التقيــة بين مـا يجــوز و مـالايجــوز |
السيد جعفر الشيرازي |
قال الله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة)(ال عمران /28). |
(1) معنى التقية |
التقية لغة: من وقى يقي وقاية بمعنى الحفظ.واصطلاحا: بمعنى إبطان الإيمان وإظهار خلافه، كدأب مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وهي عكس النفاق الذي هو: إبطان الكفر وإظهار الإيمان، قال تعالى:(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون)(البقرة /14). قال الشيخ الطوسي في التبيان (فالتقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي علية القلب للخوف على النفس إذا كان مايبطنه هو الحق، فأن كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا)(1)، وقال الشيخ المفيد (قدسّ سره): التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا(2). وقد اتخذ البعض التقية ذريعة للهجوم والتشنيع على اتباع أهل البيت (عليهم السلام) لأغراض سياسية،مع أنها وردت بنفس اللفظة في القرآن الكريم، لكن البعض يتجاهل القرآن حينمالم يتفق مع مصالحه أو اجتهاداته، ولكن لماذا نسبت التقية إلى اتباع اهل البيت (عليهم السلام) فقط حتى أن بعض العامة نسبوهم إلى البدعة من اجلها؟ وبالتأمل يتضح أن سبب ذلك هو انهم اضطروا للعمل بها اكثر من غيرهم بالنظر إلى ما لاقوه من الاضطهاد في العصر الأموي والعباسي ومــــا تلاهما، ومن اجل ذلك اهتم بها فقهائهم وذكروها في مناسبات شتى في كتب الفقه، ومن الواضح ان الشيء كلما ازدادت الحاجة اليه صار البحث فيه اكثر. |
(2) أدلة جواز التقية |
يدل على جواز التقية: القرآن الكريم والسنة المطهرة والاجماع والعقل. القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)(غافر 28)، هذا الرجل الذي مدحه الله تعالى في القرآن الكريم وعدّه من أهل الجنّة:(قيل ادخل الجنّة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي)(يس/ 26). 2- قوله تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)(آل عمران /28).واتخاذ الكافرين أولياء من أشدّ المحرمات في الإسلام، قال الله تعالى:(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله)(المجادلة /22). إذ أن مودتهم بداية السقوط في ا لهاوية،والإستعمار دخل البلاد الإسلامية من هذه البوابة، حيث اتخذه بعض المسلمين ولياً فسلطوه على أموالهم وأعراضهم ونفوسهم ففعل ما فعل، واتخاذ الكفار أولياء جوزه الله تعالى في صورة التقية -بالمعنى الذي سنذكره-.والاستثناء منقطع حيث لا يجوز التولي القلبي مطلقاً، فيكون المقصود هو إظهار التولي من دون نفوذه في القلب، فإن التقرب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولي ظاهراً من غير عقد القلب على الحب ليس من التولي في شيء لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان(3). 3- قوله تعالى:(من كفر بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(النحل/106)، في قضية عمار بن ياسر حيث أجبر على إظهار الكفر مع أنه كان يبطن الإيمان . والأحاديث: وقد بلغت حدّ التواتر روتها العامة والخاصة، ومنها ما ورد: في صحيح البخاري في حديث أبي الدرداء: إنا لنكشر -أي نبتسم- في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم(4)، وفي صحيح البخاري أيضاً عن عائشة إنه أستأذن على النبي (صلىالله عليه واله وسلم) رجل فقال ائذنوا له فبئس ابن العشيرة -أو بئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له يارسول الله قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول؟ فقال أي عائشة ان شر الناس منزلة عند الله من تركه -أو ودعه- الناس اتقاء فحشه(5). والعقل: الاعتبار العقلي يدل على لزوم التقية -في مواردها- إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الـــحق من حفظ مــــصلحة الديـــن وحياة الحق ما لا يترتب على تركها، وإنكار ذلك مكابره وتعسف(6). والإجماع: أما من الشيعة فواضح وأما من العامة، فقد قال الجصاص -من أئمة الحنفية- (كتاب أحكام القرآن،ج،2 ص10) يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتّقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وعليه جمهور أهل العلم، ونقل الرازي في تفسيره عن الشافعي أنه أجاز التقية وعممها للمسلم إذا خاف من المسلم لما بينهما من الاختلاف فيما يعود إلى مسائل الدين(7). |
(3) سبب تشريع التقية |
يتوهم البعض أن التقية تعني الخوف، إن الضعيف الخائف هو الذي يتمسك بالتقية، أما الشجاع فلا يتقي وإن كان فيه ذهاب نفسه. إلا أن مراجعة الأمر بشكل دقيق توفر لنا فوائد كثيرة يحصل عليها المتقون بينما يفقدها غيرهم نشير إلى بعضها: أولاً: كشف أسرار العدو المحارب أحياناً لا يمكن إلا عبر الأشخاص الذين يتظاهرون باتباعهم، فإن من طرق كشف مخطط الأعداء إرسال بعض الأشخاص إلى صفوفهم يتظاهرون بأنهم من أتباعهم ثمّ ينفذون إلى مصادر القرار فيطّلعون على المخططات ثمّ يكشفونها، كما أرسل الرسول (صلى الله عليه واله) أحد أصحابه في غزوة الخندق إلى جيش المشركين ليترصد أخبارهم(8). وليس معنى ذلك جواز التجسس بشكل مطلق، فإن الأصل في التجسس الحرمة كما قال الله تعالى(ولا تجسسوا) (الحجرات/12)، ولكن يستثني من ذلك موردان: 1- العدو المحارب -كما ذكرنا- نصرة للحق ودفاعاً عن المظلومين. 2- ا لمراقبة على موظفي الحكومة في مجال وظيفتهم لا في حياتهم الشخصية -لكي يؤدوا مهامهم بالشكل الأحسن- وفي الحديث: كان الرسول (صلى الله عليه واله) إذا بعث جيشاً فاتهم أميراً بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبرة(9).ولا يجوز في غير هذين الموردين، وتفصيل ذلك خارج عن محل بحثنا. * وهذا الأمر ما أداه مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه،حيث كانت من مهامه حفظ حياة موسى(عليه السلام) حيث كان يتظاهر بأنه من أتباع فرعون، لكنه كان يخبر موسى بما يجري في بلاط فرعون، وحينما همّ فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا المؤمن وأخبر موسى(عليه السلام) بذلك قال الله تعالى (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب)(القصص/20)، ولولا هذا الرجل المؤمن وكتمان إيمانه لقتلوا موسى عليه السلام. * وكذلك علي بن يقطين حيث دخل في السلطة العباسية فأصبح وزيراً لهارون العباسي وكان يخبر الإمام موسى بن جعفرعليه السلام بما يخطط له الخليفة وكان يصرف نظره عن كثير من الأمور وكان يسهل الأمر لاتباع اهل البيت (عليهم السلام).وقد ذكر الشيخ المفيد (قدس سره) في الإرشاد: إنه كــــان من خاصة الإمــــام الكاظم(عليه السلام) وثــــقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته(10)، وقد ضمن الإمام الكاظم عليه السلام له الجنّة(11) وكان عنه راض(12) وقد أستأذن علي بن يقطين الامام (عليه السلام) في الانصراف عن السلطة فلم يأذن له حيث قال للإمام عليه السلام أما ترى حالي وما أنا فيه؟ فقال: ياعلي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي(13). وكانت مهمة علي بن يقطين تتلخص بما يلي: 1- إيصال الأخبار للإمام عليه السلام. 