نحو مستقبل أفضل.. عبر تطبيق الآيات الثلاثة |
علي عبد الرضا |
تتنوّع الرؤية الإنسانية إلى ما يجري من أحداث وإلى تحليل الواقع التاريخي والاجتماعي للحركة الإنسانية بشكل عام. فمن نظرة مثالية تتوقع التكامل التام وتطرح أفكاراً مثالية بعيدة عن الواقع، ومن نظرة تشاؤمية ترى الأشياء في إطار الفراغ وعدم الجدية، وأُخرى سطحية تنظر إلى التاريخ بنظرة تآمرية خاضعة لإرادة البعض ولا يمكن الخروج عن هذه الإرادة إلاّ بالمعجزات. وهناك نظرة ترى العالم من خلال واقعه وما يتحقّق فيه من نتائج وحقائق، حيث تحكم على الواقع والمسيرة الإنسانية من خلال القوانين والمسببات التي تحكم العالم وما تفرزه من نتائج معينة. إن عالم اليوم تتداخل فيه صراعات المصالح وتتحكّم فيه مقاييس القوّة التي لا تنبثق من مجرّد القوة العسكرية (التي أثبتت فشلها وعدم فاعليتها في الاتحاد السوفييتي الذي كان يملك ألوف الرؤوس النووية)، بل هناك بنى تحتية وأساسية انبعثت منها هذه القوة، فهناك القوى الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية التي تجذّرت في بنية تلك الدول القوية فأدّت إلى انفراز هذه القوة التي تلعب دوراً مؤثراً في الصراع العالمي لكسب بعض المصالح وفي بعض الأحيان الإضرار بمصالح الآخرين، ولذلك فإن الذين يريدون أن يصبح لهم دور في حركة العالم ويتغلّبون على أزماتهم ومشاكلهم لابدّ وان يدرسوا منطق التاريخ وواقع القوّة التي تحكم التحرّك الإنساني لاستنباط الأسس التي قامت عليها. فهناك بعض العناصر الأساسية التي تشكّل تركيبة التقدم والقدرة على تجاوز الأزمات كالعنصر النفسي.. ووجود ثقافة التكتّل والوحدة.. والقدرة الذاتية على الإبداع والخلاّقية واستثمار الطاقات الإنسانية.. والحرية والتعددية.. والاكتفاء الذاتي.. فهذه العناصر تمثل نموذجاً واضحاً لحركة القوانين والسنن الإلهية في مسيرة التاريخ الإنساني، فهي توضّح لنا رموز التقدم وامتلاك القدرة على الابتعاد عن مستنقع الأزمات. وليس هناك أفضل من القرآن الخالد في دراسة وتحليل القوانين التاريخية، فالقرآن الكريم يُبرزُ هذه الحقيقة ويوجه الإنسان نحو امتلاك النظرة الواقعية لمجاله الحيوي لانتشال نفسه وإنقاذها من التخلّف، وإثارة كوامن التطوّر والإبداع والبناء الخلاّق، ولذلك نرى أن القرآن يدرس حياة الأُمم السابقة ويوضّح عبرها قوانين كونية تنطبق على كافة مراحل التاريخ، فهو يوجّه الإنسان لاكتساب هذه النظرة الواقعية القائمة على الـــقوانين الإلهية الــتي تطرحها كثير من الآيات القرآنية، ومنها الآيات الثلاثة (آية الأخوّة، آية الحرية، آية الأُمّة الواحدة) التي تمثّل شرحاً أساسياً لما يجب على الإنسان المسلم أن يتحرّك وفقه، إذ أنها قوانين حتمية تستطيع كل أُمّة ولو كانت غير متديّنة بالدين الإسلامي أن تستفيد منها وتعمل وفقها كما قال تعالى:( كلاً نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّك) (الإسراء: 17). |
أولاً- آية الأُمة الواحدة |
( وإنّ هذه أمتكم أُمةٌ واحدة) (المؤمنون:52). فالأُمة الإسلامية يجب أن تكون كياناً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً واحداً، لا تفصل بينه حدود جغرافية موهومة وغير منقسم الى دول متناحرة ومتنازعة. وهذه الآية القرآنية تشير إلى ذلك القانون الذي استخدمه الآخرون لتقوية أنفسهم في ذلك الصراع العالمي الحاد وهو التكتّل والتوحّد سواءاً كان في المصالح المشتركة أو الفكرة أو الثقافة أو إزالة الحدود الجغرافية وما شابه ذلك، حيث يؤدي التكتل إلى إيجاد القوة الصلدة والمتماسكة في المواجهة العالمية وامتلاك حدود التفوّق المهمّة على باقي القوى، والمسلمون لا يستطيعون أن يخرجوا من سيطرة القوى الاستعمارية والتخلّص من التبعية منهم ما لم يتكتّلوا في أُمة واحدة تقف بقوة أمام تكتّل القوى الأُخرى التي تنهش لحوم المسلمين وتأكل ثرواتهم وتقتل أبناءهم. |
