين وربطها بعلماء الأمة وقد وردت روايات متواترة بالنص على خلافة العلماء ومنها ما روي عن الإمام الحسين)عليه السلام( قوله: )مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء( (تحف العقول: ص169).

وعن الإمام الصادق)عليه السلام( قوله:)ينظرون من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله( (الوسائل: ج18 ص98 ب11 ح9).

وآخر ما ورد عن الإمام الحجة)عجل الله تعالى فرجه الشريف(:)وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله( (الاحتجاج: ص458).

وبدأت سلسلة العلماء المراجع تشكل معالم المدرسة الإسلامية الشيعية التي انتشرت إشعاعاتها في كافة أرجاء العالم.

وبعد هذه المقدمة الموجزة نسلط الضوء على دور المؤسسة المرجعية في العصر الحديث ومعالم تشكيل الحكومة الإسلامية التي نادى بها العلماء ومنهم سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله).

المرجعية والتصدي الفكري والسياسي

حفل تاريخ الاستقلال الحديث للبلاد الإسلامية بعدة نماذج للتصدي للاستعمار وكانت المقاومة الرئيسية في هذه البلدان إسلامية الطابع في المشرق العربي وإيران وشمال أفريقيا وغيرها من الأقطار الإسلامية التي شهدت صراعاً مريراً مع الاستعمار إلا أن هناك نوعاً من التمييز والخصوصية لحركة التحرر في كل من إيران والعراق مثّلتها مركزية القيادة الدينية المرجعية، وهذا ما تحقق في ثورتي التنباك في إيران وثورة العشرين في العراق ففي الأولى كان دور الميرزا محمد حسن الشيرازي أشهر من نار على علم في تأجيج الثورة على الإنكليز وفرض المقاطعة على بضائعهم الرئيسية وكانت فتوى تحريم التنباك مقدمة لطرد المستعمرين من إيران، أما في العراق فقد كان لقيادة المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي دوراً فاعلاً في وضع الجماهير العراقية على الطريق الصحيح للتغيير حيث استمرت الثورة بعد وفاته بقيادة مراجع الأمة وعلماءها. ولابد من الإشارة إلى أن هذه الثورات والانتفاضات التي حدثت في المنطقة كانت قد سبقتها استعدادات ونوع من التمهيد لها وذلك عبر الطرح الفكري الإسلامي الذي اعتبر حديث العهد إبان تلك الفترة التاريخية رغم وجود الجهود السابقة لنشر الفكر الإسلامي إلا أنها ظلت حبيسة أروقة المساجد والحسينيات نتيجة للضغوط الشديدة التي رافقت الحقب السابقة، في حين أن فترة (المطالبة بالاستقلال) وبالذات بداية القرن العشرين الميلادي شهدت نوعاً من الانتشار الفكري المدروس نسبياً بالقياس للوضع الذي سبقه، وتمثل هذه الفترة بحق بداية تصدق المرجعية لقيادة الأمة وانبثاق التنظيمات السياسية والجمعيات الفكرية التي شقت طريقها إلى الساحة كقوة فاعلة خلال عدة سنوات.

بوادر صياغة النظرية الإسلامية

مهدت مراحل الصراع بين المسلمين والمستعمرين للفترة من أوائل القرن العشرين الميلادي إلى نهاية الستينات منه بروز نخبة من العلماء، أخذوا على عاتقهم مهمة بلورة النظرية الإسلامية في الفكر والسياسة والاقتصاد بحيث تمكنت هذه الجهود من صد الهجمات الفكرية التي تعرضت لها البلاد الإسلامية آنذاك، وبالذات الهجمة الشيوعية والتي كان الغرض منها سلخ عقيدة المسلمين وإلحاقهم بالركب الشرقي أو الغربي اللذان كانا يحكمان العالم.

وكان لحوزات النجف وكربلاء قصب السبق في هذا المضمار وأول من انبرى لتسلم زمام المبادرة كان سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) بعدما نهض بأعباء المرجعية بعد وفاة والده المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي فعكف الإمام الشيرازي ومنذ وجوده في كربلاء على إيلاء الجانب الفكري الإسلامي وتطبيقاته، ويعد سماحته من أوائل الفقهاء المراجع الذين طالبوا بإعادة صياغة الوعي الإسلامي واستحضار النظرية المتكاملة التي جاء بها الإسلام وإظهارها إلى حيز الوجود وقد ألّف مئات الكتب التي تناولت كل جوانب هذه النظرية برؤية حضارية شمولية حملها تلامذته ومريدوه إلى كل بقاع العالم..

