|
|
|
حيدر حسين الكاظمي |
إن «أنموذج الحضارة» الذي ابتكره الغرب لم يعد صالحاً لبناء المستقبل أي لبناء مجتمعات قادرة على النمو والانسجام مع البيئة وتحقيق التوزيع العادل للثروة والدخل والاعتقاد السائد أن هذه الدعاية المفرطة لربما تكون جزءً من الحرب الباردة وتسود وفق هذا الاعتقاد عملية تحول تاريخية بأبعاد عالمية واضحة ينعدم فيها التقدم والرخاء ويسود التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي في ضوء «حضارة التنميط» التي تسعى العلومة لفرضها ومع نمو هذه العولمة يزداد تركز الثروة وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً لا مثيل له وتقول الإحصائيات أن 358 ملياردير في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة أي ما يزيد قليلاً على نصف سكان العالم وأن هناك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي وعلى 84% من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85 % من مجموع المدخرات العالمية وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل القومي والثروة القومية في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش وهذا التفاوت الشاسع في توزع الدخل والثروة سواء على الصعيد العالمي أو الصعيد المحلي لم يعد بالأمر المزعج بل بات في رأي منظري العولمة مطلوباً في حلبة التنافس العالمي الضاري ومع تسارع عمليات العولمة فإن بعض المصطلحات المهمة التي شغلت ساحات الفكر والعمل طويلاً مثل «العالم الثالث» و«التحرر» و«التقدم» و«حوار الحضارات» و«التنمية الاقتصادية» لم يبق لها عندئذٍ شيئاً في دنيا العولمة وبمعنى آخر إن «العالم المتقدم» أصبح يتجاهل على نحو خطير مشكلات البلاد النامية وبالأخص مشكلات العالم الإسلامي. |
لقد بدأت الأسواق النقدية العالمية بالتخلي عن معظم الضوابط التقليدية التي كانت تُسيّر العمل المصرفي والنظم النقدية لعهود طويلة، وكانت من نتيجة ذلك أن الكتلة النقدية في ضوء عمليات التحرر هذه لم تعد خاضعة بالمرة للسلطة النقدية المحلية (البنك المركزي) فعمليات دخول وخروج الأموال على نطاق واسع وبالمليارات تتم في ومضات سرعة على شاشات الكمبيوتر وعلى نحو يجعل السلطة النقدية المحلية تقف عاجزة عن الدفاع عن أسعار الصرف و أسعار الأوراق المالية في البورصات وهكذا تحول العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية والتي يساهم المسلمون الأغنياء بنصيب وافر في توفير الأموال عندها أو استثمارها هناك. وما يحدث الآن على ساحات الأسواق النقدية والمالية هو النتيجة الطبيعية والمنطقية للسياسات والقوانين التي شجعتها وأقرّتها حكومات الدول الصناعية الكبرى تحت ما يسمى «تحرير الأسواق المالية العالمية» وهكذا تتحول الدعوة للانفتاح على السوق النقدي والمالي العالمي إلى أيديولوجية صارخة يجب أن يخضع لها الجميع وإلا فقانون الغاب سيتكفل بالعقاب. |
