سوء الظن وظاهرة (الإجرام) |
السيد مرتضى الشيرازي |
عندما نقوم بدراسة سيكولوجية لفلسفة (الجريمة) و(الإجرام) عند الطغاة، وعندما نسبر أعماق مجاهيل شخصية كمعاوية وهتلر وصدام، نكشف أنّ من أهم بواعث الجريمة ومن أقوى علل الاستبداد والطغيان: (الخوف المريع) و(الجبن الشنيع) و(الحقد القطيع). وعندما نحلّل عاملي الخوف والجبن، نجد أن (سوء الظن) يكوّن (الخلفية) و(الإطار) من جهة، وهو يتفاعل مع هذين العاملين لينتج من بدأ من (الحقد) (والعَمَهْ) كما يقول جل وعلا:( نذرهم في طغيانهم يعمهون) ، وكما يلد (الحقد) سوء الظن يفرز سوء الظن أيضاً من بدأ من الحقد. ولسنا ممّن يقوم بهذه الدراسة النفسية لبواعث الجريمة عند الطاغية، لمجرّد الرغبة في استشكاف علمي أو استعراض تاريخي. بل أننا نسلّط الأضواء وبتركيز شديد على هذه الحقيقة المرعبة، لأنّ كل واحد منا يمكن أن يكون (مشروع طاغية) في المستقبل لا سمح الله، بل أن يكون -وهو رب عائلة أو مدير مؤسسة أو قائد حزب أو أباً روحيا بجمهرة من الناس- كذلك (طاغية بالفعل) ومجرماً في حدود قدراته التي لو توسّعت لأضحى نسخةً أخرى من فرعون وهامان وشداد والحجاج وصدام. يقول تعالى:( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) ويقول جل وعلا: ( واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) ويقول عزّ من قائل:( إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى) . ولكن كيف؟ لقد كان معاوية يأخذ على الظنة والتهمة –كذلك كل طغاة الأرض- وكان بعض خلفاء العثمانيين قد اقتلع أعين كل أقرباءه وورثته ممن يحتمل –ولو في المستقبل البعيد- أن يحل محلّه أو ينافسه في سلطانه. وكان شعار بعض الأحزاب (تسقيط) كل نجم فكري أو اجتماعي يلمع في الأفق من التوجهات والتجمعات الأخرى وان لم يناصبها العداء أو يتخذ أي موقف سلبي منها. لماذا؟ إنه الخوف والجبن وسوء الظن بالله وبالنفس وبالمؤمنين… وفي الجهة المعاكسة تشرق تلك السيرة المنيرة لرسول الإنسانية محمد بن عبد الله(ص) عندما يترفّع حتى عن الأخذ بحقه الطبيعي والقانوني في القصاص والمقابلة بالمثل، فيعفو عن أهل مكة - عند الفتح- وحتى عن أبي سفيان (صدام العصر) بل يتألّق أكثر فأكثر فيقول: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ويرسل الإمام علي (عليه السلام) ليهتف وسط جيش مكة المنهزم:«اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة» بعد أن تنادى عدد من أصحاب الرسول بشعار الثأر والانتقام:«اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة». والإمام علي (عليه السلام) شمس أفق العدل والحرية والمناقب المثالية: عندما يعفو وبأخلاقية تسمو على ملائكة السماء- عن أهل البصرة ويرد لهم كل ما حازه جيشه من المغانم، ويعامل عائشة التي أشعلت نار الحرب وأودت بحياة المئات بصفح جميل بل يرجعها إلى المدينة معزّزة بحماية أربعين امرأة مقنعة غارقة في الخوذة والدرع واللامة كي يخالهن اللصوص وقطاع الطرق - بل وربما حتى عدد من أصحاب الإمام الذين لم يستطيعوا أن يفهموا فكرة العفو عن رأس الفتنة- رجالاً مسلحين فتأمن عائشة من أي هجوم معاكس، وهن في الواقع أربعين (امرأة) صوناً لعائشة ومراعاة لها وحفظاً لكرامتها رغم كل الذي قد جرى. إنها (الحكمة) و(الشجاعة) و(حسن الظن) بالله وتلك الشحنة الإيجابية الجبارة التي يختزنها العفو والصفح والتسامح، وبتلك الطاقة البنّاءة التي تطفح بها نفوس سمت عن الانتقام وتعالت فوق ذرى الحسابات الشخصية بل تربّعت على عرش الخلق الرّسالي النبيل. إن الطاغوت يكشف عن جبنه وخوفه عندما يواجه المعارضة بالسجن والإعدام وبالاغتيال على طريقة (إن لله جنوداً من عسل). والتجمّعات والأحزاب والشخصيات ترفع هي الأخرى الستار عن جوهرها عندما تواجه سائر التجمعات بسيل من الشتائم وبتشكيلة متنوعة من الغيبة والتهمة والنميمة والتهديد و... ولو أن (المرء) احسن الظن بالله لترك التوصل عبر المحرمات (الغيبة و..) إلى الدفاع عن نفسه إزاء تكالب سائر القوى عليه بمنهجية (التقسيط الاجتماعي)، لترك ذلك إشكالاً