|
|
|||
السيد جعفر الشيرازي |
|||
قال الله تعالى:( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) (النحل 41). الهجرة من المفاهيم القرآنية الهامّة التي ركّز الله سبحانه وتعالى عليها في كثير من الآيات الشريفة، وذلك لأن الهجرة هي منشأ الكثير من الخيرات ومنشأ تفاعل الحضارات بعضها بالبعض الآخر، فيسير ركب الإنسانية نحو الكمال والرقي، وقد بدأ منعطف الإسلام نحو الانتشار وهداية الناس من الظلمات إلى النور، حينما هاجر الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. والهجرة هي سنّة كونية حتى الحيوانات إذا رأت نفسها في الخوف أو ضغط الظروف فإنها تهاجر لاستمرار حياتها. وهنالك آيات كثيرة تحفز المسلمين على الهجرة، وليست الآيات خاصة بزمن الرسول(صلى الله عليه وآله) وإنما عامة لكل زمان ومكان إذا كان المسلمون في ظروف كظرف الرسول(صلى الله عليه وآله) وأصحابه. يقول الإمام الشيرازي(دام ظله): «قد تجب الهجرة من بلاد الكفار إذا لم يتمكّن المسلم من إقامة دينه فيها، وكذلك بلاد المسلمين إذا سيطر عليها الكفار أو الفاسقون المانعون عن إقامة الشعائر، والظاهر أنه ليس حكماً جديداً، بل هو من باب المقدمة وذلك فيما إذا تمكّن من الهجرة أما إذا لم يتمكن فلا...، والمراد بإقامة الدين: إقامة دين نفسه أو عائلته أو مَن الشارع فوضه إليه مما يكون البقاء في تلك البلاد سبباً لانحرافهم عقيدة أو عملاً»(1). |
|||
الهجرة -شأنها شأن سائر الأمور الاجتماعية- قد تكون للخير وقد تكون للشر وقد لا تكون لأي منهما: * فقد يهاجر الإنسان بغية الوصول إلى أهداف غير شرعية أو مصالح آنية ووقتية، كما هاجر بعض المسلمين إلى معاوية فراراً من العدل والتجاءً إلى المال والسلطان. كالنجاشي الذي كان أحد أصحاب أمير المؤمنين فشرب الخمر في نهار شهر رمضان المبارك، فأجرى الإمام عليه الحد مائة جلدة، فاعترض وقال إن حدّ شرب الخمر هو ثمانون، فأجابه الإمام بأن العشرين الأخيرة لانتهاك حرمة شهر رمضان، فغضب والتحق بمعاوية في الشام. وكعبيد الله بن عمر بن الخطاب حيث قتل الهرمزان ظلماً، فطلب الإمام عليt من الخليفة الثالث القصاص منه لكنه لم يستجيب له، وحينما آلت الخلافة إلى الإمام عليt فرّ عبيد الله إلى الشام ليسلم من العدالة وحكم الله تعالى. * وقد يهاجر الإنسان لهدف سامي، كحفظه للدين أو هداية الناس، وهذا ما أكدت عليه آيات متعددة من القرآن، لأنه منشأ كثير من الخيرات، ولصعوبته حيث يتعارض عادة من المصالح الآنية والوقتية. ولذا نرى آيات الهجرة تركز على أن تكون الهجرة في سبيل الله تعالى: قال سبحانه وتعالى:( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) (النساء: 100). وقال عز من قائل:( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً) (الحج: 58). وكنموذج على ذلك هجرة المسلمين بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله)إلى الحبشة حيث إن ظلم المشركين اشتدّ على المسلمين من قتل وتعذيب ومقاطعة و.. فأمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لأن ملكها لا يـــظلم عنده أحد. فهاجـــر جمع من المسلمين إلى الحبشة ـ في هجرتين- فتمكنوا من عبادة الله تعالى بدون ظلم أو أذى وكذلك اهتدى على يدهم ملك الحبشة وآخرون. وكهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله)والمسلمين إلى المدينة المنورة بعد المؤامرة التي حاكها الملأ من مشركي مكة حيث كانت هجرة في سبيل الله تعالى لحفظ النفس ونشر الدين. والهجرة لازمة في موردين: 1) إذا لم يتمكن الإنسان من العمل بواجباته في مكان فإن الهجرة تجب عليه كي يتمكن من أداء وظائفه. وحينما هاجر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)وكثير من المسلمين إلى المدينة المنورة، بقي قسم منهم في مكة المكرمة حيث دورهم وأهليهم، وحينما أراد المشركون التعبئة العامة لمحاربة المسلمين، أعلنوا بأن من خالف الأمر ولم يجهز نفسه في جيش المشركين فإن داره ستهدم وأمواله تصادر، فهؤلاء المتخلفون من المسلمين حباً في المال والسكن انضووا تحت لواء المشركين وقتل بعضهم في المعركة، فكانت عاقبتهم سيئة حيث أنهم خسروا الدنيا والآخرة لعدم الهجرة وقد نزلت فيهم الآية الشريفة:( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء: 97). وقال الله تعالى:( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت:56). وأبونا إبراهيمt حينما حاربه قومه وضاقت به الأرض هاجر من بلده بابل قال الله تعالى:( وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) (العنكبوت: 24)، وفي آية أخرى:( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) (الصافات:96). 