وهكذا وفي ظل هذه التطورات يحق لنا أن نتساءل أين نحن؟ يبدو أن العالم الذي نعيش فيه نحن يستحق منا أيضاً هذا التساؤل هل هو عالم عقلاء أم عالم مجانين فإذا كان العالم عالم العقلاء فلماذا قتل الملايين خلال نصف قرن في حربين عالميتين تركت العالم شظايا ورماداً ودماء ودموعاً وأشلاء ومعوقين وما إلى ذلك ولماذا نصدق كل هذه الصدق بالأمم المتحدة وهي أوضح مثال للانحراف حيث نرى منظمة الأمم المتحدة مكاناً لهدر الحقوق ولماذا يتكدس المال حتى يملك البعض المليارات بينما الملايين جائعون ولماذا تحرق المحاصيل الزراعية أمثال القمح والشعير والسكر والأرز وتلقى في البحر ملايين الأطنان من الحليب المجفف والأدوية خوفاً من انخفاض أسعارها أليست هذه الأمور وأمثالها دليلاً على أن العالم الذي تعيش فيه قد فقد الموازين؟(1) فأين نحن من كل ذلك وهل سنقف ناظرين إلى حتمية التغيرات التي سيشهدها العالم وتنجرف بين طيات هذه التيارات بينما يبقى أعداء الإسلام فوق جزيرة الأمان التي بنوها فوق أشلاء الإسلام المتناثرة ورؤوس أمواله المهدورة. |
نحن نبحث عن القوة ويقودنا الضعف أحياناً بأن نرتمي بين أحضان جلادينا ونحن واثقون أن سرّ قوتنا بعدم الارتماء في أحضانهم، إننا ننشد الأمن للإسلام ننشد القوة له لأنه سر هذا الوجود وكذلك فسر وجودنا نحن في عالم أكثر تكتلاً وأشد عنفاً مبطناً وانطلاقاً من ذلك فإننا نريد حماية الإسلام من الداخل وحمايته من التهديد الخارجي بما يكفل لشعوبه حياة مستقرة توفر له أسباب النهوض والنمو والتعبير عن هويته بين الأمم وممارسة حرياتها في استغلال طاقاته البشرية وثرواته المعدنية والطبيعية للوصول إلى تحقيق أهدافها في التقدم والازدهار والسلام. إن المسلمين أمة واحدة ينتمون إلى تاريخ مشترك وحضارة واحدة وترتكز في معطياتها الثقافية إلى قيم روحية مشتركة وتعيش أبناءها على رقعة من الأرض متصلة ومتواصلة عبر تاريخ واحد وتطلع واحد يجمعنا.. ولكن.. ملامح القوة: تتجلى ملامح القوة في الأمة الإسلامية في العديد من الملامح التي وفرها الإسلام بشريعته السمحاء والقرآن الكريم بدستوره والسنة الطاهرة بإرشاداتها ويكفي للأمة هذه الملامح لنفوذ مسيرتها نحو عالم الصراعات والتحديات وبما أن الرؤيا اقتصادية كان علينا معرفة أهم ملامح القوة الاقتصادية الموجودة في العالم الإسلامي. أولاً: امتلاك الأمة الإسلامية لثروات استراتيجية كبيرة في القرن القادم وأمهما النفط والغاز والأرض والزراعة وثروات معدنية مثل الحديد والنحاس والفوسفات وغيرها حيث يختزن ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط و22.5 % من الاحتياط العالمي للغاز وينتج 9% من إنتاج العالم من الحديد ويبلغ إنتاجه 5 % من سوق النفط العالمي مبيعاً ويشكل النفط العربي 65 % من احتياجات أوربا و80 % من احتياجات اليابان و15 % من احتياجات الولايات المتحدة(2). ثانياً: يتمتع العالم الإسلامي بموقع استراتيجي هام بالنسبة للتجارة العالمية وبمزايا استراتيجية يصعب على القوة المعادية فرض سيطرتها عليه بالكامل مما يجعل لديه عمقاً استراتيجياً مهماً في أية استراتيجية إسلامية ودولية ومازال العالم الإسلامي يمثل أهمية أمنية كبيرة وخاصة بعد نشوء قوى إسلامية ذات مكانة عسكرية ومكانة مالية ضخمة إلى جانب ذلك فإن العالم الإسلامي يتمتع بأهمية استراتيجية أيضاً بكونه يتحكم في الممرات المائية الهامة مثل قناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق باب المندب ومضيق هرمز ويشكل الشريان الحيوي لتدفق النفط العالمي ولحركة التجارة العالمية كونه جسراً بين الشرق والغرب ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك في تدخل القوات الأمريكية في الصومال بحجة القانون الدولي الإنساني والوجود الأمريكي في الخليج والاتفاقات حول تسهيل المناروات العسكرية فيما بينهم وعلى الأراضي العربية كل ذلك تعطي أهمية الموقع الاستراتيجي