التعــدديـة الحــزبيــة بين الواقع و الطمــــوح |
حيدر حسين الكاظمي |
ظلّت الأحزاب السياسية مداراً للعديد من المناقشات والأبحاث وحتى الأطروحات وظلّت بين مد التأييد وجزر الرفض وعلى الرغم من أنها الأحزاب السياسية الصحيحة تشكل عاملاً أساسياً في انفتاحية الحكم ورفاه الشعب وتحرّره النفسي والفكري إلا أن التجارب السياسية المؤلمة للعديد من الدول والأمم أثبتت أن العمل الحزبي يمكن أن يكون عامل هدم بقدر ما يكون عامل بناء وهذا أمر يرجع إلى تركيبة الحزب وأهدافه ومبادئه ثم علاقته بالقوة والأطراف. ولا يمكن لنا أن نحكم على سلبية حزب ما أو على إيجابية حزب آخر من خلال الواقع الملموس دون أن نتعمّق كثيراً بهذا الواقع وتعرف ونتيقّن أين يكمن الخطأ وأين يوجد الصواب فالعديد من النظريات المطروحة كشعارات أو حتى رسالة في الحياة لا تعاني من خلال واقع النظرية من أخطاء أو حتى مشاكل ولكن على ضوء التطبيق العلمي تظهر السلبيات على مدى قريب أو ربما على المدى البعيد... وعلى كل متقصّي لحقائق الأمور أن يفرّق سلفاً بين واقع النظرية وبين واقع الإنسان الذي يريد أن يطبق هذه النظرية كما ينبغي أن ترسم حدود النظرية على ضوء قدرة الإنسان واستيعابه وحتى غرائزه وميوله أحياناً ويجب أن يكون هناك تناغماً واضحاً بين أسس النظرية الحزبية وبين واقع الإنسان المعاصر فإذا اختلفت النظرتان ظهرت السلبيات والقصور في مجال العمل الحزبي في واقع الحياة، إذاً لا بد لنا أولاً أن نعرف هل النظرية الحزبية قد استوعبت في طياتها مقومات وميول الإنسان كما استوعب الدين الإسلامي ذلك في تشريعاته وجوده ثم بعد ذلك نحكم على أي اتجاه كان هو السبب في سقوط وفشل التجربة الحزبية. إن فشل الأحـــزاب في العديد من التجارب المعاصرة لا يعني بالضرورة إلغاء التجربة برمّتها وجعلها في زاوية الفشل التجريبي بل أن الأحزاب ضرورية في العديد من تطبيقات الدولة التي تأخذ على عاتقها المنهج الديمقراطي هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن وجود هذه الأحزاب يجعل من الصعب الوصول إلى الحكم الدكتاتوري في ظل هذه المراقبة الصارمة من قبل الأحزاب فالنظرة يجب أن تأخذ البعدين معاً البعد التشاؤمي للأحزاب في ظل الوضع الراهن والبعد المتفائل بإيجابية هذه الأحزاب وضرورتها في الحكم والمنهج الديمقراطي. |
الإيجابيات... والسلبيات |
وعلى الرغم من أن بعض الأحزاب هي نفسها قد أوجدت العديد من الديكتاتوريات ووجدت فعلاً بعض الأحزاب والقيادة الحزبية الذين أفسدتهم السلطات المطلقة حتى حاربوا الأهداف التي عملوا من أجلها الحكومات السابقة (من نظائرها: أدولف هتلر، ماوتسي تونغ، ستالين، موسليني...). ولكن نجد على الجانب الآخر الإيجابيات التي خلفتها الأحزاب المنافسة في ديمقراطية الحكم وعدم السماح بالوصول إلى ديكتاتورية الحكم والسلطة، وهذا ما نراه واضحاً في أصل نظرية الحكم الإسلامي التي تتجه اتجاهاً واضحاً في زمن الغيبة إلى شورى المراجع والفقهاء (المرجعية الدينية) الذين لهم أهلية الفتوى وفعالية التقليد ومن المعروف أن هؤلاء المراجع لم يصلوا إلى هذه المكانة من فراغ أو مجاملات فارغة وإنما جاءوا ووصلوا إلى ذلك بفضل العلم والتقى والورع والاجتهاد ثم الانتخاب من قبل الناس وحرية التقليد لهم وان هيكلية البناء التنظيمي للدولة الإسلامية صيغت وفق شورى