مجلـــة النبــــأ       العددين (23 ـ 24 )       السنــــة الرابعــــة       ربيع الثاني ـ جماد الأول  1419 هـ

القانون ضمانات التطبيق والإطاعة


مرتضى معاش  mortada@annabaa.org

يصبح القانون فعّالاً عندما تكون القناعة والإيمان طريقاً إلى تطبيقه. وقد ذكرنا سابقاً أن القانون الوضعي الذي يفصل نفسه عن الأخلاق والدين وقيم القانون الطبيعي الفطرية لا يستطيع إلاّ أن يعتمد على القوّة والتهديد وهذا ما يجعله لا يمتلك مقومات الاستمرار لتحقيق الاستقرار والأمن لأنه لا يمتلك جذوراً متأصّلة في عمق الوعي الإنساني العام. ذلك أن «الناس يطيعون القانون لا لأنهم مرغمون على ذلك بالقوّة بل لأنهم يقبلونه أو على الأقل يذعنون له وان هذا القبول وليس تهديد القوة هو الذي يجعل النظام القانوني فعالاً»(1).

وهنا يبدع الإمام الشيرازي عندما يحاول أن يثبت فعالية القانون الإسلامي والقبول الكبير الذي شهده من الأجيال التي تعاقبت حيث يعتقد سماحته: «إن القانون الإسلامي طبق بالقناعة لأنه فطري ولا حاجة في تطبيقه إلا فهم الناس له». أما الإشكال على القانون الإسلامي بعدم وجود تطبيق فعلي له أو هناك تطبيق سيء له..! فإن سماحته يجيب ويقول: «إن القانون الإسلامي صالح للتطبيق لا حسب عقيدتنا فحسب بل حسب ما قام عليه الدليل والبرهان وأثبتته الحكمة والتجربة وإنما المشكلة في حملته حيث لا منهجية صحيحة لهم تصلح لإقناع الناس ولا يتخلّق حملته الداعون إليه على الأغلب بأخلاق القائد الصالح». ويضيف سماحته بأن: «من يريد تطبيق الإسلام من جديد عليه أن يوفر في نفسه ومنهجه ما يوجب التفاف الناس حوله»(2).

ومن خلال قراءة الفقه القانون نحصل على مجموعة من الحقائق التي تكشف عن الأسلوب الأفضل لتطبيق القانون وإذعان الناس له. إذ يرى سماحته أن الثواب والعقاب يتكاملان في تطبيق القانون: فإن القانون إذا لم يكن وراءه رادع لم يمكن تطبيقه فتضيع المصلحة التي وضع القانون من أجلها، وانّ الردع المترتب على ترك القانون ليس هو المحرك الوحيد إلى الالتزام بالقانون خصوصاً في السر بل اللازم تزامن القانون مع العوامل النفسية والاجتماعية والحقوقية.. واحتفافه بالترغيب والثواب من جهة والردع والعقاب من جهة أخرى.. ولقد كان السر في نجاح الإسلام هذا النجاح الهائل هو أنه جعل لقوانينه احترام الثواب وجعل لها احترام الواقعية حيث أرى الناس فوائد القوانين التي شرّعها لهم.. كما وجعل أيضاً احترام رضا الله سبحانه قال تعالى: ( ورضوان من الله أكبر) (3).

ومن الشروط الأخرى التي يراها سماحته ضرورية للتطبيق الصحيح للقانون: أن يكون القانون بقدر الضرورة بل أقصى الضرورة لأن القانون إذا كثر وازداد فقد قيمته واحترامه والقانون الزائد إذا فقد احترامه أوجب فقد احترام القوانين اللازمة أيضاً. وكذلك: أن لا يكون القانون مخالفاً للعرف فيما إذا كان هناك مجال لصياغة القانون الموافق للعرف(4).

ويعتقد الإمام الشيرازي إن وجود القانون الإسلامي كنصوص وكليات وجزئيات لا يكفي لوحده لإيجاد الأمن والعدالة بل لا بدّ من «تهيئة الأرضية الصالحة لبقاء القانون الإسلامي وتجذيره حتى يكون جزء الحياة اليومية، لكن من الواضح أن ذلك بشرائطه فإن القانون الإسلامي ليس كشجرة في الفراغ تنمو بنفسها بدون أرضية صالحة. ومن الأرضية الصالحة الاهتمام بحوائج الناس ومشاطرته في الحياة فالفقر والجهل والعزوبة والبطالة أرضية مستعدّة لنمو المناهج اللاأخلاقية وارتكاب الأعمال التخريبية»(5).

