|
إزدواجية الأطروحة الإمبريالية الإعلامية |
||
جبار محمود(1) |
||
الغرب.. النهّاب الذي انكشف وانفضح أمر مرحلة استعماره، فطردته غالبية المجتمعات من أبواب بلدانها.. رجع لها خلسة من شبابيكها، وهو متقمص بأساليب ووسائل مرحلته الإمبريالية، بكل ما تضمّه أطروحتها من خلق إعلاميات غاشة تسندها سياسات رسمية متنفذة. |
||
كان.. وما زال الخطر الإعلامي الغربي، يكمن في امتلاكه لناصية التأثيرين الإيجابي والسلبي معاً، عبر أعلامياته المتكئة بالأساس، إلى فكرتي التدخل في كل شيء، والتحسب من أي شيء، ومن خلال العمل بهاتين الفكرتين استطاع الغرب من فرض سطوته الإعلامية الاستعمارية، وبالتالي إتمام تكبيله للأيادي قبل العقول في البلدان التابعة، بينما يلاحظ أن أطروحة الإمبريالية الإعلامية تختلف عن أطروحة الاستعمار الإعلامي، كونها تتمنهج مستهدفة تكبيل العقول قبل تكبيل الأيادي. وفي هذا الزمن السياسي الرديء، الذي تغلب على طابعه علاقات المادة، والتشرط، والاستلاب، والتهديد لنسف أسس الأخلاق والسمو والإيثار، لا يمكن التجاهل أن ما يصاحب عمليتي التكبيل الآنفتين من تقييدات أخرى لا حصر لها، حيث تتوالى من خلالها مآخذ نكايات تخدير الضمائر، ونحر الطموحات، وطمر الآمال، فعلها المريب بين الناس وتعمق لديهم الشعور المؤكد بعدم المسؤولية. لكن.. سؤالاً من غرار، إلى أي درجة من القبول الاجتماعي حظي الغرب في كسب الثقة والتأييد لإعلامياته الخاصة وأعلامياته النابعة، سوف يجلي كثيراً من حالات التردد، قبل إعطاء أي تقييمات صريحة حول ماهية أي عمل إعلامي مدعوم على المستوى الحكومي، وذلك بسبب سطوة وكثرة الرقباء، ووقع الناس تحت تأثير أفاعيل خضم ظروف استثنائية مفروضة، تتحكم فيها فواصل محسوبيات، وموانع منسوبيات، لا تتاح لهم عبرها بصورة كافية ممارسة حرية التعبير الحقيقي، والإدلاء بما يجول في خواطرهم من آراء وملاحظات وانتقادات بنّاءة، حول بعض الأوضاع التي لها مساس مباشر بمعاني وجودهم، وفضائل تآزرهم، التي يفترض بإعلاميات بلدانهم أن تتبناها وترعاها، وتنمّي مبادئ الانطباعات الفطرية الدائرة حولها، لا أن تظهر مواقف التحاذر والتحفظ اتجاه انطلاقة الرغبات الإيجابية لأفراد المجتمع المعني نحو الظفر بإعلاميات مقبولة عن حق وحقيق. لذا فمن المحبّذ تماماً استثمار النتاجات الإعلامية على أفضل وجه معنوي، ضمن هذا المدرك الحضاري، المؤدي لبلوغ كل ما يمثل إعلام خال من أي منزلقات لإنسانية الإنسان. |
||
على.. ارتفاع ـ مقرر علمياً ـ يبلغ زهاء (36000) كيلو متراً عن مستوى منطقة خط الاستواء، يحلّق الآن في الفضاء الخارجي زهاء (2140) قمر صناعي.. فإذا ما عُرف أن هذا الرقم من الأقمار الصناعية المتمركزة على أفق خط الأستواء، يمثل نسبة تعادل أكثر من ثلثي مجموع الأقمار الصناعية الدولية، الباثة الإعلام إلى أرجاء الكون الأرضي برمته، وإن أي قمر منها يستطيع التنسيق والبث إلى كل مساحة الكرة