من هو الإمام الشيرازي؟

قبل البدء في إبراز ملامح النظرية السياسية للإمام الشيرازي (دام ظله) لا بد من مقدمة للوقوف عند صاحب هذه النظرية والإشارة إلى ألمعيته وصفات سماحته التي جعلت منه علماً يشار إليه ونجماً ساطعاً في سماء المرجعية.

ولد سماحته في مدينة النجف الأشرف في العراق من عائلة علمية عريقة امتهنت العلم والفتوى وتمرست على القيادة والجهاد ومن أعلام هذه الأسرة الجليلة:

آية الله العظمى الميرزا محمد حسن الشيرازي (قدس سره) المعروف بالمجدد الشيرازي والذي قاد ثورة (التنباك) في إيران واستطاع أن يصد الهجمة الاستعمارية البريطانية على إيران.

آية الله العظمى الميرزا محمد علي الشيرازي (قدس سره) الأخ الأكبر للميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق.

آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره) وهو قائد ثورة 1920 ضد الاستعمار الإنكليزي في العراق.

آية الله العظمى الميرزا اسماعيل الشيرازي (قدس سره) وهو من العلماء الأعلام.

آية الله العظمى الميرزا محمد الشيرازي الابن الأكبر لمجدد الشيرازي.

آية الله العظمى الميرزا عبد الهادي الشيرازي (قدس سره) والذي آلت إليه المرجعية العليا بعد وفاة الإمام السيد أبي الحسن الأصفهاني والامام السيد البرجرودي (قدس سرهما).

آية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (والد السيد المرجع) توسعت مرجعيته بعد رحيل الإمام السيد حسين القمي وكان المرشح للمرجعية العليا بعد الإمام البرجرودي (قدس سره).

سماحة آية الله الحاج السيد رضي الدين الشيرازي من مشاهير علماء طهران وله مؤلفات قيمة.

المفكر الإسلامي المجاهد آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) وله تاريخ جهادي معروف كما أنه ألف عدة مؤلفات أشهره كلمة الله وكلمة الرسول الأعظم وكلمة الإسلام إضافة إلى الكثير من البحوث والدراسات الأدبية والشعر.

آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، وآية الله السيد مجبتى الشيرازي (أخوا السيد المرجع).

تتلمذ سماحة الإمام الشيرازي على أيدي كبار الأساتذة منهم والده آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي، وآية الله العظمى السيد هادي الميلاني وآية الله العظمى الشيخ محمد رضا الأصفهاني والشيخ جعفر الرشتي (قدس الله أسرارهم) وعلماء آخرين.

وتميزت شخصية الإمام الشيرازي بالتحلي بالصفات الأخلاقية النبيلة وأشهر ما عُرف عن الإمام الشيرازي هو الجمع بين هذه الخصال الحميدة كالتواضع والإغضاء عن الإساءة والعفو وسعة الصدر والمداراة للقريب والبعيد والشعور بالمسؤولية واحترام معارضيه والاستماع إلى آراءهم واستشارة الآخرين وبساطة العيش وتحمل المكاره والمصاعب والتي لا يزال يتحمل مشاقها بكثير من الصبر إضافة إلى عشرات الصفات التي إرتأينا أن تنقل نتفاً منها للمثال لا الحصر:

مرة قال له أحد محبيه أن رجلاً شتمك في حضور جمع من الأشخاص.. فماذا تأمرنا أن نفعل به؟ قال مبتسماً: قولوا له قولاً ليناً.

ومما ينقل عن مكارم أخلاق الإمام الشيرازي (دام ظله) أن رجلاً كان لا يتورع في إيذائه، فوجئ بقدوم سماحة السيد المرجع إلى حفل زواج ابنه ليهنئ الابن ويبارك له بالزواج مما جعل الأب يقع في ارتباك وخجل فطلب من سماحة المرجع المعذرة على ما كان يفعله، ثم أصبح من أكبر المدافعين عن سماحته.

وقد اعترف مناوئوه بسمو أخلاقه فيذكر أحد تلامذة الإمام أنه دارت بينه وبين أحد الكبار في حوزة قم ممن تأثروا بالدعايات المضادة لسماحة المرجع يقول هذا العالم:)قد لا اتفق مع سماحة السيد الشيرازي ولكن ليس هناك مفر من الاعتراف له بسمو أخلاقه وروح النشاط والاستقامة فيه، وإني أرى تقدمه من زاوية أخلاقه الحميدة خاصة مع مناوئيه، ولقد كنت في مجلس حضره لجماعة من مخالفيه وهذا لم يحصل في الغالب إلا لرجال ذوي أخلاق رفيعة وروح عالية(.