عصرنــــــة الفقـــــه

يمتلك الفقه الإسلامي مخزوناً هائلاً من الأدلّة الشرعية القادرة على تدعيم القانون بالكثير من الأحكام والتشريعات المستجدّة، وهذا المخزون التراثي والتاريخي والروائي يمثل استثناءً فريداً وامتيازاً خاصاً لا تمتلكه الشرائع والدساتير الأخرى. ومن هنا فإنه يمكن استخراج أي قانون يحتاجه الإنسان في كل أموره الحيوية الصغيرة والكبيرة الشخصية والاجتماعية. ولكن وكما يعتقد البعض فإن هذا الغنى الفقهي الكبير لم يستطع أن يواجه مشاكل العصر ويتوافق معها، والسبب في ذلك حسب كلام هذا البعض هو عدم وجود تدوين قانوني واضح للفقه الإسلامي يمكن من خلاله الوصول إلى القانون المراد بشكل سريع ومفهوم ويسير. وهنا يُطرح هذا التساؤل هل فعلاً يحتاج الفقه الإسلامي إلى تدوين قانوني وما هي الآثار الإيجابية والسلبية لذلك؟..

أما المؤيدون لتدوين الفقه الإسلامي فإنهم يعتقدون أن الصياغة القانونية للفقه الإسلامي لا تتناسب مع العصر الحالي وأنّ «تقنين أحكام الشريعة الإسلامية هو الوسيلة الحديثة الآن لتطبيقها، وتقنينها يعني جعلها قانوناً وهذا يتطلّب صياغتها في صورة قواعد عامة مجردة تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع وإلزام الناس بالعمل ككل قانون»(6).

ويعدّد أصحاب هذا الاتجاه مزايا لهذا التقنين منها:

أ / إن التقنين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب.

ب / التقنين تحديد لأبعاد الحكم الشرعي وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان ويستطيع الفقهاء المحدثون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة وهكذا نجد التقنين استكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي.

ج / هذا التقنين يتيسّر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها من المذاهب المختلفة فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية.

د / هذا التقنين يسهّل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام. ويعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالقانون على الاهتداء إلى القاعدة القانونية في يسر وسهولة.

هـ / هذا التقنين يسهّل على الأفراد التعرّف على أحكام الشريعة الإسلامية فلا يتيهون بين الآراء الكثيرة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يعرف راجحها من مرجوحها إلا المتخصّص فيها.

و / عدم تقنين أحكام الشريعة سيدفع حكام المسلمين إلى اقتباس القوانين الأجنبية لتنظيم شؤون الدولة.

ز / يؤدي التقنين إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون وتطبيقها على علاقاتهم الاجتماعية المختلفة(7).

وقد تكون هناك إيجابيات تستحق الدراسة لعملية تقنين الفقه الإسلامي ولكن تظهر هناك بعض السلبيات التي تضع شكوكاً في طريق التدوين، أول هذه الشكوك أن التدوين يغلق باب الاجتهاد عندما يحصر القانون بقاعدة واحدة مدوّنة لا يمكن مناقشتها، وقد قام الفقه الإسلامي وتكوّن وتجدّد على ضرورة الاجتهاد. وكذلك فإن في الفقه الإسلامي قواعد متغيرة تتطابق مع وقائع تختلف حسب الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية والنفسية وقد لا يمكن للقاعدة القانونية أن تتأقلم مع تغير الظروف أحياناً، وهذا يعني جمودها وعدم مرونتها في قبول المستجدّات، وقد يعني كذلك حرفية النص المدوّن والالتزام بما هو مدوّن فقط بينما المهم هو روح القانون لا نصه.

أما ما هو رأي الإمام الشيرازي في عملية تقنين الشريعة وهل يرى صحة ذلك وماذا نستكشف من خلال قراءتنا لـ(الفقه القانون)..؟

