مجلـــة النبــــأ       العددين (23 ـ 24 )       السنــــة الرابعــــة       ربيع الثاني ـ جماد الأول  1419 هـ

العنـــف بين الوسيلـــة و الغـايـــة


مرتضى معاش  mortada@annabaa.org

تتخذ بعض الجماعات أو الحركات من العنف وسيلة للوصول إلى التغيير السياسي أو الاجتماعي أو الحضاري. وهنا إشكاليات يطرحها البعض تتساءل عن مدى قدرة هذه الوسيلة على تحقيق الغاية المنشودة، وعن فعالية هذه الوسيلة في تحقيق هذه الغاية على المستوى البعيد، وعن ما يمكن أن ينتجه العنف من آثار عكسية تلحق أضراراً كبيرة بالغاية إنْ لم تلغِها في معظم الأحيان..! والسؤال المطروح هنا هو هل تبرّر الغاية استخدام العنف لتحقيقها..؟

مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة مبدأ قائم على مقولة تنظر إلى انتهاز الفرص لتحقيق الغايات بأي وسيلة كانت حتى لو كانت هذه الوسيلة تتناقض مع الغاية المنشودة، وبهذا المنهج تصبح الوسيلة أهم من الغاية. وقد تعرضت هذه المقولة إلى الكثير من الانتقادات الدينية والأخلاقية، يقول الإمام الشيرازي:«الغاية تبرّر الوسيلة لا أصل لها في الإسلام، نعم قاعدة الأهم والمهم قاعدة إسلامية وهي قاعدة عقلائية يستعملها العقلاء، فإنه كلّما دار الأمر بين ضررين قدموا الأخف على الأكثر وذلك بخلاف – الغاية تبرّر الوسيلة - فإنها تقدّم الغاية مهما كلف الأمر، وهذه أشبه بالانتهازية والمصلحية والنفعية وهي لا مجال لها في الإسلام»(1). ومن الواضح أن العنف ضرره أكبر بكثير من اللاعنف.

ويرفض علم السياسة هذا باعتبار أن الوسيلة يجب أن تتطابق مع الغاية وتخدمها لا العكس حيث «أن اختيار وسيلة دون أخرى لتحقيق غاية سياسية تؤثر تأثيراً جوهرياً على الغاية المنشودة نفسها وتغيّر من محتواها نفسه إذ ليس من الممكن تحقيق مجتمع الحرية والعدالة باستعمال وسائل قمعية وظالمة، وهذا بدوره يؤدّي إلى رفض نظرية (الغاية تبرّر الوسيلة) لأن إختيار الوسيلة لا يمكن أن ينفصل عن اختيار الغاية لأن الترابط عضوي بينهما»(2).

ولا يقف الإشكال في العنف من ناحية تبرير الوسيلة وخطأ هذا المبدأ بل يتعدّى الإشكال إلى خطورة العنف كوسيلة وسلاح ذي حدّين يمكن أن ينقلب على صاحبه ويقضي عليه. إذ أن العنف هو بحدّ ذاته من الوسائل الخطيرة التي يمكن أن تقضي على الغاية وتحوّلها إلى هامش في طريق الحركة لأن «جوهر فعل العنف نفسه إنما تسيره مقولة الغاية والوسيلة ولكن الغاية محاطة بخطر أن تتجاوزها الوسيلة التي تبرّرها والتي لا يمكن الوصول إليها من دونها، ومن الواضح أن الوسائل المستخدمة للوصول إلى غايات أساسية ترتدي في أغلب الأحيان أهمية بالنسبة إلى عالم المستقبل تفوق الأهمية التي ترتديها الغايات المنشودة»(3). وتنبع خطورة العنف من كونه يتجاوز كل الوسائل الأخرى ويصبح الوسيلة الوحيدة التي تسيطر على السلوك الحركي ومن ثم يستنفذ العنف الغاية ويحتويها ليصبح هو الهدف الأول والأخير، ذلك أن «خطر العنف حتى ولو تحرّك بشكل واع ضمن إطار غير متطرّف يطال أهداف المدى القصير سيكمن على الدوام في أن واقع الوسيلة تغلب الغاية، فإن تحقّق الغايات بشكلٍ سريع لن تكون النتيجة فقط إلحاق الهزيمة بالتحرك كله كذلك إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم السياسي كلّه»(4). والأخطر من ذلك هو ذلك التحول الدراماتيكي الذي يمكن أن يحققه العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة حيث تتحوّل بالتدريج أدوات العنف إلى غايات أساسية للتدمير الذاتي والخارجي فتفقد الجماعة كل قدرة على إعادة التوازن الداخلي والحفاظ على التماسك وبالتالي تفقد سلطتها الداخلية وشرعيتها الشعبية. ومن هنا «ندرك أن العنف نفسه يقود إلى العجز، فحين لا يعود العنف مدعوماً من قبل السلطة نصبح أمام ذلك الانقلاب المعروف حين تصبح الوسائل غاية ذاتها، عند ذلك تصبح الغاية محدّدة من قبل الوسائل ـ وسائل التدمير ـ وتكون النتيجة أن هذه الغاية تؤدي إلى تدمير كل سلطة»(5). وعندما يصبح العنف الذي كان وسيلة هو المحور الوجودي المحرّك للجماعة تفقد الأخيرة مقوّماتها الذاتية وبالتالي تفقد الأسس الشرعية والوجودية التي قامت عليها.