للأمة الإسلامية. ثالثاً: امتلاك المسلمين أي بعض أغنياء المسلمين لأرصدة مالية كبيرة في البنوك الغربية على مستوى الحكومات والأفراد وتقدر بحوالي 15000 مليار دولار بالرغم من حرب الخليج الأولى(3) والثانية كما وتشكل المنطقة العربية بالذات أكبر مستورد للسلاح في العالم.. «فقد شهدت الفترة ما بين 1984 – 1994م سطواً على الأرصدة العربية تركزت في إشعال الحروب والصراعات في منطقة الخليج من أثر الحرب العراقي – الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات كاملة ثم ما حصل في غزو العراق لدولة الكويت التي انتهت بدمار العراق لتشكل سباق التسلح بشكل واسع النطاق فقد وصل الإنفاق على التسلّح بين 1970 – 1990 ألف مليار دولار وكـــلفت الحرب الـــعراقــــية الإيرانية 3000 مليار دولار وبــــلغت خــــسائر الوطن العربي من غزو العراق للكويت 1371 مليار دولار..»(4). ويذكر أنه بعد حرب الخليج الثانية بلغت قيمة تعاقدات دول الخليج 32.286 مليار دولار وأنه ما بين 1990 – 1992 بلغت طلبات دول الشرق الأوسط ما بين 35 – 45 مليار دولار من الأسلحة كان نصيب الولايات المتحدة من هذه التعاقدات النصف. ومن هذه الأرقام نستدلّ على أن الأمة الإسلامية بمقدورها وضع استراتيجية أمنية شاملة في كافة المجالات نتيجة لتوفر إمكانيات مالية هائلة مستمرة وعنصر بشري مميز ولكن ينقص ذلك كله الإرادة السياسية المخلصة والموحدة لتعبر عن ذلك بشكل واقعي. رابعاً: يتوفر للأمة الإسلامية نخبة من العلماء في مختلف المجالات العلمية يمكن الاستفادة منهم في وضع قاعدة علمية على مستوى عال من المهارة والدليل على ذلك وجود آلاف العلماء المسلمين المهاجرين في الولايات المتحدة وأوربا ويتسلمون مراكز علمية متقدمة كما يتوفر في بعض البلدان الإسلامية نخبة أثبت قدرتها كما كان الحال في العراق قبل مجيء نظام صدام وكما هو موجود الآن في مصر وسورية والجزائر وغيرها من الدول الإسلامية. وكما قال سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله):«إذا أردنا كأمة إسلامية الانتصار في معركتنا فيجب إعداد صياغة جديدة للعالم وإقامة الحكومة الإسلامية من خلال الإعداد النفسي للصراع والإعداد البدني والإعداد التنظيمي وتعاون الأمة الإسلامية بكافة مستوياتها بمستوى العلماء الأعلام والخطباء والعمال والمهندسين والأطباء والطلبة الجامعيين والحوزويين والفلاحين والعمال وغيرهم وهذا التعاون ضرورة يجب أن نزرعه في الأمة وشيئاً فشيئاً فإن هذا التعاون سيؤدي إلى نتائج مثمرة بعد مدة من الزمن بعد أن نزيل كافة الحواجز ابتداءً من الحواجز النفسية إلى الحواجز الإقليمية وهذا يحتاج إلى عمل جاد ومستمر بيننا جميعاً وخاصة بين الشعب والقيادة المرجعية التي ستقود الصراع»(5). |
بالرغم من المرارة التي نشعر بها نحن كمسلمين في فشل الأمة الإسلامية في بناء استراتيجية اقتصادية موحدة تخدم الأمن القومي وتحقق مصالحهم المشتركة وتعزز مكانتهم الدولية من خلال فشل الوحدة الاقتصادية لحد يومنا هذا بالرغم من أن هذه الفكرة كانت منذ عقود زمنية بعيدة وكذلك عدم الالتزام بالقرارات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤخذ عقيب كل مؤتمر إسلامي وبقاء الاتفاقيات مركونة مثل التبادل التجاري وغيرها بالرغم من كل ذلك فإن الدول إسلامية وخاصة بعد اتفاقية «الغات» التي وقعت عليها معظم دول العالم وسعي إسرائيل إلى تقويض النظام