الأرضية دون أي عائق، فحري بالتمحيص والتواعي الوثوق بأن هذا الرقم للأقمار الصناعية لا يعقل أن يكون لأجل تأمين الاتصالات الفضائية الإعلامية بين الدول فقط، فمن المعلوم أن ما هو مطروح في ساحة أعلاميات البلدان النامية من آراء ومطالب مجتمعية، كلها تصب في العموم سواء أعلن ذلك أم لا.. نحو الفوز بإعلام إيجابي بغض الطرف فيما إذا أتسم الغرب بكونه منتجاً لذلك الإعلام في جزء منه، وهذه حالة تنمّ ضمناً عن يقين سايكولوجي، بوجود إمكانية بديهية لعدم التحسس في كل ما هو غربي لكن الغربيين المسيّسين لا يفهموا مثل هذا الاستنتاج الطبيعي، فظلوا رغم نيلهم للتقدم العلمي والتكنولوجي يتعاملون مع الآخرين بعقلية أشقياء (رعاة البقر)، وينكرون على البلدان النامية تعطشها الدائم لتلقي أعلام دولي هادف، يكون لها بمثابة عون روحي وثقافي وعلمي ومعلوماتي عمّا هو سائد من إعلام سلبي يقدمه الغرب عبر أطروحته الإعلامية المزدوجة في عرض ما هو نافع وما هو مضر. كما... يستكثر الغرب على البلدان النامية، المتلقية من إعلامياته العديدة مواد وبرامج ومسلسلات وأفلام وكتب ودوريات صحفية (مجلات وجرائد) كونها بلدان تتمتع بثقل معنوي دولي، ينبغي أخذ مكاناتها وإمكاناتها الإعلامية على محمل من الاهتمام والمراعاة لخصوصياتها، إذ ليس من مبادئ العدل في شيء تمسك الغرب بمقولته الدائمة أن من يملك صنع تكنولوجيا الأعلام يحق له فرض سلعته الإعلامية، على بقية دول العالم، ففي مثل هذه المفاهيم شيء من العنجهية، وخروج على أولويات معايير التظافر الإنساني الصحيح. وحيث أن الغرب هو المحتكر الأول للفضاء الخارجي بواسطة أقماره الصناعية، ولا يرضى أن يُزاحم على امتلاكه هذا الامتياز بين الإعلاميات الدولية، القائمة اليوم على أسس سياسة الوقوف مع الأقوى، يتبين مما تقدم أن هناك احتلال أعلامي عربي مستشري، ظاهر هنا وغير بائن هناك وغير محسوس عند أنصاف الواعين بسبب إحاطات حالة الوجوم حول إعلاميات البلدان النامية المعانية من افتقار جاد إلى إحصاءات ميدانية، تستطلع تطوّر نسبة الوعي الإعلامي لدى أفراد مجتمعاتها... فمنذ أمد بعيد ظل الإعلام الغربي يقدّم مثالاً للنموذج الإستلابي، لما جعل من نتاجات مؤسساته الإعلامية (التلفاز، الراديو، الصحف...) كمنابر لتضبيب الأيديولوجيات غير الغربية، ومنها أيديولوجيا الإسلام الحقيقي. إلى جانب محاولاته المتوالية لتحريف الرأي العام العالمي، عن جادة الوقائع، وتأجيجه للفتن السياسية بين الأطراف الدولية المختلفة وتهيئة لأجواء قرع طبول الحرب قبيل وبعد اندلاعها بين تلك الأطراف. |
||