يرى سماحته أن تقنين الشريعة على الأحكام الكلية والنصوص الثابتة لا فائدة منه وذلك لعدم وجود الحاجة وأنّ طبيعة القانون الإسلامي وآليته تجعله في غنى عن التقنين والتدوين، وحينئذ «لا قانون أساسي في الإسلام غير نصوص القرآن الكريم والسنّة المطهرة التي لا تقبل التغيير والتبديل مثل: ( وإنّ هذه أُمتكم أمّة واحدة) و( إنّما المؤمنون أخوة) و( أُحلّ الله البيعُ) و( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) و(الناس مسلطون على أموالهم) و(الناس كأسنان المشط سواء). وهذه النصوص مستغنية عن التدوين لعدم الحاجة لتدوينها وجعلها قانوناً أساسياً لأنها موجودة في الكتاب والسنة فجعلها قانوناً أساسياً عبارة عن وضعها في مكان واحد. وأنها أيضاً بين عام ومطلق وما أشبه ولها تخصيصات وتقييدات واستثناءات بالأحكام الثانوية كالاضطرار ولا ضرر وقاعدة الأهم والمهم وما أشبه مما يجعلنا في غنى من التدوين والتقنين».

ويكشف سماحته عن السلبيات التي ترافق عملية التقنين قائلاً: إذا لم يكن نص وكان من الاستنباط فأي حق للدولة في فرض استنباط فقيه أو فقهاء على طول الخط، فإذا مات أولئك الفقهاء جاء فقهاء آخرون فما هو الدليل العقلي أو الشرعي في لزوم اتباع الدولة أو الناس المقلّدين لفقهاء آخرين. نعم من يريد أن يشايع الغرب يبتلي بالخطأ العقلي من جهة وضع القانون كما يبتلي بالخطأ الشرعي من جهة عدم الحاجة إذا كانت نصاً أو الجمود إذا كانت استنباطاً(8). إذن الإمام الشيرازي لا يرى صلاحية تقنين القانون الإسلامي لأن ذلك يعني تقييدها عن المرونة والاجتهاد والتطوّر لذلك «فليس من الحق وضع القانون الأساسي الذي معناه تجميد الاســـتنباط وحـــصره على جــــماعــــة خاصة من الـــفقهاء إلا إذا كان من نصوص الشريعة غير القابلة لمختلف الاستنباطات المستقبلية»(9).

ولكن الإمام الشيرازي لا يرفض عملية التقنين رفضاً مطلقاً وإنما يرفضها على مستوى التقنين التشريعي الذي يندرج ضمن إطار القانون الأساسي. أما التقنين الذي يكون في إطار عملية الاجتهاد وتطبيق الكليات على الجزئيات فإنه يراه مناسباً ومفيداً ولكن بشروط منها أن يكون التقنين من قبل شورى الفقهاء المنتخب من الأمة أو المجالس الاستشارية والحكومية المنتخبة انتخاباً حراً وأن لا يكون لــلتقنيـــن صفة الـــدوام والثبــات بل يحق لمجلس الفقهاء الحالي الاجتهاد فيه وتغييره، وأن يحق لأي مجلس لشورى الفقهاء الذي ينتخب في المستقبل بعد هذا المجلس تغيير هذه التقنينات حسب اجتهاداتهم. لذلك يقول سماحته: لا قوانين تشريعية من صنع البشر عند المسلمين وإنما يصح عندهم القوانين التطبيقية، أي تطبيق كليات الشريعة الإسلامية على الموضوعات كتطبيق كلي لا ضرر على الشيء الفلاني أو تطبيق ( أوفوا بالعقود) على عقد التأمين.

ويطلق سماحته على القوانين التطبيقية لفظة القوانين التأطيرية في قبال القوانين الوضعية التشريعية، حتى تنتفي شبهة جواز الوضع التشريعي لأن الوضع في القانون الإسلامي لا يجوز إلا في القوانين التأطيرية التي تؤطّر الجزئيات والفروع في إطار الأحكام الكلية الثابتة وغير القابلة للتغيير أو التشريع، وذلك «لأنّ القانون على قسمين: القوانين الكلية التي جعلها الشارع وهي لا تتغير ولا تتبدّل إلا بتغير الموضوع أو التغير من القوانين الأولية إلى الثانوية أو بالعكس، والثاني القوانين التأطيرية التي يحدّدها شورى المرجعية بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة مما يستفاد من الكليات الشرعية أو مجلس الوزراء أو مجلس الأمة أو مجلس الأعيان أو أية جهة أخرى لها الصلاحية حسب التطبيقات الزمنية»(10). لذلك يضيف سماحته قائلاً:«إذا وضع شورى الفقهاء قانوناً يمنع الاستيراد للبضاعة الفلانية من خارج بلاد الإسلام وذلك تطبيقاً لقانون لا ضرر ثم شك في حدود البضاعة التي منع استيرادها وقد تبدل فقهاء الشورى فإن الأمر يرجع إلى فقهاء الشورى الجدد وإلى انهم هل يرون تطبيق لا ضرر في كل أقسام تلك البضاعة أو بعض أقسامها»(11).