وكما نوّهنا سلفاً فإننا لسنا بمعرض إحصاء شمائل هذا الإمام الجليل والمرجع الكبير وإنما سقنا ذلك للمثال فقط ويمكننا أن نزيد أن أيامنا هذه والأيام التي ستأتي قد أزاحت الستار عن الكثير من العيون المخدوعة والأبصار المسحورة وبدأت لها زيف وبهتان وبطلان القوى التي وقفت ضد سماحته خصوصاً في نظريته السياسية الذائعة الصيت (شورى الفقهاء المراجع) والتي ستثبت أحقيتها للحكم بعد خواء نظيرتها، وتحولها إلى سلطة استبدادية للتحكم في رقاب المسلمين، فكيف يرى سماحته النظرية السياسية للإسلام؟

(النظرية السياسية في فكر الإمام الشيرازي)

ترتكز النظرية السياسية الإسلامية عند الإمام الشيرازي على سبعة أعمدة تمثل قوام الفكر السياسي الإسلامي، ولم يكتب سماحة الإمام هذه البحوث المستفيضة كآراء نظرية فحسب، بل إن بعض مفرداتها خضت للتطبيق العملي من خلال المؤسسة المرجعية للإمام أو من خلال التنظيمات التي تفرعت عن الحركة المرجعية كالتنظيم مثلاً أو الشورى وتعتمد هذه النظرية على النقاط التالية:

الحرية، والرابطة بينها وبين التحرر.

التنظيم الحزبي، وشروطه الضرورية.

الثورة الاجتماعية، وظروفها الموضوعية.

السلام وأهدافه وغاياته.

العدل وارتباطه بالعمل الصالح.

الوحدة الإسلامية، وأبعادها المختلفة.

الشورى، وركائزها الأساسية.

وقد وضع سماحته هذه المبادئ السبعة كلولب للنظرية الإسلامية المتكاملة ففي باب الحرية يخرج سماحته أكثر من مئة نوع من الحريات الإسلامية ويرى سماحته أن (الأصل في الإنسان الحرية) كتاب السياسة ص63 فهي ليست هبة أو مغنماً بل هي (ضرورة) وقد توزعت بحوث الحرية في أكثر كتب سماحته ومنها )الصياغة الجديدة( و)السياسة( و)السبيل إلى إنهاض المسلمين( وغيرها من الكتب والبحوث والدراسات. وفي المبادئ الأخرى يضع الإمام الشيرازي خيوطاً لوصل هذه النظرية بما يوحدها في الإطار السياسي العام لها ضمن مبدأ (شورى الفقهاء) الذي يعتبر جوهر نظريته التي تضمن إمكانية إيجاد نظام انتخابي حر يجعل من الفقهاء المراجع القوة السياسية الأولى للحكم في الدولة الإسلامية(1). ومن يطلع على تفصيلات هذه النظرية يجد فيها عدة مميزات خاصة بها والتي هي بلا شك تعبير عن خصوصية صاحبها والتي أعطاها جل عمره الميمون فشمولية الطرح والواقعية هما السمتان الطاغيتان في كل كتابات سماحته فعندما يتعرض لموضوع ما في الفقه أو الاقتصاد أو السياسة يخضعه لنوعين ن الدراسة، الأول عرضه ومقارنته بالنماذج الإسلامية الأولى والمتمثلة بدولتي الرسول الأكرم)صلى الله عليه و آله و سلم( والإمام أمير المؤمنين)عليه السلام( والثاني عبر عرضه على الواقع الراهن وتقديم مفاصل النظرية الإسلامية كحلول ثابتة الأصول متغيرة في الأساليب مما يكسبه المقبولية لدى الملتقي إضافة إلى الأخذ بالنماذج العالمية ومقارنتها بنظيراتها الإسلامية ليفرز بذلك رجحان الرأي الإسلامي عند المسلم وغير المسلم حيث أنه يحتج دائماً برأي (العقلاء) كما أن أسلوب طرح الفكرة يعتمد البساطة القريبة إلى الإفهام وما يسمونه بالسهل الممتنع حيث لا يجد الملتقي عناءً في فهم المطالب التي يريد سماحته إيصالها إليه وإنما يسوق حديثه في علمياً كان أم أدبياً بسلاسة وتصوير دقيق يسهب في بعض تفاصيله إكمالاً للفائدة وزيادة في الإيضاح لأن سماحته يؤكد أن رسالة الوعي موجهة إلى الأمة لا النخبة.