إن الدافع الرئيسي لكثير من الجماعات في إتخاذ العنف كوسيلة لعملية التغيير هو إحداث تغيير سياسي سريع يضمن للجماعة الوصول للسلطة ومن ثم تحقيق غاياتها السياسية أو الدينية أو الآيديولوجية، وهذا الأمر ينطوي على ثغرات جوهرية تقيض مستوى الأداء الذي اجتهدت فيه الحركة حتى ولو كان ناجحاً على مستوى التغيير الآني لكنّه سوف ينقل العنف إلى المراحل البعدية وأحداث تغيير قسري تفرضه على الآخرين لتحقيق غاياتها، الأمر الذي لا تستطيع الطبيعة الإنسانية تحمّله، وحينها تفشل الحركة في تحقيق غاياتها المنشودة. لذلك تفشل أغلب الثورات التي تصل إلى السلطة بالعنف في ترويج مبادئها شعبياً فتتخذ العنف وسيلة مرة أخرى لفرض مبادئها قسراً بعد أن استلذّت بالأسلوب الذي حقَّق لها أحد غاياتها.

آيديولوجيا العنف

لكي تتم معرفة مدى فعالية آلية العنف في إحداث التغيير الجذري الناجع لابدّ من دراسة خصائص العنف كسلوك كلّي لا يتجزأ له خاصية شمولية تستشري في جميع أبعاد الكيان الإنساني. فالعنف ليس مجرّد أداة منفصلة يمكن أن تستخدم كتكتيك مؤقت في بعض الأحيان بل ينطوي الأمر على أبعاد أخرى مختلفة تظهر بأشكال متنوعة، أي أن العنف لا يكتفي بأن يبقى أداة مؤقتة تستعمل في ظروف استثنائية خاصة بل يتحول إلى نظام ثقافي عام يستحوذ على الأجزاء المختلفة التي تشكل البنيان التنظيمي. وبهذا يصبح العنف سلوكاً دائماً يدعمه نظام ثقافي ذاتي تحرّكه فكرة عقائدية مترسّخة في كيانه. وبعبارة موجزة فإن العنف يتغلغل في أعماق النفس البشرية ليبني كيانه الخاص ويصبح هو الفكرة التي تحرّك الإنسان بحيث يتفرع منها سلوكه وثقافته. وإذا تغلغل العنف واستشرى فإنه يفرض خصائصه الذاتية على جميع أجزاء الكيان الحركي.

ومن هنا تنشأ مجموعة من الظواهر تعبِّر عن تكرّس العنف وثباته كسلوك ثقافي متجذّر كالتطرّف والتعصّب والاستبداد والتمحور الذي ينتهي إلى تقديس الفكرة الذاتية وإلغاء الآخر الذي يمثل الرأي الآخر وحينئذ «تمثل الآيدولوجيا في ما تمثل حالة التمحور الذاتي، أي تلك النزعة التي يتراءى فيها لا صوابية أية مقتضيات مخالفة»(6) وهذا العنف الذاتي الذي أصبح سلوكاً ذا أشكال متعددة يفرض نفسه على الآخرين تعبيراً عن التقديس الأعمى لهذه الفكرة ثم يتطوّر فيتحول إلى «إرادة طاغية على صعيد التعايش الدولي الأمر الذي يقود إلى حروب القهر الحضاري المتمثلة بالغزوات العنصرية أو الدينية، ذلك أن الآيديولوجيا بسبب هذا العنصر اللا عقلائي أي التمحور الذاتي تلقى تربة خصبة لدى الجماعات الهامشية المنغلقة»(7).

إن آيديولوجيا العنف تتجه لتشكيل حالة من التقديس الجامح لفكرة العنف والإيمان الذاتي المطلق بمستخدميه ممّا يحوّل المجتمع بأكمله إلى عدو وهمي لهذه الجماعة، وهذا يعني «تفكيك الوحدة الاجتماعية، وما الحروب الأهلية سوى أحد تجلّيات هذه العاهة الماثلة في الآيدولوجيا أعني التمحور الذاتي»(8).

فعندما يتغلغل العنف في أعماق وشرايين الجماعة يسيطر عليها سلوكياً وثقافياً بحيث لا يبقى مجالاً للمنطقية والاعتدال، لأن العنف في جوهره وماهيته يعتمد على أسلوب الإكراه والقسر والاستبداد، فالعنف يسير باتجاه كونه حتمياً غير قابل للتغيير ومقدّساً لا يمكن المناقشة فيه. ولذلك فإن آيديولوجيا العنف هذه القائمة على الحتمية والتقديس المطلقين تجر لإفراز مجموعة من أنماط السلوك والقيم تعبّر عن مكنون العنف وتأثيراته العميقة. ذلك أن الجماعة التي تمارس العنف وتنغمس فيه إلى حد تقديسه لا ترى من نفسها إلا الوجود الأحق والأفضل إذ لا مجال مع سيطرة وتحكم ثقافة العنف إلى وجود آخر يحمل توجهات أخرى، فمع السيطرة المطلقة لآيديولوجية العنف وافتقاد التعدّد والتنوّع تتوسع دوائر الانعزال والاستبداد والانشقاق والقمع، والحقيقة التي بينتها التجارب التي مرَّت بها الحركات ذات الطابع العنيف هو «التجمُّد وتنظيم أنفسهم في منظمات صارمة لا تطيق التنوّع في صفوفها وهذا البعد العنيف عن التسامح واحتمال التنوّع والاختلاف في الاجتهاد هو السبب المزمن لوقوع الانشقاقات داخل الحركات الثورية»(9).