ولكن الإمام الشيرازي لا يكتفي بهذه الشروط في عملية التقنين التأطيري للموضوعات والجزئيات التي اجتهد فيها فقهاء الشورى، وإنما يضع شروطاً أخرى تندرج في إطار الآية القرآنية: ( يريدُ اللهُ بِكُم اليُسرَ ولا يُريدُ بِكم العُسرَ) حيث يقول سماحته:

الأول: أن تكون القوانين قليلة مهما أمكن فإن طبيعة البشر لا تتحمّل القوانين الكثيرة فيكون تكثير القوانين مدعاة لنقضها وعدم الاعتناء بها.

الثاني: أن تكون القوانين خالية عن القيود والشروط والاستثناءات مهما أمكن.

الثالث: أن لا تكون معقّدة بحيث يكون فهمها في متناول عامة الناس لأن المراد فهمهم وعملهم، ولذا قال سبحانه ( بِلسانٍ عربيٍّّ مبين) ، وقال (ص): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدرِ عقولهم».

الرابع: أن يكون موجز الأسلوب ويسمى في الشريعة بفصل الخطاب.

الخامس: أن يكون وضع القانون حسب الواقع المعاش لا حسب الفرض الممكن.

السادس: أن يضع القانون لمطلق الناس لا لنسبة خاصة من الناس بهذا الشكل المتعارف في الدول.

السابع: أن يكون القانون واضح المعالم والحدود من حيث الأول والآخر والسّعة والضيق.

الثامن: أن يتجنب في القانون ذكر العلل لأنه يوجب التشويش والشك في أنه هل المعيار العلّة أو القانون.

التاسع: تبديل ما يمكن من القوانين العسيرة إلى القوانين اليسيرة فإذا كان بالإمكان وضع القانون على كل من الصورتين لزم وضعه على الصورة اليسيرة.

العاشر: عدم الإقدام في وضع القانون إلا بعد النضج الكامل في ذهن المقنن وذلك بتقليب وجوه الآراء واستعراض التجارب والاستشارة التامة(12).

وأخيراً: فإن قراءة كتاب (الفقه القانون) لا يمكن أن تتم بإسهاب وتفصيل لكثرة القضايا المستجدة والدقيقة المذكورة فيه لهذا لم تكن قراءتنا إلا قراءة موجزة لبعض الكتاب وليس كله. فهناك الكثير من القضايا المهمة التي تطرّق إليها الإمام الشيرازي كقانون العقوبات في الإسلام والقانون الدولي والقضاء وقانون لا ضرر والحقوق والمنازعات، إضافة إلى قضايا أخرى أغنت الفكر الإسلامي والقانوني برؤى واجتهادات عديدة تعبر عن تلك الروح التجديدية التي اصطبغت ملامحها في معظم كتب الإمام الشيرازي. ولا شك فإن هذا الكتاب يعتبر ثروة كبيرة في المكتبة الإسلامية تغني الكثير من الباحثين الإسلاميين وتعينهم على معرفة التطبيقات الحديثة للفقه الإسلامي. ويستفيد منه الأكاديميون للاطلاع على قدرة الشريعة الإسلامية في بناء القانون عبر تلك الصياغة الحضارية والمتطوّرة التي صاغها سماحته في كتابه. ولكن تبقى مشكلة الاصطلاحات الفلسفية والعلمية الموجودة في الكتاب والتي قد تكون عقبة أمام بعض الأكاديميين لذا كان من الضروري التهميش لشرح بعض المصطلحات الخاصة وتوضيحها لتسهيل عملية فهم مضامينه بشكل افضل وأتم.

1 ـ فكرة القانون: دنيس لويد، ص45.

2 ـ الفقه القانون: ص47.

3 ـ المصدر السابق: ص108.

4 ـ المصدر السابق: ص263.

5 ـ المصدر السابق: ص77.

6 ـ مدخل لدراسة القانون: عبد الناصر العطار، ص45.

7 ـ المصدر السابق: ص47.

8 ـ الفقه القانون: الإمام الشيرازي، ص175.

9 ـ المصدر السابق: ص12.

10 ـ المصدر السابق: ص337.

11 ـ المصدر السابق: ص298.

12 ـ المصدر السابق: ص299.