عادةً... لا ينظر أعلاميو الغرب البرجوازيون المراقبون لتطورات الرأي المحلي العام في أي بلد، بعين الرضى والارتياح إلى الآراء الناقدة بجرأة لسياسات الغرب اللامشروعة مع بقية بلدان العالم، لو كانت آراء تتطرق إلى شيء من المكاشفة الواعية التي تسلّط الضوء على العلل المستعصية، الناتجة جرّاء فروض أوامر (الجائز والممنوع) المعتمدة الحضور لدى معظم المنابر الإعلامية، ومن المؤكد فإن إزدواجية وعاهة الأطروحة الإمبريالية الغربية الإعلامية، قد ركّزا واقعاً إعلامياً دولياً مباغتاً ومتشابهاً، ساعد على تكوين طبقة من الأعلاميين الطفيليين المخترقين المتنفذين، ممن لا يهمهم في عملهم سوى تقديم أنماط من النتاجات الإعلامية الشكلية العديمة الجدوى، والخالية من أي مضامين جوهرية. وهكذا.. فإن الارتفاع لمستوى استيعاب أجدر على تحقيق استقلال إعلامي لكل بلد، تقتضيه معرفة عصب الأشياء في الحياة الإعلامية ومن الدلائل المبانة من بين محك العلاقات الإعلامية الدولية، أن هناك بون شاسع بين مفاهيم الإعلاميات الغربية وإعلاميات البلدان النامية، في مسألة تحديد الموجبات الإعلامية، مع الإقرار بأنه ليس هناك حاجة لقيمومة غربية سرية على الإعلام الدولي المبثوث والمنشور. فقد أدى توالي سلبيات المهام المزدوجة للإعلام الغربي، وفروض تدخلاته اللامحقة في رسم الــــسياسات الإعلامية لمعظم البلدان النامـــية على وجه الخـــــصوص، إن حُثّت (40) دولة بكل استنفار، فقدمت سنة 1980م مذكرة موحّدة إلى الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، مطالبة إياها بوضع حدود إعلامية مُثلى، فيما يخص تنظيم العلاقات الإعلامية بين الدول المصدرة والمتلقية للأعلام الدولي. كما تمّ الإعراب بتلك المذكرة عن الاعتقاد الجازم، يتوفر الظروف والإمكانات لتأسيس منظمة دولية للأقمار الصناعية، تشرف عليها الجمعية العامة ذاتها، لكن (ونؤكد على معنى مفردة لكن).. ورغم طول المدة التي قاربت العشرين سنة، منذ تاريخ تقديم المذكرة المشار لحساسية موضوعها، لم تتم أية استجابة بشأنها، وبقي ابتزاز الغرب للإعلام الدولي مستمراً. وإثارة موضوع الإعلام وكيف ينبغي أن يكون، ما زال الشغل الشاغل بين عديد من الإعلاميين والمثقفين، ومن المؤكد فإن التأرجح بين التحديد واللاتحديد لكينونة الإعلام، تقرب إلى التأييد بأن الاختلاف في الاجتهاد العفوي حول ماهيات المواد الإعلامية المقدمة (بثاً أو نشراً)، هو أمر صحي جداً - على الغالب - ما دام يشكل طرحاً لا يكتنفه موقف مزدوج أو ازدرائي مسبق، لا يخدم تقييم المادة الإعلامية المعنية. ولعل الضرورة التي يفضل أن تسود في الساحة الإعلامية، هي روح الإدراك الكافل لتقديم إعلام مميز وراقٍ، تترجم أقواله وتوثيقاته الأعمال الواقعة وليست التخريفات والأكاذيب المفتعلة، وبذا سيمكن إبداء الحرص المستحق دون أي غلو، للوصول إلى الحقيقة عبر البحث المجدي عنها. وإذ.. يبقى الإعلام مجالاً رحباً للابتكار والتجديد والإبداع، تتمثل فيه غايات بنائية النفوس جراء زيادة وتوالي اغترافها من مناهله الواسعة، المؤدية إلى رفعة الذوق العام لدى الأفراد والمجتمعات، فمن سجيات هذه الرفعة المنشودة سيمكن أن يتم الكلام عن وجود شيء اسمه الإعلام الحضاري. |
||
1 ـ كاتب وصحفي عراقي. |