ومع تداوم آيديولوجيا العنف واستمرارها في افراز تلك السلبيات ينمو جسم العنف وتكبر دواماته بشكل تصاعدي. ومع السيطرة المطلقة للعنف تختفي دعوات العقل والاصلاح وتبرز عناصر الفساد والاستغلال. إن آيديولوجيا العنف يمكن لها أن تحدث تغييراً سياسياً على مستوى السلطة أو تفجّر صراعاً دموياً بين المعارضة والسلطة، ولكن هل هو هذا التغيير المطلوب الذي يحقّق الارهاصات الحضارية على المستوى البعيد المدى..؟ ولكي نستطيع أن نستطلع الإجابة ونفهم التأثيرات السلبية للعنف كأسلوب وآيديولوجيا نذكر هنا مؤشراً قد يعطينا بعض الإجابات: فقد «تبنت جماعة المسلمين ـ التكفير والهجرة ـ الدعوة إلى الله وإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الاعتزال والهجرة ثم استخدام العنف وتبنّت مقولات جاهلية المجتمعات القائمة بتغييرها إن من لا يدخل جماعة المسلمين فهو كافر إذا كان قد بلغه الأمر ولم يصدع به. واختفت الجماعة بعد إعدام قائدها شكري مصطفى وأربعة من رفاقه إثر اختطافها وقتلها الشيخ حسين الذهبي وزير الاوقاف عام 1977. وحين بدت بوادر الانشقاق على الجماعة تلوح في الأفق تصدّت لها الجماعة بعنف شديد أدى إلى إراقة الدماء واستخدمت امكانياتها في مطاردة المنشقين والمناوئين لها في كافة أرجاء البلاد»(10).

آثار العنف

إن تتبّع المردودات التي يولّدها العنف عبر التقصّي الميداني لمخلفاته والتفحص العملي لآثاره الجانبية يوفّر مجالاً عملياً أكبر لفهم آلية العنف ومدى فاعليته في إحداث التغيير الواقـــعي، بل ويــــعطينا ايضاً إستنتاجات تحليلية توفّر الدعم اللازم لقراءة شرعيته وعدمها، وقراءة أبعاده الفكرية وجذورها.

ومشكلة بعض دعاة العنف أنهم لا يقرأون ما وراء العنف ولا يتتبّعون آثاره المستقبلية، وهذا يعني أن العنف عندهم هو الغاية بذاتها الساكنة في اللاوعي مع غض النظر عن كونها وسيلة لها المخلّفات السلبية التي يجب حينئذ استبدالها بوسيلة أخرى. ولكن استقصاء آثار العنف يمكن أن يضفي بعض الواقعية ومن ثم يعطي القدرة على فهم منهجية العنف فهماً تحليلياً موضوعياً.

الآثار البعيدة المدى

تهدف الجماعة التي تستخدم أسلوب العنف إلى إيجاد تغيير سياسي أو اجتماعي سريع، وهذا يرجع إلى التذمّر الشديد التي تكنّه هذه الجماعة للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة ويدفعها إلى ذلك إما لعدم رضاها بأسلوب عمل السلطة أو السعي للإنتقام من سلطة مستبدّة قائمة على القمع والاضطهاد. وفي كلتا الحالتين فإن العنف هنا وسيلة لإيجاد تغيير فوري يخدم أهداف الجماعة على المستوى القصير؛ وبعبارة أخرى فان «العنف الذي هو ادواتي في طبيعته يبدو واقعياً بالنظر إلى أنه يكون فعالاً في الوصول إلى الغاية التي من شأنها أن تبرّره، وبما أننا حين نمارس فعلاً ما لا نكون عارفين مسبقاً وعن يقين ما الذي ستكون عليه نتيجة ما نفعل، يمكن للعنف أن يبقى عقلائياً فقط في متابعته لأهداف على المدى القصير. إن تكتيكات العنف والشغب تكون ذات جدوى بالنسبة إلى أهداف المدى القصير، بينما يبدو العنف غير مجد بالنسبة إلى أهداف المدى الطويل»(11). لذلك لا يستطيع العنف إلا أن يحقق نتائج وقتية يتوهّم فيها أصحاب العنف أنهم يحقّقون كل طموحاتهم، ولكن عندما يكتشفون أنهم لا يحقّقون شيئاً تسيطر عليهم حالات اليأس والاحباط والجمود والانعزال الأكثر. فطبيعة العنف وتشكيلته الذاتية تحمل في بذورها الانفعالية والسعي السريع لانجاز شيء ما قد يتجاوز السنن التاريخية التي يجب اجتيازها عبر مراحل طويلة وبعقلانية، لذلك نرى «إن النتائج التي يسفر عنها عمل البشر تتبدّى دائماً منفلتة من رقابة من يقومون بالعمل فإن العنف يحمل في ذاته عنصراً إضافياً تعسّفياً»(12). ولكن المؤثرات التي تضفيها حالات العنف تغري بإستخدام العنف لايجاد حل سريع للمشاكل والأزمات، وحينئذ «إذا نجح العنف أحياناً في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية المطروحة وذلك بالنظر إلى فعاليته الثورية فهذا لا يعني أنه قد نجح بشكل نهائي، إذ لا يمكنه بالنتيجة إلا أن يزيد من حدّة الظروف والأوضاع العامة ولا يلبث مفعوله الذي يعتبر وبشكل خاطئ كنجاح سياسي أن يسقط قناعه ويكشف عن وجهه الحقيقي»(13).