ثانياً- آية الأخوة الإسلامية |
( إنما المؤمنون أخوة) (حجرات:10). فيجب أن يحكم الإخاء الديني والاشتراك في المبدأ والعقيدة والحقوق والقوانين في العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامي، حيث أن المقاييس الأُخرى كالثروة والقومية والعنصر والتعصّب مقاييس ضيقة ومتخلّفة عن السنة الإلهية، فهي تثير أسباب الخلاف والفرقة والتمييز القاتل. وإذا درسنا أوضاع الأُمّة في القرن الأخير ونظرنا إلى أسباب أزماتها يبرز دور بعض الحركات القومية المتعصّبة في إثارة التفرقة بين المسلمين، حيث ألغت مقاييس الاخوة الإسلامية ووجهت المسلمين نحو المقاييس القومية والإقليمية الضيقة والتي لا تبتني على أسس اجتماعية وتكوينية ناجحة، وإذا نظرنا للتاريخ نجد أن معظم الحروب المدمّرة كانت أسبابها قومية وأن أكثر الأُمم المنحطة والبائدة كانت أُصولها قومية وتتبع تلك المقاييس الضيقة والفاشلة، فحركة التاريخ والفكر الإنساني أثبتت مسألة الانفتاح الحضاري والثقافي على العالم وامتلاك القدرة على التصدير والتفوّق على الأُمم الأُخرى، وفي الواقع فإن الأخوة الإسلامية تمثل حقيقة الانفتاح الإنساني وأهمية بناء علاقات إنسانية رائعة قائمة على الإيمان بالله والتحلّي بالأخلاق الحسنة، وتجذّر التعاون والتكافل والارتباط الثقافي القائم على التقوى والكفاءة واستثمار الطاقات وتوزيعها على مختلف الأخوة المؤمنين بشكل جيد. وقد عرفت بعض الدول المتقدمة بهذا القانون ودوره في تحكيم قوّة المجتمع وتماسكه الأخلاقي والثقافي والنفسي، ولذلك نبذت القومية والعنصرية وتخلّصت من القيود الضيقة التي تجعلها أسيرة لأفكار غير بنّاءة. |
ثالثاً- آية الحرية الإسلامية |
( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف: 157). إن وجود الإنسان وخلقه قام على أساس الحرية والاختيار، وهدف رسالة الإسلام هو رفع القيود والأغلال التي تسلب حرية الإنسان وتلغي اختياره، ولذلك فإن الحرية هي من أهم القوانين التي تحرّك الاجتماع الإنساني إن لم نقل أنها القانون الأساسي، فالأُمّة التي تسلك هذا القانون تتقدم وتنمو في آفاق الإبداع والخلاّقية والتطوّر الحضاري. أما الأُمة التي تقع في أغلال العبودية والديكتاتورية فإنها تصبح أسيرة بيد المشاكل والأزمات والحكام الجائرين، وهي حينئذٍ تابعة وسجينة لإرادة القوى الأخرى حيث تسلب منها استقلالها الاقتصادي وقرارها السياسي وأصالتها الثقافية. إن الحرية هي أساس التقدم الإنساني، وهي القانون الأُوّلي الذي يجب أن يتخذه المسلمون ليغيّروا واقعهم ويبنوا حضارة إنسانية وينالوا استقلالهم وقرارهم وحياتهم. إن الآيات الثلاثة ضوء قرآني يكشف لنا الديناميكية التي يسير بها التاريخ الإنساني نحو الأفضل وتوضح القوانين الإلهية التي تحكم الإنسان وحياته، فبدونها وبدون الآيات القرآنية الأخرى لا يمكن أن نغير واقعنا نحو الأحسن. هنا تبرز مجموعة ملاحظات مهمة: 1- يجب أن نضع الآيات الثلاثة في أول سلّم الأوليات التي نهتم بها، حيث أن الانشغال ببعض الأعمال الهامشية لا يحل مشاكلنا، أو الاعتقاد بعدم جدوائية العمل لتحرير واقعنا، وانتظار المعاجز لتنتشلنا من مستنقع التخلف، فالعالم وحركته ودوراته التاريخية مبنية على قوانين وسنن تعتمد على إرادة الإنسان ووعيه وتصميمه على بناء حياته وتغيير واقعه. 