المرجعية الدينية التي يمثلها كافة المراجع الذين رجعت الأمة إليهم في التقليد، ولذلك قبل أن تدخل الأحزاب في العمل السياسي وأخذ دورها التنظيمي ينبغي أن تصوغ وتبرمج أهدافها وسياساتها وفق الإيمان بضرورة الرجوع إلى المرجعية في صياغة سياستها لأن أصل المرجعية تـــستمد مناهجها من الإسلام وعلى ضوء ذلك تبين لنا أن الأحــــزاب أصبح لها دور فعّال وضروري وفق هذا المجال وهذه الحدود فهي تصنع الــــحرية لأنها تعمل في مجالات تنوير الرأي العام وإعداد الناخبين والنوّاب وتهيئتهم للحكم وإيجاد العلاقة الدائمة والمتصلة بين الجماهير والنوّاب وإيجاد وإيصال واقع الجماهير والتعرّف على حاجاتهم ومشاكلهم إلى السلطة، فهي تؤدي دوراً كبيراً وفعالاً وهاماً في مجال الحياة السياسية ألا وهو حماية الحرية والحفاظ عليها. وهي تشكل الواسطة الفعالة بين المقرّرات المرجعية الشرعية وبين الشعب فتقوم بتوضيح القرارات وتحليلها وفق البرامج الصحيحة للحزب وعدم تجاوزها لحكم الشرع أو قرار المرجعية وأن «تجيد العمل وتسد الخلل ففي الحديث: (من أصلح فاسده أرغم حاسده) وأن تشغل الناس بالبناء والتنافس الحر بل ذلك من أقوى سمات الدولة الصالحة حتى ترى أن الله سبحانه قد جعل بين الناس التنافس في الآخرة قال سبحانه: ( استبقوا الخيرات) وقال تعالى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقال سبحانه: ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) لذلك فإن الحكومات الاستشارية ذات الأحزاب المتعدّدة والمتبدلة في الرؤساء تبقى سليمة كما يبقى الناس في ظلها في أمن وسلام»(1). وهكذا يتضح بجلاء كيفية صياغة الحياة السياسية في ظل حكومة الإسلام وجود سلطة عليا من الفقهاء وهم مراجع التقليد تعمل بالشورى وأكثرية الآراء وإشراف الأمة على السلطة م ناحية المراجع ومن ناحية الثواب ورئيس الدولة التي يلعب الأحزاب دوراً مهماً فيه وفي صياغتها وتهيئتها. |
رقابة دائمة |
لذلك تبرز بوضوح دور وحركة الحزب من خلال الطموح الواجب توفره في العمل الحزبي من حيث المراقبة الدقيقة لعمل الحكومة، والتهيئة الجماهيرية الواسعة لأي حدث تتعرّض له الأمة الإسلامية وضمان الحقوق السياسية للأفراد ومنع التجاوزات وإيقاف الظلم، وفي حالة حصول أي انحراف عن الخط الشرعي والمرجعي للحكومة يعني ذلك سحب الثقة منها وإسقاطها وتشكيل حكومة أخرى والى جانب هذا الدور فإن الحزب لا يتخلّى عن دوره في صياغة البرامج السياسية أيضاً وإبداء المشورة والنصح والإرشاد وحتى رفد المؤسسات الحكومية بأفراد الحزب ذات التخصّص والمهارة في المجال المطلوب إشغاله وكذلك رفض أي خطة تكون غير مجدية يقوم بها الحزب الحاكم مما تعني توفر الأجواء الآمنة والسليمة لحالة التطور والرفاه(2). ولو أننا ألغينا هذا الطموح في العمل الحزبي وهذا الدور الذي تقوم به كيف يتسنى لنا من ضمان الديمقراطية ووجودها والحرية في الرأي في المجتمع الإسلامي وكيف سيكون صورة الصوت المعترض والرافض لسياسة الدولة في الساحة؟ سؤال لا بد من طرحه عسى أن تلقى الإجابة ولعلّ الإجابة كانت واضحة المعالم في ساحة الدولة الشيوعية عندما انهار نظامها القائم على التسلّط والمركزية المتشدّدة بالرغم من أن الكثيرين من زعماءها ينادون الآن بضرورة تشكيل الأحزاب وصياغة منهج ديمقراطي مهم للحياة السياسية وبين طموح هذا العمل الحزبي ومنهجه وفوائده نرى الصورة القاتمة والرهيبة التي رسمتها الأحزاب في المرحلة المعاصرة وحتى السابقة على ضوء التجربة التي خرجت منها الشعوب وهي متحوّرة مظلومة منتهكة لأبسط حقوقها في الحياة، وبعد أن تحولت هذه الأحزاب إلى عبدة فرعون الرجل الذي يقبع فوق هرم السلطة وتخلّت عن شعاراتها وربما كانت شعارات زائفة «وتحول ذلك الشخص المختار من قبل الحزب وبمساعدة الحزب ودورانه معه حيثما دار تحول إلى مستبد لا يؤمن إلا برغباته ونداءاته واثقاً من أن ثقة الحزب لا تسحب منه مهما تطرّف وانحرف لأن القيم الاجتماعية في رأي الحزب تطاوعه ولا يطاوعها فهي تدور معه ولا يدور معها شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الفرد نفسه خطراً حتى على الحزب الذي هيئ له الأجواء ويبدأ بالانحراف حتى من منهج الحزب بما يشكل خطراً حتى على وجود كيان الحزب في المجتمع»(3). وبذلك صادف الحزب على اعتبار عمله عملاً محدوداً يصل بنهاية المطاف إلى الحكم الدكتاتوري مهما تعددت الوسائل وأخذت التبريرات بينما كان الطموح في العمل الحزب هو أن يكون منهج الحزب منهجاً بعيداً عن التسلط والديكتاتورية بل وأنه لا يصل بطريقة مطلقاً إلى تلك النتيجة وبهذا يتضح الفارق بين واقع الحزب وطموح النظرية الحزبية واختيارها من قبل الناس الذي لا يتعارض مع مسألة تنفيذ أحكام المرجعية الشرعية التي يرجع إليها المسلمون، بل وأنها تستمدّ أهدافها وسياستها وخطوطها العريضة الرئيسة في إطار المرجعية وأحكامها الثابتة وهي بنفس الوقت أيضاً ترسم الحدود العامة التي يجب أن لا تتجاوزها السلطة في قبال سلطات ممثلي الأحزاب في مجالس الشعب وسلطة شورى المراجع ذلك أن وسيلة التفاهم والتبادل الفكري وطرح الآراء بصورة ديمقراطية - إن صح التعبير- يعطي للشعب الصورة الواضحة للأجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يعني تحديده بدقة للقيادة الــمنتخبة من قبله وكذلك تشخيصه وفهمه لقرارات المرجعية التي لا يمثلها رأي واحد بل عدة آراء مجتمعة ومتشاورة من قبل مجتهدين اختارهم الناس في تقليدهم وفي حالة بروز خلل ما في شخص ما كان لإجماع الفقهاء الموقف الفاصل وكان للشعب إتباع الأصح علماً أن صوت الحزب لابد أن تقره المرجعية ولا يعطيها الحق المطلق والحرية المطلقة في رسم السياسيات والبرامج والخطط وخاصة التي لا تتناسب مع حق الله وسنة نبيه ولا تخرج أهدافها وخططها عن حدود الأمانة والصدق وعدم الخيانة والغدر بل النقد البنّاء والتشخيص السليم الذي لا ينطلق من تعصب أو تحيز أو حتى دوافع شخصية وبهذا يمكن إعطاء الوسيلة مفهومها الصادق لا المفهوم الخاطئ من كون الوسيلة تبررها الغاية ومصالح الحزب فوق مصالح الدين والشعب. ومن هنا كان واقع الأحزاب غالباً ما يتناقض مع طموحات الأمة في هذه الأحزاب ولكن تبقى النظرية في صياغة العمل الحزبي والتعددية الحزبية هي الوسيلة الصحيحة لضمان تطبيق البرامج السياسية بصدق وعدم انحراف مسيرة الأهداف الصحيحة عن آمال الأمة وطموحاتها وعن رضى الله وسنته في الأرض إذا سلكناها وفق الموازين الصحيحة ووفرنا فيها ضمانات النجاح.. |
(1) السبيل إلى إنهاض المسلمين: لسماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، ص 380. (2) الحرية السياسية: فاضل الصفار، ص 296و297 . (3) كلمة الإسلام للشهيد حسن الشيرازي: ص101و102. |