الاقتصادي الإسلامي ومحاولة الهيمنة عليه شعرت بضرورة قيام منطقة التجارة العربية خلال عشر سنوات اعتباراً من 29/2/1997م وقد تم بالفعل الشروع بالتنفيذ بمعدل تخفيض 10 % سنوياً على الواردات الجمركية في التجارة بين البلدان الإسلامية من هنا ظهرت بعض الملامح الكفيلة قيام وحدة اقتصادية إسلامية وظهرت على طاولة المشاريع أنماط اقتصادية يمكن للدول الإسلامية أن تبلورها عملياً حتى تعيد صياغة وحدتها الاقتصادية ومن هذه الأنماط هي: 1) يجب أن توحد الأمة الإسلامية من قرارها السياسي لصالح القرار الاقتصادي خدمة للصالح العام وبغض النظر عن الخلافات الجانبية على قضايا يمكن حسمها بالمستقبل. 2) زيادة قوة التلاحم بين القاعدة الجماهيرية والقيادة الروحية للأمة المتمثلة بالمرجعية باعتبارها الطريق الوحيد لتقويم الأفكار الخاطئة وتنمية قدرات المسلمين الذهنية والعملية وباعتبار أن مصدر قوة الاقتصاد نابع من قوة وعي الأمة الإسلامية بمبادئها الشرعية ودستورها السماوي الذي يكفل تنظيم العلاقات الإنسانية بصورة سليمة عبر مختلف العصور وفي مختلف الأجواء. 3) يجب الاعتماد على التنمية الشاملة في بناء اقتصاديات قطرية يقوم على التكامل وليس على التعارض ويجب تحقيق سوق إسلامية واحدة في المستقبل انطلاقاً من خطوات واقعية تحقق الهدف وتختصر الزمن وتحقق القوة لكل دولة إسلامية لمواجهة التحديات الإسلامية. 4) يجب الاعتماد على قواعد المعلومات والاعتماد المتبادل والالتزام بالقرارات. 5) أن تستغل الأمة الإسلامية الطاقات الكامنة فيها المادية والروحية والثقافية والتاريخية ولأمة العربية زاخرة بالإمكانات البشرية والمادية (طاقة-معادن-أرض-عنصر بشري). 6) أن تعتمد التكنولوجيا ذاتها بخلقها أو شرائها وهي قادرة على ذلك لو تحققت الوحدة وحدة الإرادة ووضوح الهدف وسلامة التخطيط وحسن التنفيذ. 7) مواكبة الركيزة الاقتصادية واعتمادها على نهضة علمية وتعليمية. 8) الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية العربية في خدمة الهدف الاستراتيجي للأمن الإسلامي الشامل. وأخيراً نود الإشارة إلى مقولة الإمام الشيرازي (دام ظله) في هذا الصدد قائلاً:«إن الأناشيد والشعارات والعواطف لا تكفي فمرحلة الشعارات والأناشيد يجب أن ترافق مرحلة الإعداد النفسي والجسدي والتنظيمي لشخصية الفرد والأمة وسوف نجني ثمرة هذه التربية في القريب العاجل إن شاء الله وإننا بعملنا الجاد وإعدادنا المستمر لمرحلة المواجهة سوف لن تخيب آمالنا وطموحاتنا والله عز وجل مع الذين يعملون الصالحات لوجهه ومع الذين يكدحون في هذه الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم وتحكيم مبادئهم الخيرة ( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يومك الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) (6) وقال عز وجل:( كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) (7).
|
(1) الصياغة الجديدة: لسماحة آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (دام ظله) ص15-16. (2) المعلومات بين النظرية والتطبيق: د. عبد المجيد الرفاعي، دار الأعلام 18. (3) الركائز الاستراتيجية في خدمة الأمن القومي: د.عيسى درويش ص64 –65. (4) العرب إلى أين: د.زكريا حسن ص407. (5) الصياغة الجديدة: آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي ص724. (6) سورة السجدة: 8-9. (7) سورة المجادلة: 21. |