وقد أثبتت الحركة التاريخية للأمم والحضارات أن الأفكار والثقافات تتشكّل في إطار زمني طويل بحيث تنمو ضمن عمر حركي وتاريخي طويل لا يقاس بعمر جيل أو جيلين من عمر البشر بل هو أبعد من ذلك، مما يصعب تغييره فوراً وإنما التغيير يتم بجرعات طويلة المدى هادئة التزريق. ومن هنا فإن الدراسات الاجتماعية أثبتت أن التغيير السريع والعنيف لا يزيد من الأزمات والمشاكل إلا سوءاً.

التغلغل البنيوي

في كثير من الحالات لا ينتهي العنف إلى حد كونه عملاً استثنائياً وتكتيكياً ينتهي بتحقيق الغاية المنشودة، بل يتكامل بنيوياً بحيث يبدأ ببناء مكوناته الثقافية والنفسية الخاصة بحيث يصبح حالة طبيعية تتعايش معها الطبيعة الإنسانية مثل الجسم الذي يصبح فيه المرض أحد أجزائه بعد أن كان أمراً عرضياً وغريباً. وهذا هو من أكثر الآثار تعقيداً التي يتركها العنف في البناء الاجتماعي، ولا شك أن أجيال الحروب هم مثال صارخ على ذلك. فالعنف لا يتمثّل خطورته في كونه فعلاً قائماً على التعسف والارهاب فقط بل يصبح أكثر خطورة عندما يتحول إلى أحد الانماط الطبيعية في السلوك الاجتماعي العام. لذلك «يولد العنف السياسي في البنيان وينمو بشكل متدرّج ومتواصل إلى مستوى أعلى بعد أن يجتاز مرحلة انتقالية متوسطة»(14). وعندما يتجذّر العنف في البنية الاجتماعية يصبح بالإمكان أن يتفجّر في أي وقت تتوفر له الظروف «كما يمكن أن يتصاعد العنف بفظاظة وبشكلٍ متقطع دون المرور بمستويات متوسطة، ويمكن للعنف السياسي أن يقفز مباشرة بتصعيد فجائي دون إنذار متدرج فيشمل جميع المستويات ففي عام 1914م انفجرت الحرب العالمية الأولى دون أن يسبقها نزاعات تحتية صغيرة منذرة»(15) هذا لأن العنف تختمر فيه بذور الانفجار في أي وقت عندما يكون مترسّخاً في البنية الاجتماعية التحتية، بحيث ينشر أساليبه وادواته على مختلف مستويات المجتمع وطبقاته وخاصة على المستوى السياسي في القمّة عندها يصبح العنف أسلوباً منفرداً في معالجة الصراعات والنزاعات، إذ العنف ليس إلاّ ظاهرة تمدّ «جذورها في أسس الوجود السياسي وتستمد ديناميتها من المعطيات الرئيسية والجوهرية التي يقوم عليها كل مجتمع يدعى سياسياً. إن الإرهاب ليس فعلاً منعزلاً وعرضياً إنه نسق عنف ينزل من رأس البناء الاجتماعي والسياسي كما يطلع من قاعدته»(16).

أما الجماعة التي تستخدم العنف بحيث يكون أسلوبها الرئيس فان الأمر فيها أوضح، إذ يخترق العنف بنيتها ويصبح متسلّطاً على كافة الانشطة، من أدبياتها وافكارها وعلاقاتها السياسية وتعاملها الاجتماعي إلى فهمها ورؤيتها للواقع الخارجي. فيكون العنف اللغة التي تخاطب بها الجماعة العالم الخارجي، ويكون العنف هو المنظار الذي يرسم لهذه الجماعة حقائقها ورؤاها الخاصة بها.. وهكذا جماعة التي لا تتصرّف إلاّ ضمن ايحاءاتها الذاتية النابعة من بنيتها يكون من الطبيعي أن العنف هو اللغة التي يتخاطب بها أفراد الجماعة فيما بينهم لذلك يكثر التصدع والانشقاق في هكذا جماعات.

ولا شكّ فإن التأثير البنيوي الذي يخلّفه العنف هو من الخطر بحيث يجعل المجتمع كله على حافة الانفجار في أي وقت. ومشكلة استخدام العنف كأداة تغييرية كإستثناء في بعض الأوقات هو أنه من يضمن أن لا يبقى العنف جاثماً في الأوكار منتظراً فريسته، فقد يترسّخ الاستثناء ويصبح هو القاعدة.