الإمام الشيرازي وقضايا المسلمين

دأب الإمام الشيرازي ومنذ سني وجوده في كربلاء على ترسيخ مبدأ الطرح العالمي للإسلام وهكذا كانت الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة تضم طلبة من كل أنحاء العالم من إيران والباكستان وأفغانستان والهند وأفريقيا وعشرات الجنسيات الأخرى ليرسي بذلك نموذجاً يحتذى به في نشر علوم أهل البيت)عليهم السلام( في كل أرجاء المعمورة، وكان هذا ديدنه بعد رحلته إلى الكويت ومن ثم إلى إيران فما أن يستقر في مدينة حتى يكون درسه موئلاً لطلاب العلوم الدينية من كافة الجنسيات، ولم تقتصر جهود الإمام عند هذا الحد فبالإضافة إلى إرسال طلاب العلوم الدينية الوافدين من تلك البلدان إلى محال إقامتهم للتبليغ والإرشاد ونشر مذهب أهل البيت)عليهم السلام( هناك فإن سماحته أمر بتأسيس المراكز الدينية والمدارس والحوزات في كل بقعة يوجد فيها جمع من المسلمين، وشهدت السنوات الأخيرة استحداث حسينيات ومراكز دينية في بلدان لم تكن يوماً تعرف شيئاً عن الإسلام كأمريكا وكندا وأستراليا وبعض البلدان العربية والتي لا تزال آثارها العلمية ماثلة وسنتطرق للحديث حولها ضمن مشاريع السيد الشهيد في بحثنا هذا.

وقد أخذت قضايا المسلمين الساخنة مأخذاً من تفكير الإمام الشيرازي فلا يمر حدث هام في دولة إسلامية دون إصدار بيان سواء كان ذلك تأييداً أو تبيان موقف المرجعية، أو حث المسلمين في البلدان الأخرى على تقديم الدعم المعنوي والمادي لإخوانهم، وكان لقضية فلسطين جزء واسع وهمّ كبير شغل تفكير الإمام لفترة طويلة وقد أعلن سماحته عن عدة مواقف سياسية بخصوص هذه القضية الإسلامية الهامة ومنها موقف سماحته من إتفاقيات (كامب ديفيد) ومما يسمى بعملية السلام عموماً وصدرت عدى بيانات بهذا الشأن والتي مثلت حينها الرأي الإسلامي فيها.

خصوصية العراق عند الإمام الشيرازي

ظل العراق ولعدة عصور مركزاً هاماً في خارطة العالم الإسلامي لما يحمله من إرث تاريخي كونه عاصمة للدولة الإسلامية الثانية في عهد أمير المؤمنين علي)عليه السلام( كما إن احتضانه لمراقد أهل البيت)عليهم السلام( جعله قبلة لمحبيهم من كل مكان فأصبح مزاراً دائماً يستهوي من أراد أن يرتشف من آثار هذا الدين القيم مياه الإسلام العذبة، وقد كانت لهذه الميزات أثراً في تحول مدنه المقدسة إلى مدارس دينية وحوزات علمية امتدت إشعاعاتها صوب جهات العالم الأربع.

والامام الشيرازي الذي نشأ وترعرع في أكناف مدن العراق المقدسة في النجف وكربلاء، كان هاجس القضية العراقية همه الكبير ويعتبره المثال النموذجي لإقامة حكم الإسلام ولا يكاد يخلو أي كتاب من كتب سماحته من ذكر العراق وطناً وتجربة، وقد أضاف وضع العراق الخاص وتعرضه لحقب من الحكم الذي لم يرحم هذا البلد المقدس أهمية استثنائية، وفي هذا الصدد فقد تحمل سماحة الإمام الكثير من المشاق في مقارعة طواغيت العراق وآخرهم الحكم العفلقي البغيض، والذي تسبب في هجرته إلى الكويت ومن ثم إلى إيران، ولم يكتف هذا النظام المستبد بالتشريد والاعتقالات التي تعرضت لها عائلة الإمام الشيرازي والسائرون على نهجه بل وتجاوز الأمر ذلك بملاحقة أخيه آية الله السيد حسن الشيرازي واغتياله في بيروت انتقاماً من المواقف الإسلامية التي أبدتها هذه العائلة الجليلة وقد كان للشهيد السيد حسن الشيرازي دوراً بارزاً في إذكاء روح الثورة على حكام الجور في بغداد وقد هجاهم علناً بقصيدة ألقيت بمهرجان مولد أمير المؤمنين)عليه السلام( بكربلاء بحضور أربعة من وزراء الحكم البعثي في العراق وقد تعرض للسجن ولعشرات الأنواع من التعذيب في سجون بغداد ثم رحل منها بعد إطلاق سراحه إلى بلاد الشام.