2- من الضروري أن يهتم الاخوة العاملون في الوسط الإسلامي وبالأخص القياديين منهم بالآيات الثلاثة وان ينظروا إلى المشكلة والأزمة من جذورها وحلها من أساسها لا بظاهرها وشكلها الخارجي فقط. فمن الملاحظ أن بعض الاخوة انشغلوا في أشياء جزئية صغيرة لا تستطيع أن تخرجنا من الوضع الحالي فالاهتمام المركّز بالآيات الثلاثة والعمل بمضامينها يمكننا من التحرك نحو تغيير مجتمعنا والتخلص من التبعية للقوى العالمية. 3- ومن الملاحظ أن الهيئات الإعلامية العاملة من صحف ومجلات ودراسات وبحوث انشغلت أيضاً في بحوث غير أساسية قد تصل الى حد الترف الفكري، بينما تبتعد هي عن واقع المشكلة الأساسي وحلولها الجذرية، وهذا بالطبع لا يخدم الأمة ولا يساهم إلاّ في الابتعاد عن تحكيم النظرة الواقعية في حل مشاكلنا. 4- التمحور الإقليمي لا يخدم القضية الإسلامية بل يحددها ويحدد أفكار الإسلام الحضارية والعالمية والمنفتحة، فالبعض يعتقد بأن العمل على مستوى الإقليم الذي ينتمي إليه هو العمل الأفضل والهدف الأساسي، وفي الواقع أن هذه النظرة المحدودة تجعل الاخوة العاملين ينفصلون عن إخوانهم الآخرين في الأقاليم الأخرى ويقعون في فخ الأهداف الصغيرة البعيدة عن واقع الأهداف الإسلامية الكبرى، وبالتالي القبول بالتقسيم الجغرافي والنفسي والقومي الذي يمثل ابتعاداً عن السنن الإلهية، إن التحرك يجب أن يكون على المستوى العالمي والمستوى الإسلامي، فعالم اليوم هو عالم الانفتاح لا الانغلاق كما تحاول الدول والجماعات المتقدمة أن تسعى لذلك وتدخل في أسواق وثقافات وبلاد الشعوب الأخرى، أما الجماعات المنغلقة على أنفسها فمحكوم عليها بالفناء والزوال وعدم التطوّر فالذي ينغلق في حدوده الإقليمية هو أول من يتضرر حيث تجعله في إطار سياسي وفكري وحركي ضيق وتسلبها المرونة والخلاقية التي يحتاجها في عمله. 5- إن أفضل طريقة يمكن من خلالها للاخوة العاملين أن يسعوا لتطبيق مفاد الآيات الثلاثة هو إيجاد التنظيمات التي تنتشر في العالم لجمع طاقات المسلمين وجهودهم الاقتصادية والفكرية وصبّها في هذا الاتجاه، فعالم اليوم الذي تديره التنظيمات العالمية الكبيرة لا يمكن الدخول فيه بدون هذا السلاح الأساسي. 6- وأيضاً فإن من السبل لتطبيق ثقافة الآيات الثلاثة هو عقد المؤتمرات العالمية التي تجمع الاخوة من جميع أقطار العالم لتنسيق جهودهم وتكثيف طاقاتهم واستثمار أفكارهم لصالح حل الأزمات وبناء الطاقات وجمع الجهود التي تضيع الكثير منها هدراً. فالمؤتمرات لها تأثير كبير في حل مشاكل المسلمين حيث أن التنسيق المستمر يوحّد الطاقات الاقتصادية والفكرية التي يعجز الفرد عن تحقيقها بدون التعاون مع الآخرين. ونبقى نحن على مفترق طرق فإما أن نفكر في مستقبلنا ومستقبل أبناءنا فنسعى لتطبيق آيات القرآن وسنن الله مع تحمل للمشاق والآلام وترك بعض اللذات الآنية العاجلــــة، أو نبقى على حالنا وننشغل في أعمالنا الجزئية لنحكم على أنفسنا بالشقاء والتخلّف والعبودية والتشتُّت ونحكم على مستقبلنا ببؤس أكثر وتبعية أسوأ وبالتالي.. سنفقد الذي معنا.. ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد:13). |