الرأي العام

تحاول بعض الجماعات أن تجعل من العنف وسيلة لإسماع الرأي العام قضيتهم وإثارة مظلوميتهم، ذلك أن العنف يحمل في رسالته طابعاً مثيراً وجالباً للأنظار بعد أن يعتقد مستخدموه أنهم لا يستطيعون إيصال أصواتهم إلاّ بهذا الأسلوب. ومن هنا فإن العنف «لا يعزز من شأن القضايا ولا من شأن التاريخ ولا من شأن الثورات ولكن بإمكانه أن يفيد بإضفاء طابع درامي على المطالب وإيصالها إلى الرأي العام لافتاً نظره إليها»(17). هذا من جهة، ومن جهة أخرى يهدف أسلوب العنف إلى زعزعة السلطة عبر زرع الرعب والخوف، لذلك فإن «الفعل الإرهابي يعد رسالة موجّهة إلى الآخرين والهدف الأساسي منه إحداث أثر نفسي سلبي يتمثل في حالة الخوف والقلق والرعب والتوتر لدى المستهدفين حيث يمكن في إطارها التأثير على توجهاتهم وسياساتهم»(18). ولكن التساؤل الذي يتردّد في الأذهان هو أنه ما الأثر الذي يتركه العنف في الرأي العام هل هو إيجابي أم سلبي!؟ وهذا الأمر يعتمد على معرفة ماهية الرأي العام والعناصر التي يتشكّل منها. فالرأي العام هو «اتجاه أغلبية الناس في مجتمع ما اتجاهاً موحّداً ازاء القضايا التي تؤثر في المجتمع أو تهمّه،ومن شأن الرأي العام إذا ما عبر عن نفسه أن يناصر أو يخذل قضية ما، وكثيراً ما يكون قوّة موجهة للسلطات الحاكمة، ومن أدوات التأثير في الرأي العام وحدة الثقافة والتوجيه والعلاقات العامة ووسائل الاعلام المختلفة»(19). وبما أن العنف له خاصية القسوة والرعب فإنه يترك في أغلب الأحيان أثراً سلبياً في نفوس الناس، لأن إثارة ظلامة القضية ومظلومية القائمين به عبر العنف لا يمكن أن يعطي انطباعاً ايجابياً بقدر ما يعطي انطباعاً سلبياً عن القضية التي تحاول الجماعة أن توجه الرأي العام نحوها، وإن التفجير الصارخ بهذا الأسلوب الحدّي قد يقود الرأي العام بالتأييد إلى المعسكر الآخر. وهذا يعني أن آلية الرأي العام لا تتجاوب مع الأساليب التي تنطوي على الأفعال الخشنة والدامية والصدامية، إذ أن «كل فعل عنف يترك أثر خوف وفزع في نفوس الناس ويكون عميقاً بنسبة ما يكون العمل مثيراً أو شنيعاً وبنسبة ما تكون الضحية ذا وزن اجتماعي أو مكانة ســـياسية مرموقــــة، ويتحوّل انـــعكاسات هذا العمل إلى حالة عنف شائعة تطال عدداً كبيراً من الأفراد الذي يجدون أنفسهم معنيين بها»(20).

وقد يتحوّل العنف إلى سلاح ضدّ مستخدميه عندما يستطيع المعسكر الآخر أن يستثير الرأي العام ضدّه بتأثيرات وسائل الإعلام التي يمتلكها لأن ديناميكية الرأي العام لا تتحرّك فقط في إطار إثارة القضية بشكل عنيف وإنما يعتمد إستثمار قوّة الرأي العام في التكامل الناجح مع وسائل الإعلام. وهذا الأمر لا يتناسق عادة مع تكتيك العنف الذي يفتقد إلى الدعم الإعلامي الذي تمتلك وسائله السلطات. أضف إلى ذلك أن طبيعة العنف الذي يعتمد على العمل السري الغامض والمجهول تتناقض مع طبيعة وسائل الإعلام وعلنيتها وتعاملها مع الواضح والمعلن. وعلى فرض حياد وسائل الإعلام في بعض المناطق فإنها لا تتناول قضايا العنف إلا ضمن إطار الخبر فقط مع عدم ذكر خلفياته وجوانبه. وهذا يمكن أن يضر بالقضية أكثر بتعريضها للتشويه الذي ترسمه وسائل الإعلام الموجهة أو الخاضعة لتأثيرات مراكز الضغط المالي والسياسي. وقد استفاد اليهود في تشويه القضية الفلسطينية من عمليات العنف التي كانت المنظمات الفلسطينية تقوم بها عبر تأليب الرأي العام ضدّ الفلسطينيين واستدرار المظلومية لصالحهم، وبالتالي فإن حوادث العنف لم تخدم القضية الفلسطينية بقدر ما خدمت الجانب الآخر عندما كان للرأي العام رأي آخر لا يتفق مع أصحاب القضية لضراوة العنف وآثاره السلبية.

نعم، كل ما يستطيع العنف أن يفعله هنا هو أن يثير الرعب والفزع ولكنه لا يستطيع أن يروّج للمبادئ والقيم، لأن القيم والمبادئ السامية التي ترنو إليها كل نفس إنسانية لا تترعرع وتزهر إلا في ضوء الأمن والسلام. ولا يمكن استقطاب الرأي العام إلا عندما تتوغّل المبادئ والقيم إلى أعماق الناس معبرة عن ظلامة القضية ورسالتها السلمية. وفي الآية القرآنية: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران: 159).

العنف المضاد

تعتمد آلية العنف كما قلنا سابقاً على إثارة الخوف والرعب لدى المعسكر الآخر عادة ومن ثم تفتيته والقضاء عليه. ولكن الرعب الذي يثيره العنف لا يحقّق الأهداف المرجوّة غالباً لأنه لا يقضي عليه بل يستفزه نحو اتخاذ رد فعل أعنف يدافع فيه عن كيانه لأنه صراع بين البقاء والزوال، خصوصاً وأن الجانب الآخر قد يملك امكانيات أكبر تعطيه القدرة على القضاء عليهم بالإضافة إلى أن السلطات تستفيد من عنف الجماعات في تحشيد الشرعية والقانونية لقمعها والقضاء عليها. وما أكثر الجماعات التي تحطمت تحت مطرقة العنف الذي تحوّل إلى سلاح ضدها استثمره الطرف الآخر لتصفيتها. وعندما يتحوّل الصراع السياسي والاجتماعي إلى لعبة بين السلطة والمعارضة فإنّ هذا الأمر يقود نحو تصعيد عنيف لا يمكن إيقافه بسهولة، لأن العنف يثير قسوة الانتقام على أرض يسيطر عليها الرعب ولا تعرف للثقة والسلام معنى. فالعنف «وجه مخدّر سريع الزوال يحتوي على بذور تفجّر النظام السياسي والاجتماعي في أقرب فرصة ممكنة فالعنف يدعو إلى العنف المضاد»(21).