الشهيد حسن الشيرازي والمشروع الكبير

كما سبق وأسلفنا فإن الإمام الشيرازي قد أولى عملية نشر الفكر الإسلامي وتعاليم الرسالة الإسلامية أهمية خاصة في مشروعه الإسلامي الكبير وكان السيد الشهيد ساعده الأيمن في النهوض بأعباء هذه المهمة النبيلة ونتيجة لتعرض برنامج سماحة الإمام إلى التعطيل في العراق بسبب التهجير القسري الذي جوبه به وعائلته، والتدمير الذي لحق بالمشاريع الدينية التي أسسها سماحته فقد كان لزاماً على الإمام أن يجد ساحة أخرى للتحرك، وكان رائد هذا النشاط ومهندسه هو سماحة السيد الشهيد الذي عبّر وبصورة جلية عن قدرات فائقة في التحرك الفكري والاجتماعي في ساحة لم تعهد مثل هذا النشاط الإسلامي من قبل وخصوصاً في المدن السورية والتي بدأت بفضل جهود السيد الشهيد تتعرف عن قرب على المذهب الشيعي وخير مثال على ذلك هو مشروعه الكبير في منطقة السيدة زينب)عليها السلام( في دمشق وتأسيسه لأول حوزة علمية حديثة في سوريا وقد تعرض وقتها إلى نوعين من الضغوط: الأول عدم التشجيع من قبل باقي الحوزات وبعض الشخصيات الإسلامية لإقامة مشروعه في دمشق.

والثاني: الضغوط المادية وصعوبة التعامل مع مجتمع حديث التعرف على مذهب أهل البيت)عليهم السلام( إلا أن صمود الشهيد وتفانيه في إيصال رسالته التي حمل أعباءها من بغداد وكربلاء إلى مجاهل افريقيا السمراء توّج هذه الجهود بالنجاح المنقطع النظير والتي ازدهرت بعد وفاته وهذا دليل على إخلاص مؤسس هذا المشروع الكبير، والحوزة العلمية الزينبية الآن صرح علمي يشار إليه وتضم أساتذة أكفاء في كل الاختصاصات وعلماء مجتهدين، تخرج على أيديهم العشرات من التلامذة والعلماء الذين انتشروا في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، كما أسس سماحته الكثير من المساجد والحسينيات في المدن السورية والمكتبات العامة، كما أشرف السيد الشهيد خلال رحلته إلى لبنان على إنشاء المراكز الدينية والحوزة العلمية اللبنانية ومنها (مدرسة الإمام المهدي) والتي تميزت باستقلاليتها وبعدها عن الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان إبان تلك الفترة. وأسس الشهيد (رحمه الله) دار الصادق وهي مؤسسة للطبع والنشر تهدف إلى إحياء تراث أهل البيت)عليهم السلام( وأسس (مكتب جماعة العلماء) التي أخذت على عاقتها مهمة التبليغ والإرشاد في المدن اللبنانية التي تفتقر إلى هذا النوع من النشاط وأسس مجلة باسم )الإيمان(.

أما عن رحلة السيد الشهيد إلى القارة الإفريقية فقد كانت إحدى مناقبه التي تفرد بها، لأن هذه الرحلة التبليغية كانت الأولى في هذه القارة المنسية، والتي زار فيها دول ساحل العاج وسيراليون وغيرها مفتتحاً عدة مراكز دينية هامة وكان قد التقى بكبار مسؤولي هذه الدول وتدارس معهم أوضاع الجالية المسلمة فيها.

وزار بلدان أخرى للغرض نفسه منها دول عربية كالبحرين والكويت ومصر وكانت له زيارة إلى أوربا حيث زار فرنسا والتقى بالجالية المسلمة فيها، وأسس السيد الشهيد عدة مشاريع إلا أنها ل تكتمل لأسباب مختلفة ومنها محاولة بناء مقبرة البقيع.

وإذا كان الموت قد غيب هذا الشهيد الراحل فإن روحه وفكره وتلامذته موجودون ومتواجدون في مختلف البقاع يخططون وينفذون ما بدأه الشهيد وكما كان يفكر به ما خطط له طيلة حياته المفعمة بالنشاط الإسلامي..