على حسن الظن بالله الذي تكفل بالدفاع عن من لا يدافع عن نفسه بهاتيك السبل أوَليس الله عزّ وجل يقول:( إن الله يدافع عن الذين آمنوا) . والشاعر يقول: اصبر على حسد الحسود فان صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله إن حسن الظن بـ(عدل الله تعالى) هو الذي يدفعنا لذلك أيضاً. وحسن الظن بـ(المؤمنين) وبـ(وعيهم) أيضاً. ألم يقل جل وعلا:( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) . وفي الشعر المنسوب للأمام علي عليه السلام يقول: ملكنا فكان العفو منا سجيّة ولما ملكتم سال بالدم ابطح وحللتم قتل الأسارى وطالما ظللنا عن الأسرى نعف ونصفح فحسبكموا هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح ومهما تلبّدت السماء بالغيوم ومهما اكفهرّ الأفق، فلا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للفجر أن ينفلق وستظهر الحقيقة ناصعة كالثلج نقية كالنبع شذية كالورد. إن سوء الظن بـ(دور القيم) وبما تختزنه (المثل الأخلاقية) من بلسم ناجع ومعالجة تتناغم مع الفطرة والوجدان لمعظم أنماط السلوك السلبي الذي ينتهجه أعداء الإنسان لضربه وتحطيمه أو تحجيمه، هو الذي يدفع الإنسان لاتخاذ منهج العنف والإجرام والتعدّي والتجنّي على (المعارضة) و(على الشعب) وعلى (سائر التجمعات). وان الصفح والعفو والتسامح والمشورة وإطلاق الحريات وإقرار حق الآخرين هو المفتاح السحري لاحتواء المعارضة ولتحويل أشواك العداء وسموم الأعداء إلى روضة غناء ترفل بالحب والوفاء والورد والصفاء. وهذا ما تنطق به الآية الكريمة:( ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم) . وهكذا نجد أن حسن الظن بالله وبعدالته وبالقيم الإنسانية ومفعولها الإيجابي هو الذي يدفع الفرد والتجمع والأمة والحاكم إلى سلسلة من مكارم الأخلاق، إلى العدل والإحسان، إلى الصفح والإغضاء والعفو إلى إنصاف الناس من النفس، والى فسح المجال لتكريس التعددية والشورى والحرية. وبالضد من ذلك نلاحظ أن سوء الظن بالله وبعدالته وبـ(الأثر الوضعي) للقيم الأخلاقية يدفع الطاغوت (في أسرته أو في تجمعه أو في أمته) دفعاً لكم الأفواه وقصقصة الأجنحة وللغيبة والتهمة والنميمة ولشتى أنماط الإجرام حتى لتتعجب منه –لو أدركت كل ذلك- وحوش الغابات وذئاب الفلوات! إن سوء الظن حالة مرضية تتوسع وتنتشر دون حساب فمن سوء الظن بالمعارضة إلى سوء الظن بأقطاب التجمّع ذاته ومن سوء الظن بالشعب إلى سوء الظن بالأصدقاء ورفقاء الدرب ومن سوء الظن بـ(نقد بناء) يقدم به معارض أو صديق، إلى سوء الظن بالتخطيط لمحاولة انقلاب عسكري. وتتوالى ردود الفعل قاتمة سوداء مظلمة.. فمن تعبئة إعلامية إلى عزل اجتماعي، مروراً بالسجن والتعذيب لانتزاع الاعتراف وانتهاءً بالتصفية الجسدية واستئصال حتى الجذور على طريقة (لا تبقوا لهم عامر دار ولا نافخ نار ولا طالب ثار). وهكذا تتكامل الصورة متسلسلة متماسكة: فسوء الظن بدور القيم الأخلاقية واعتبارها زيتاً يصبُّ على النار يغذّي في المرء حالة الخوف الذي يدفع المرء للإجرام كوسيلة مضمونة لتحقيق الأمن - كما يخال- وهو أيضاً يتفاعل داخل النفس ليزرع فيها حقداً دفيناً يتنامى بشكل مضطرد ليحرق الرطب واليابس وليحوّل رياض الحب والإخاء إلى (محرقة) لا ترى فيها إلا رماد العداوة والبغضاء ومزيداً من العنف والإجرام. والخوف والحقد يتفاعلان أيضاً في أعماق النفس لينتجا مزيداً من سوء الظن وهي (عجلة) لا تدور إلا لتقضي على الإنسان قبل أن تقضي على الآخرين. إن افضل طريقة لتحطيم سعادتك أن تتمسك بهذا الثالوث المشؤوم، واقصر طريق لتدمير أي تجمّع أو حزب أو عائلة أن يستخدم رب العائلة أو مدير التجمع وقائد الحزب (قنبلة سوء الظن) الموقوتة التي تتموج باستمرار لتنسف (شبكة العلاقات الاجتماعية) ولتستأصل (نور الإيمان) من كيان الإنسان (تتموج) و (تتوالى) تفجّراتها كما القنابل العنقودية... ويكفي الأعداء أن يركنوا إلى سوء ظن الحاكم بشعبه أو التجمعات بعضها ببعض دون حاجة إلى استخدام أية قنبلة ذرية أو هيدروجينية. وكفى في ذلك عبرة لمن اعتبر. |