وفي بعض الأحيان يعمد النظام الحاكم إلى إثارة العنف لاصطياد المعارضة في لعبة العنف المضاد من أجل القضاء عليها وتصفيتها بصورة قانونية أو تشويه صورتها ومبادئها بعد أن تلطخها بالدماء. وهناك «ثمة مقولة شائعة مفادها أن (العنف يولّد العنف) فأي نظام سياسي لا يمكن أن يتهاون كثيراً بشأن أعمال العنف غير الرسمية التي تشكّل تحدياً له وفي ظل هذه الحالة يكون النظام مستعداً للانخراط في ممارسة العنف الرسمي إلى نطاق واسع»(22). إن أكبر خسارة تتكبدها الجماعات ذات الطابع العنيف هو دخولها في لعبة العنف والعنف المضاد المتصاعد بوتيرة حادّة مما يعجل بانتهائها وتصفية وجودها التنظيمي والسياسي والرسمي. لذلك فقدت إحدى الحركات قائدها المؤسِّس في عملية عنف مضاد قام بها النظام الحاكم رداً على عمليات اغتيال قام بها الجهاز السري الخاص بها، لذلك فإن «الضربات المتتالية التي تعرض لها النظام الخاص بسبب عمليات العنف التي قام بها من قبل السلطة السياسية في مراحل تاريخية مختلفة قد عرّضت الحركة إلى كثير من المحن والأزمات»(23).

العنف أولاً وأخيراً

إنّ الاتجاه المتصاعد للعنف حسب خصائصه الذاتية لا يترك مجالاً لأي استراحة يمكن أن تكون منفذاً لدخول السلم وحصوله على فرصة لإحلال الهدوء وحل المشاكل بالطرق السلمية. لذلك فان الجماعة التي تستخدم العنف كتكتيك مؤقت في حركة التغيير لا تستطيع عادة أن تتخلّص من عقدة العنف الذي تغلغل بنيوياً - كما ذكرنا ذلك سابقاً - فالأفعال الإنسانية تبقى آثارها وتنطبع ملامحها بحيث تحفر مميزاتها على السلوك الفردي والعام، فليس هناك انفصام فعلي بل هو تداخل ينفذ إلى أعماق النظام السلوكي الفردي والاجتماعي، ومن هنا فإن «ممارسة العنف مثل كل فعل آخر من شأنها أن تغير العالم لكن التبدّل الأكثر رجحاناً سيكون تبدلاً في إتجاه عالم أكثر عنفاً»(24) فالعنف يصبح ممارسة يومية لاغنى عنها يسيطر على كافة نشاطات الجماعة، وبما أن العنف والسلم فعلان متضادان فإنهما لا يجتمعان على صعيد فعلين منفصلين ولا على صعيد التجزء والتركيب حيث لا حالة ثالثة تتشكّل بينهما أو من كلاهما - على سبيل المثال ليس هناك حالة ثالثة بين الصدق والكذب - وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع): «لا يجتمع العنف والرفق»(25).

إن «خطر العنف يتمثّل أولاً: في خطر الاستعمال الواسع للعنف المؤدّي في النهاية إلى تغليظ قلوب الذين يستعملونه وإصابتهم بالتلبّد الحسي أزاء بعض الظروف والحالات التي يمكن حسمها باللطف واللباقة بدلاً من القوّة»(26). ومن هنا فإن استخدام العنف يترك أثراً سلبياً على الحركة التغييرية وهو عدم قدرتها على استبدال العنف بالسلم في الوقت المناسب، إذ «أن القبول بحتمية العنف يقود إلى إستعمال العنف حتى في الحالات التي يمكن أن تفلح في حلّها الوسائل السلمية»(27).

المكاسب والخسائر

إذا كان استعمال العنف هو استعمال قائم على كونه مجرّد تكتيك وأداة للوصول إلى الهدف وليس هو الهدف بحدِّ ذاته، فإنه يجب حساب المكاسب التي يحصدها العنف وهل أنها أكثر من الخسائر التي يجنيها..!

عملية المحاسبة يجب أن لا تتم على ضوء المنافع الشخصية للجماعة أو قادتها، إذ المفروض أن الكلام في أثر العنف على الحركة التغييرية ذات الأبعاد الحضارية أوالدينية أو الاجتماعية. إن نظرة على واقع ما خلفه العنف من آثار يوحي بوجود خسائر كبيرة نالت تلك الجماعات تفوق بكثير ما يتوهّم أنه مكاسب، أهمها أنها تخسر وجودها الرسمي واعتبارها العرفي والجماهيري. نعم «إن بإمكان العنف أن يدمّر السلطة دائماً فمن فوهة البندقية تنبع أكثر القيادات فاعلية مسفرة عن أكثر أشكال الطاعة كمالاً، أما ما لا يمكنه أن ينبع من فوهة البندقية فهو السلطة. إن إحلال العنف محل السلطة قد يحقق النصر لكن الثمن يكون مرتفعاً جداً لأن من يدفعه لا يكون المهزوم وحده بل يدفعه كذلك الطرف المنتصر وعلى حساب سلطته الخاصة»(28). فالعنف ليس إلا استنزاف غير مجدي يشلُّ الحركة ويقضي على إمكانياتها ويزعزع الروح المعنوية للأفراد إنْ لم يقضِ على وجودها الخارجي. وفي بعض الأحيان فإن ما يخلّفه العنف أكبر من أن يعد من الخسائر فكلمة عنيفة أو موقف حاد أو عملية مسلحة كفيلة بإشعال أزمة سياسية أو اجتماعية أو حرب ضروس، «إن منظمة الكف الأسود الصربية قد قتلت ولي عهد النمسا وزوجته في سيراييفو فكان لهذا العمل نتائج رهيبة وفائقة الحد، أن جرّ الويل على أكثر دول العالم وأدّى إلى عشرة ملايين قتيل»(29).