2- حمله الأموال للإمام عليه السلام. 3- معونة الشيعة ودفع الظلم عنهم. وقد كان علي بن يقطين يرد أموال الضرائب التي يفرضها الحاكم على الناس ظلماًفانه كان يأمر بجبايتهم -أي الشيعة- في العلانية ويرد عليهم في السر(14).كما كان يقوم باستنابة الشيعة في الحج،فإنه كان يساعدهم بأموال طائلة تحت غطاء الاستنابة للحج لئلا يعرف سبب المساعدة، وقد أرسل بعض السنوات خمسمائة وخمسون حاجاً، وفي بعض السنوات ثلاثمائة حاج أو مائة وخمسون وكان يعطي بعضهم عشرين ألفاً وبعضهم عشرة آلاف ويعطي أدناهم ألف اوخمسمائة درهم (15) قال العلامة المامقاني: والذي أظن إن غرض إبن يقطين كان إعانة إخوانه الشيعة بحجة الحج... وهو جعل الحج وسيلة لدفع هذا المال إلى الشيعة الاطهار لئلا يطعن عليه أعدائه(16). ثانياً: التقية هي أداة قوية لمقارعة الجائرين، فإن المجاهدين في أكثر الأحيان يكونون أقليّة محاصرة في أكثرية ساحقة ضالة، فلو أظهروا ما أضمروا من الحق لقتلوا وزالوا، فيضعف الدين بزوالهم. صحيح إن الإنسان لأجل أهداف أسمى قد يكون مستعداً لأن يضحي بنفسه، إلا إن التضحية الصحيحة هي التضحية الهادفة التي تحقق أهدافاً أكبر وأهم، إذ لا يجوز للإنسان أن يضحي بنفسه عبثاً ومن دون أي غرض اهم، قال الله تعالى(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(البقرة/195). فالتقية هي ممارسة الجهاد سرية ضدّ الطغاة. وفي الحقيقة ان التقية هي تغيير لأسلوب الجهاد إلى أسلوب أفضل، وتجميع القوى وازديادها وانتظار حصول الظرف المناسب لإعلان الجهاد ومقارعة حكومات الجور والطغيان، كما حصل هذا الأمر في زمن الأمويين حيث ان أتباع أهل البيت عليهم السلام كانوا يضطرون إلى إخفاء معتقدهم، ولولا ذلك لأبادوهم ولحرّف الدّين كما حرّفت اليهودية والنصرانية، وعن الإمام الصادق عليه السلام (التقية ترس الله بينه وبين خلقه)(17) وعنه عليه السلام: (التقية ترس المؤمن)(18).وهذا تعبير دقيق، فإن الترس أداة الدفاع في ساحة القتال، قد يضطر المقاتل إلى رفعه ليحتمي به من ضربات الأعداء ثمّ ينقض عليهم بسيفه بعد أن تترس بالترس.والمؤمن مجاهد في جميع الأوقات حتى في وقت التقية، فعن الصادق عليه السلام:والمؤمن مجاهد لأنه يجاهد أعداء الله عزّ وجل في دولة الباطل بالتقية وفي دولة الحق بالسيف(19). |
(4) مورد التقية |
يحاول أصحاب الأهواء الباطلة تحريف العقائد الحقة والأعمال الصحيحة والأمور السامية، لأجل مصالحهم وأغراضهم الدانية، فهذا القرآن الكريم -وهو كتاب الله التشريعي- يحاولون تأويله ابتغاء الفتنة، قال الله تعالى(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله)(آل عمران/7)، وهذه الصلاة قد تتحول إلى أداة للرياء قال الله تعالى(فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الّذين هم يراءون ويمنعون الماعون)(الماعون/4-7)، وهذا الجهاد قد يتحول الإنسان فيه إلى شهيد الحمار، إذا لم يدخله من أبوابه ويرفع أهدافه الكبيرة. وهكذا التقية. قد يأخذها البعض ذريعة للركون إلى الّذين ظلموا أو ذريعة للتهرب من المسؤوليات، لذا فالله سبحانه وتعالى بعد ذكر التقية يذّكر هؤلاء العاملين بأنه رقيب عليهم، وعليهم أن يحذروه ويبين أنه يعلم ما في الصدور: (إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله)(آل عمران/28-29)، ومن ذلك يتبين أن التقية لا تستعمل في كل مورد بل هي تنقسم إلى الأحكام الخمسة: الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، الحرمة قال الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه): (فالواجب منها ما كان لدفع الضرر الواجب.