2) لنشر الدين وهداية الناس: الكل يعلم بأن المسلمين كانوا تحت وطأة المشركين كانوا يقتلونهم ويعذبونهم ويقاطعونهم، وكانوا ضعاف لا حول لهم ولا قوة، ولو لم يهاجروا لخبا نجم الإسلام في مكة وقتلوا عن بكرة أبيهم. لكن حينما هاجروا نشروا الإسلام في كل أرجاء المعمورة وحتى نفس مكة أخضعوها لسيطرة الإسلام. وكانت الهجرات المتتالية هي من أهم أسباب انتشار الإسلام حيث إن غير المسلمين من القوميات المختلفة كانوا يتعرّفون على المهاجرين وآدابهم التي أدبهم بها الإسلام، فكانوا يعتنقونه طوعاً. ومع الأسف فإن المسلمين في العصر الراهن تركوا الهجرات التبليغية في حين أن بعض المبشرين النصارى وأتباع الفرق الضالة هاجروا إلى كل مكان حتى في مجاهيل البلدان وبلّغوا لضلالهم. وإذا أردنا تجاوز الأزمة والوصول إلى العزة والكرامة، ينبغي علينا أن نرجع إلى القرآن وأحكام الإسلام ومنها المهاجرة في سبيل الله –إذا كانت الظروف ظروف هجرة. |
|||
للهجرة فوائد كثيرة لا تعد ولا تحصى: الفوائد الدنيوية: قال الله تعالى:( والذين هاجروا في الله من بعدما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة) (النحل:41). وقال سبحانه:( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة) (النساء:100). فإن المهاجر تتفتح له آفاق كثيرة ويرى ويتعلم أموراً كان يجهلها، وقد أمر الله تعالى بالسير في الأرض حيث قال:( قل سيروا في الأرض) (النمل:69). ونحن نرى أن المسلمين ملكوا كثيراً من بقاع العالم وأصبحوا ولاة وأمراء وحصلوا على مغانم كثيرة نتيجة الهجرة المباركة إلى المدينة المنورة. حتى أن الله تعالى لم يجعل الولاية لغير المهاجرين كما قال تعالى:( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) وقد استدلّ الإمام الكاظمt بهذه الآية حينما حاججه هارون العباسي في الخلافة وقال إن العباس كان عم النبي وعلي بن أبي طالبt ابن عمه والعم أولى بالإرث من ابن العم، فأجابه الإمامt بهذه الآية فلم يحر هارون جواباً(2). الفوائد الأخروية: المهاجر على كل حال ينال النصر، سواء وصل إلى هدفه من التبليغ والإرشاد ونشر الدين، أم لم يوفق لذلك بل مات أو قتل فإنه ينال حسن ثواب الآخرة مضافاً إلى الذكر الحسن الجميل.. أ- الأجر على الله: قال الله تعالى:( ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) (النساء:100). ب- الرزق الحسن: قال سبحانه:( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً) (الحج: 58). ج- التكفير عن السيئات: قال عز من قائل:( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرنّ عنهم سيئاتهم) (آل عمران: 195). د- رحمة الله تعالى: قال سبحانه وتعالى:( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل إله أولئك يرجون رحمة الله) (البقرة: 218). |
|||
الهجرة - شأنها شأن كل تغيير في حياة الإنسان- فيها صعوبات بالغة، وذلك لأن الإنسان إذا ألف شيئاً فإنه يتعسّر عليه الإقلاع عما ألفه إلى شيء مجهول. مثلاً أصحاب الكهف كانوا من علية القوم فكانوا يتمتعون بالحياة في أفضل صورة، لكنهم حيث آمنوا بالله تعالى اضطروا للحفاظ على إيمانهم على الهجرة والإيواء إلى الكهف الذي يفتقد إلى أبسط وسائل العيش. حيث قالوا كما في القرآن الكريم:( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) (الكهف: 15-16). وكانت نتيجة تضحيتهم: 1- وقاهم الله السيئات. 2- خلدهم في التاريخ بذكرهم في القرآن الكريم. 3- جعلهم من أصحاب الإمام الحجةr حينما يظهر –كما في كثير من الروايات-. كما أن يوسف الصديقt ترك الملذّات واختار السجن –حيث لم يتمكن من الهجرة- وقال –كما في القرآن-:( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) . ومن أهم العوائق هو المصالح المادية والضغط العائلي والاجتماعي حيث أن ترك المألوف والأقارب والمساكن عمل صعب وشاق جداً وقد بين الله تعالى أهم تلك المصالح والضغوطات الاجتماعية في هذه الآية الشريفة:( قل إن كان آبائكم، وأبنائكم، وإخوانكم، وأزواجكم، وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) . |
|||
1 ـ الفقه كتاب الواجبات: ج92 ص268، وراجع أيضاً الفقه كتاب الجهاد: ج47 ص126. 2 ـ مضافاً إلى أنه في الفقه (في الارث) فإن إبن العم إذا كان من الأبوين هو أولى من العم إذا كان من الأب فقط، وأبو طالب (ع) هو اخو عبدالله (ع) من الأبوين في حين أن العباس هو أخو عبدالله من الأب فقط. |