إنّ من خواص العنف أنه لا يخضع إلى حسابات الربح والخسارة أو النجاح والفشل، لأنه موقف انفعالي خاضع لظروف نفسية تحرّكها دوافع الانتقام أو الاحباط أو أنه موقف آيديولوجي يعتمد على تقديس الفكرة لنفسها. ومع هذه الأرضية في استخدام العنف فإنه يمثّل الخسارة من الوهلة الأولى إذ أنه ليس عملاً منظّماً خاضعاً لحسابات منطقية في أغلب الأحيان وليس مناورة سياسية قادرة على استثمار الظروف لخدمة القضية، والحال أن «النصر الحقيقي هو إجبار العدو على التخلّي عن مخططاته بأقل تكاليف ممكنة»(30).

وقد قال أمير المؤمنين (ع): «لا عيشَ لمن لا رفق له»، ويقول الإمام الشيرازي: «إن السّلام أحمد عاقبة وأسرع في الوصول إلى الهدف، السلم والسلام والمسالمة أصول توجب تقدّم المسالم بينما غير المسالم والعنيف دائماً يظل متأخراً»(31).

ممارسة اللاعنف

يقابل ويضاد كلمة العنف في الاستعمال اللغوي والاصطلاحي كلمة اللاعنف وقد وردت هذه الكلمة بلفظها في مجموعة من الروايات منها الرواية المذكورة «عن أمير المؤمنين عندما بعث مصدقاً من الكوفة إلى باديتها.. فإذا أتيت ماله لا تدخله إلا بإذنه.. فقل يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك فإن أَذِنَ لك فلا تدخله دخول متسلّط عليه فيه ولا عنف به»(32). ومنها الرواية المروية عن رسول الله (ص) والإمام جعفر الصادق (ع): «من علامات المؤمن اللاعنف»(33).

ويرادف كلمة اللاعنف كما هو مذكور في الروايات الشريفة وقواميس اللغة كلمة الرفق، فعن الإمام محمد الباقر (ع): «إن الله رفيق يحبّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(34). وقال في النهاية: «الرفق لين الجانب وهو خلاف العنف».

ومن خلال مجموعة الروايات الواردة في مدح الرفق واللاعنف نستنتج أن اللاعنف هو أقدر على تحقيق التغيير الايجابي السليم وأكثر فاعلية في حصد المكاسب وأقل استنزافاً للإمكانات والموارد البشرية والنفسية واعمق تاريخياً وثقافياً في ترسيخ المبادئ والقيم، يقول أمير المؤمنين (ع): «عليك بالرفق فانه مفتاح الصواب وسجية أولي الألباب.. أفضل الناس أعملهم بالرفق.. بالرفق تدرك المقاصد.. الرفق يغلّ حدّ المخالفة.. أرفق توفق.. لِن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك.. بالرفق تهون الصعاب.. من استعمل الرفق لان له الشديد.. الرفق في المطالب يسهّل الأسباب»(35).

إن أهم هدف يحققه اللاعنف هو قدرته على احتواء العدو وتليينه بينما العنف يثيره ويجعله أكثر قسوة، ذلك «أن الخصم في فلسفة اللاعنف ليس عدوّاً يجب إزالته من الوجود إنما هو إنسان يجب اخضاعه لهزّة شعورية إنسانية تفتح عيونه» ومن هنا فإن العنف يعتمد على قوّة الروح لمواجهة بطش الجسد إذ «أن اللاعنف يختزن قوة معنوية تجبر الخصم على التفكير والتساؤل حول صحة أعماله»، والذي يدفع هذه الفلسفة إلى نبذ العنف كطريقة في مواجهة العنف، إن العنف يغلق أبواب الروح ويغلظ القلوب فلا تعد تستمع إلى إشارات الضمير وهمسات القلوب، بينما اللاعنف موقف يتعامل مع العدو «موقف الشفقة عليه لا موقف العداء له، ويقول فينوباف: إن ميدان معركة اللاعنف هو في قلب الإنسان»(36). ومن كلام للنبي عيسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام): «قيل لكم أحبّوا أصدقاءكم ولكن ذلك ليس بمهم فإن العشارين أيضاً يحبون أصدقاءهم وإنما أقول لكم أحبوا أعداءكم»، ويقول الإمام الشيرازي معلّقاً على هذا الكلام: «إن الظاهر من كلام عيسى (ع) أن السبب لا يرجع إلى نفع العدو بمثل ما يرجع بنفع الإنسان نفسه فإن الإنسان الذي يحب عدوه يقوم بوصله ومواصلته وذلك ما يسبّب رجوع العدو عن عداوته»(37).