والمستحب ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر بأن يكون مفضياً تدريجاً إلى حصول الضرر.والمباح ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساوياً في نظر الشارع... والمكروه ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله. والمحرم منه ما كان في الدماء)(20). وقال الشهيد (قدّس سرّه):(والحرام: التقية حيث يؤمن الضرر عاجلاً أو آجلاً أو في قتل مسلم)(21). وقال الشيخ المفيد(قدّس سرّه):(وقد أمر الصادقون(عليهم السلام) جماعة من أشياعهم بالكف والإمساك عن اظهار الحق والمباطنة والستر عن أعداء الدّين والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم وكان ذلك هو الأصلح لهم، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك). ويستفاد من هذه العبارات وغيرها: أن المناط في التقية هو الضرر، فكلما حرم تحمل ذلك الضرر وجبت التقية والعكس صحيح أيضاً، فيلزم تشخيص موارد الضرر وملاحظة جواز تحمله وعدم جوازه.وفي حديث أن الرضا عليه السلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا يا ابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ فقال عليه السلام: (لدعوتكم أنكم من شيعة أمير المؤمنين وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون، ومقصّرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون حيث لابدّ من تقية(22).والإمام الصادق عليه السلام يبين أن ليس كل من يدعي التقية بصادق بل يلزم التفحص في أمره، يقول عليه السلام: (أن المؤمن إذا أظهر الإيمان ثمّ ظهر منه ما يدل على نقضه، خرج مما وصف وأظهر، وكان له ناقضاً، إلا أن يدعي إنه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه فإن كان ليس مما يمكن أن يكون تقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له(23). |
(5) أمور لا تقية فيها |
ولا يجوز التقية في بعض الموارد منها: ترويج الباطل وإضلال الناس: فإن إضلال الناس من أشد المحرمات، ولا يجوز حتى لو سفك دم إنسان فيه وفي القرآن الكريم ( وما أضلّنا إلا المجرمون)(الشعراء/99). (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم)(الأنعام/144)، (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله)(الحج/9)،( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلونهم بغير علم)(النحل/25)، (وما كنت متخذ المضلين عضداً)(الكهف /51).وفي موثقة سماعة عن الصادق عليه السلام قال: قلت: قول الله عز و جل (من قتل نفساَ بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) فقال: من أخرجها من الضلال إلى الهدى فكأنما أحياها ومن أخرجها من الهدى إلى الضلال فقد قتلها (24) و عن الصادق عليه السلام: (وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم على غير حكم الحق و فعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي الى الفساد في الدين فأنه جائز(25)، ومما يفهم من الرواية أن الفساد في الدين من مهمات الشرع التي لا ينبغي للمؤمن أن يتقى فيها. إعطاء الشرعية للطغاة: فأنه لا تجوز فيه التقية ولذا نرى الأئمة عليهم السلام تحملوا اشد الأخطار و الأضرار ولم يعطوا شرعية لظالم من اجل أن يفصلوا مناهجهم عن منهج الدّين وبرءوا ساحة الشريعة من أعمالهم وتصرفاتهم الظالمة.فالإمام الحسن عليه السلام حينما اضطرّ إلى الصلح مع معاوية -أو بالأحرى المهادنة معه- أراد معاوية كسب الشرعية وإنه أولى بالخلافة فصعد المنبر وقال: أيها الناس هذا الحسن ابن علي وبن فاطمة رآنا للخلافة أهلاً ولم ير نفسه لها أهلاً وقد أتانا ليبايع طوعاً، فقام الحسن عليه السلام وقال: فيما قال بعد أن بين ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) وإنهم أولى بالخلافة: (وأن معاوية بن صخر زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، وأيما الله لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رســــول اللـــــه (صلــــى الله عليه وآله وسلّم) إلى آخر كلامــــه، فقال معاوية: والله ما نـــــزل الحسن حتى أظـــلمت عليّ الأرض وهممت أن أبطش به ثمّ علمت أن الإغضاء أقرب إلى العافية(26). والإمام الكاظم عليه السلام أبطل حجة هارون العباسي حينما أراد إثبات أنه أحق بالخلافة فسلم على رسول الله، وقال السلام عليك يابن العم فتقدم الإمام عليه السلام وقال السلام عليك يا أبه فتغيّر وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه(27)، ولم يزل ذلك في نفس هارون إلى أن قبض عليهوقد قال هارون ذات مرة للإمام الكاظم عليه السلام حدّ فدكاً حتى أردها إليك، فأبى حتى الّح عليه فقال عليه السلام لا أحدها إلا بحدودها، ثمّ قال الحد الأول عدن، والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث أفريقية، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية، وكان قصد الإمام أن فدك كانت رمزاً للخلافة ونحن أولى بها وقد غصبنا حقنا، فعند ذلك عزم هارون على قتله(28)،والإمام الرضا عليه السلام حيث أراد المأمون كسب الشرعية منه حيث قال: (فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعائه لنا وليعترف بالملك والخلافة لنا) فالمأمون كان يريد أن يقره الإمام، ويقول أيضاً: (وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير وإن هذا الأمر لنا دونه(29)، ولكن الإمام -بعد أن اضطر إلى قبول ولاية العهد لأمور أهم وأعظم- افشل مخطط المأمون: أ- في شروطه لولاية العهد حيث اشترط أن لا يولّي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض مرسوماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم ويكون في الأمر مشيراً من بعيد(30)، وكان ذلك تضييعاً لجملة من أهداف المأمون إذ أن السلبية تعنى: أولاً: الاتهام فإن معناها أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه. ثانياً: رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام. ثالثاً: النظام القائم لا يمثل نظره في الحكم. رابعاً: إن تلك الشروط قد مكّنت الإمام عليه السلام من أن يقطع الطريق على المأمون. خامساً: لم ينفذ الإمام إرادات الحكم(31). ب:لم يفّوت الإمام فرصة إلا وبيّن أحقيته بالخلافة وعدم شرعية خلافة المأمون، وهذا حديث سلسلة الذهب معروف حيث اجتمع عشرات الألوف في نيشابور ليسمعوا حديثاً فذكر حديثاً عن أبيه عن آبائه(عليهم السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الله تعالى أنه قال (كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني آمن من عذابي)، ثمّ قال الرضا عليه السلام (بشروطها وأنا من شروطها)(32). فإنا نجد الإمام عليه السلام قد أغتنم الفرصة وأبلغ ذلك الحشد أنه إمام المسلمين جميعاً والمفترض الطاعة عليهم، وبذلك يكون قد ضيّع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمام مرو، وهو الحصول على اعتراف من الإمام عليه السلام بشرعية خلافة المأمون وخلافة بني أبيه العباسيين(33)، وهذه السياسة الصامدة الأبية من الأئمة (عليهم السلام) عرضتهم دائماً إلى السجن والقتل والضغوط العديدة حتى قالوا (عليهم السلام): (ما منا إلا مقتول أو مسموم)(34). ولو كانوا (عليهم السلام)، قد تركوا الجهاد والعمل في سبيل الله وحبسوا في بيوتهم، لما أصابهم الأذى، بل لو كانوا يعطون الشرعية للطغاة لكانوا بموضـــع ترحيب منهم كي يستفيدوا من حب الناس لهم ومن قرابتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل يلاحظ أنهم (عليهم السلام) كنوا يسلبون الشرعية عن الطغاة: 1- بعدم الدخول معهم 2- بيان عدم شرعيتهم متى سنحت لهم الفرصة 3- بالجهاد ضدّهم مباشرة أو بالتخطيط للأمر وإرسال بني عمومتهم لذلك كما لا يستبعد أن ثورات العلويين كلها كانت بأمر الأئمة (عليهم السلام) وقد كان يتفطن لذلك بعض خلفاء الجور وحينما خرج الحسين الشهيد بفخ وقتل وحمل رأسه إلى الهادي العباسي جعل ينال من آل أبي طالب عليه السلام إلى أن ذكر موسى بن جعفر عليه السلام فنال منه وقال: والله ما خرج الحسين إلا عن أمره ولا اتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني الله إن أبقيت عليه، وكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر. فدعا الإمام على الهادي العباسي فما اجتمع القوم إلا لقراءة الكتاب الوارد بموته والبيعة لهارون العباسي(35). التقية في الفتوى: بأن يحكم أو يفتي بخلاف ما أنزل الله تعالى خوفاً إذا أدى إلى الفساد في الدّين أو استلزم ترك الأهم فهذا لا يجوز بأي صورة من الصور سواء كان في الدماء أو لم يكن.قال المحقق البجنوردي (قدّس سرّه): (أما التقية في مقام الإفتاء كأن يفتي بحرمة ما ليس بحرام أو بوجوب ما ليس بواجب، فالأمر فيها أعظم ولعل أغلب عمومات التقية واطلاقاتها لا تشملها ومنصرفة عنها، فلا يجوز له الإفتاء بمجرد خوف الضرر، خصوصاً إذا كان المفتي ممن يتبعه العموم، وخصوصاً إذا كان طول حياته لا يمكن له الرجوع عن فتواه، فيبقى الحكم والفتوى محل اعتبار ومورد عمل العموم، ففي مثل هذا المورد يجب الفرار والتخلص عن الإفتاء، وكذلك إذا كان الفتوى موجباً لتلف النفوس أو هتك الأعراض)(36)، وأما الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) في إفتائهم تقية، فلم تكن للعموم وكان أصحابهم عليهم السلام يعملون بذلك وكان الأصحاب يقولون (أعطاه من جراب النورة) فلم يستلزم من ذلك فساد في الدّين ولا ترك الأهم. التقية في القضاء: فلا يجوز ذلك سواء كان يؤدي إلى القتل أم إلى أضرار الغير. قال المحقق البجنوردي قدّس سرّه: 1- أما لو كان الحكم موجباً لقتل مسلم فلا يجوز قطعاً، ففي الكافي والتهذيب إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقية. 2- وأما فيما عداه: أ- فإن كان الضرر الذي يخاف منه هو أن يقتل لو لم يحكم فيكون حاله حال الفتوى بغير ما أنزل الله فيه، وفيه صور كثيرة من حيث أهمية ما يحكم به أو ترتب الفساد عليه ففي بعضها لا يجوز قطعاً. ب - وأما إن لم يكن الضرر الذي يخاف منه القتل، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه بأضرار الغير(37). لو وجدت مندوحة: في المورد الذي يوجد مجال للتخلص من التقية فلا تجوز، قال الله تعالى(الّذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)، ففي المورد الذي يتمكن الإنسان من تبديل الاضطرار إلى عدمه فأي ضرر يترتب عليه حتى يتقي، وكما ذكرنا أن المناط في التقية الضرر والاضطرار. ففي الكافي بسندٍ صحيح عن الباقر عليه السلام أنه قال (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له)، فيكون حال التقية كأكل الميتة حيث تباح لمن أضطرّ إليه، فإن كان يمكنه رفع الأضرار فلا يجوز له أكل الميتة قطعاً(38)، وفي العصر الحاضر حيث الوضع العالمي بحيث يمكن بيان الحق وإمكان الاستفادة من حرية بعض الــــبلاد الأخرى، وسهولة الاستفادة من الإعلام والدبلوماسية فان دائرة التقية أضيق من السابق ولا يخفى أن هذا الحال يختلف من بلد إلى آخر ومن زمان لآخر كما يختلف من فرد لآخر أيضاً. قال المحقق البجنوردي (قدّس سرّه) وهذا الذي قلنا -من استحباب التقية أو وجوبها- كان في الأزمنة السابقة في أيام سلاطين الجور الذي ربما كان تركها ينجر إلى قتل الإمام عليه السلام أو إلى قتل جماعة من المؤمنين، وأما في هذه الأزمنة -بحمد الله حيث لا محذور في العمل بما هو الحق ومقتضى مذهبه في العبادات والمعاملات- فلا يوجد موضوع للتقية، نعم إذا تحقق في موضوع التقية في زمان اومكان فالواجب منها لا يعارض بأدلة الواجبات والمحرمات(39). |
(6) وختاماً |
فإن التقية ممارسة النضال السري ضدّ الطغاة، وهي عملية صعبة ليس فقط لاحتمالات الخطر التي تهدد الرسالي في كل لحظة،وإنما لاحتمال الاستسلام لإغراءات السلطة والثورة و... و... التي لا بدّ أن يتصارع الرسالي معهما طوال حياته، إن مثل هذا الرسالي هنا كمثل الدكتور الذي يعالج طائفة من المجذومين، فلو لم يكن في جسده مناعة كافية، تسري إليه عدوى الجذام ومن هنا يذكّر القرآن الكريم هؤلاء العاملين بأنه رقيب عليهم وعليه أن يحذروه(40). |
(1) التبيان /ج،3 في تفسير آية التقية. (2) تصحيح الاعتقاد/115. (3) تفسير الميزان/ في تفسير الآية. (4) صحيح البخاري/ كتاب الأدب/ باب المداراة مع الناس. (5) صحيح البخاري/ كتاب الأدب/ الحديث رقم 5666. (6) تفسير الميزان، في تفسير الآية. (7) تفسير الكاشف، في تفسير الآية. (8) ولأول مرّة في تاريخ العالم/ غزوة الأحزاب. (9) الوسائل/ أبواب جهاد العدوّ/ باب 15/ ح4 (ج11/ص44). (10)(11)(12)(13) معجم رجال الحديث، ج،12 ص228و229. (14) معجم رجال الحديث، ج،12 ص232. (15) رجال المامقاني، ج،3 ص316و317. (16) نفس المصدر. (17) الوسائل، ج،11 ص462. (18) الوسائل، ج،11 ص461. (19) الوسائل، ج،11 ص464. (20) رسالة في التقية المطبوعة في نهاية المكاسب. (21) المصدر نفسه. (22) الوسائل، ج،11 ص470. (23) الوسائل، ج،11 ص469. (24) تفسيرالبرهان، ج،1 ص463. (25) الوسائل، ج،11 ص469. (26) رواه الشيخ في الامالي عن علي بن الحسين (ع)/ كلمة الإمام الحسن(ع)، ص87. (27) الاحتجاج/ ص،214 وعن البحار/ ج،48 ص138. (28) تفصيل الرواية في البحار/ ج،48 ص144. (29) الحياة السياسية للإمام الرضا(ع)، ص238-240. (30) المصدر السابق/ ص347 عن عدّة مصادر منها الكافي وعلل الشرايع وإرشاد المفيد. (31) للتفصيل راجع المصدر السابق، ص347-351. (32) المصدر السابق، ص،145 عن عدّة مصادر منها عيون أخبار الرضا. (33) المصدر السابق، ص319. (34) البحار/ ج،27 ص216. (35) البحار/ ج،48 ص151-،153 باقتضاب. (36) القواعد الفقهية/ ج5/ ص68. (37) نفس المصدر، ص68-69. (38) اعتبار المندوحة مختلف فيه بين الفقهاء، والظاهر إن الخلاف في بعض المسائل الفرعية كالتكتف في الصلاة لا في أصول المسائل، وللتفصيل راجع رسالة في التقية للشيخ الأنصاري (قدس سره)، والقواعد الفقهية/ ج،5 للبجنوردي(قدس سره). (39) القواعد الفقهية/ج،5 ص47. (40) تفسير من هدى القرآن. |