إن إتخاذ العنف وسيلة لتحقيق الغايات التغييرية يمكن أن يقود إلى سلسلة من الأعمال العنيفة المتصاعدة واختفاء لغة الحوار والعقل، ولكن اللا عنف يرسّخ لغة العقل والمنافسة الهادئة بحيث يمكن أن يقطع معظم أعمال الانتقام والمقابلة بالمثل «إذ بذلك يكون ـ اللاعنف ـ الوسيلة الوحيدة لقطع سلسلة العنف، لأن الرّد على العنف بالعنف يولّد أزمات لاتنتهي وإذا كان العنف يدفع الخصم لمزيد من الشر فإن اللاعنف يحرّره، وكان بوذا يقول: «ليس بالشر وإنما بالخير نوقفه»(38).

ويعتقد البعض أن ممارسة اللاعنف هو استسلام ذليل نابع من موقف الضعف والخوف وبالتالي فإن العنف هو موقف القوة والشجاعة فقط. ولكن الطبيعة الإنسانية التي تتكوّن من جانبين انفعالي وعقلاني تثبت عكس ذلك، فعندما لا يستطيع الإنسان أن يعالج موقفاً ما برويّة وتعقّل ويصاب بالعجز والوهن تنفجر الحالة الانفعالية عنده على شكل فعل عنيف كرد دفاعي يعطيه شعوراً وهمياً بالقوّة والشجاعة أي أن «العنف ما هو إلاّ قناع لضعف حقيقي وإن يكن يعيشه المتسلّطون أحياناً بشكل لا واع»(39). وفي الرواية المروية عن رسول الله (ص) أنه قال: «إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق له». إن اللاعنف عمل يتطلب الكثير من الصبر والتحمّل والتعقّل قبل الإقدام على أي عمل لذلك «كثيراً ما يختلط بين اللاعنف والسلبية والاستسلام، لكن الحقيقة غير ذلك فاللاعنف فعل بطولي يفترض السيطرة التامة على الذات واعلان العصيان المدني وعدم التعاون مع السلطات الحاكمة والاضراب..»(40) فالشجاعة الحقيقية هي الشجاعة التي تتطلّب صموداً نفسياً قوياً أمام الانفعالات التي تثيرها ظروف الانتقام والقمع والثأر، فبقدر إرتجالية العنف فإن عنف يحمل في طياته قوّة التفكير والحلم والقدرة على إدارة الازمة بحكمة وبصيرة لأنه «فعل بعيد عن العفوية ويرتكز على التفكير العميق والتحضير الدقيق، إنه فعل إيجابي يتطلّب الشجاعة المعنوية واستبسال الشهداء. إن السلبية التي تتضمنها كلمة اللاعنف ما هي إلا شرك لغوي فاعمال المناضلين السلميين كلها ايجابية فالذين يقدمون حياتهم على مذبح العدالة إنما يقدمون دروساً تربوية وقوة أدبية لخلاص البشر من الشر»(41).

واللاعنف هي الحالة الوسطية بين العنف والاستسلام، لذا فإن ممارسته هي قمّة الاعتدال والقدرة على التحكم في الأمور. ومع أن عنف يتطلّب استقامة نفسية وحركية طويلة المدى فانه أكثر قدرة على تحقيق معطيات التغيير السلمي السليم. أما الذين يتحرّكون وفق دوافع الشعور بالظلم والاضطهاد وجرح الكرامة وافتقاد العزّة فليتأمّلوا قليلاً في ممارسة العنف ويستبصروا بنتائجه قبل أن يقعوا في دوامته، فالعزّة والكرامة والعدل يمكن أن تصبح في ذاكرة التاريخ لو تم التورّط في لعبة العنف، وقد أجاب عقيل ابن أبي طالب معاوية ـ لما قال له أن فيكم يا بني هاشم ليناً ـ قائلاً له: «أجل إن فينا لليناً من غير ضعف وعزّاً من غير عنف وإن لينكم يا معاوية غدر وسلمكم كفر».

وبين العنف واللاعنف يبقى الحد الفاصل في تقرير مصير الحركة الحضارية فأما اختيار العنف من أجل نصر سريع وانتقام انفعالي وتلطيخ مبادئ الحركة بدماء بريئة ذهبت اعتباطاً تبقى مكتوبة في تاريخها، أو اختيار اللاعنف مع صبر طويل والحفاظ على سمعة الحركة لتبقى مدّاً سامياً يهدر على المستقبل خالداً بمبادئه كما خلّدت سيرة الرسول (ص) وأصبحت مجداً تفتخر به الإنسانية الباحثة عن الأمن والعدل والتعايش السلمي.

إن حركة اللاعنف حركة تغييرية شاملة باتجاه المستقبل لبناء مستقبل خال من الدموية والانتقام قائمٌ على العدالة والحب بينما العنف حركة تعيش حاضرها وهي تنبش بتداعيات الماضي.

1 ـ الفقه المسائل المتجددة: الإمام الشيرازي ص215.

2 ـ موسوعة السياسة: المجلّد الرابع ص324.

3 ـ في العنف: حنة ارندت ص6.

4 ـ المصدر السابق: ص73.

5 ـ المصدر السابق: ص49.

6 ـ الموسوعة الفلسفية: ص164.

7 ـ المصدر السابق: ص164.

8 ـ المصدر السابق: ص164.

9 ـ مجلة عالم الفكر: المجلد الخامس/ العدد الثالث ص151.

10 ـ الثائرون: رفعت سيد أحمد ص31.

11 ـ في العنف: ص72.

12 ـ المصدر السابق: ص6.

13 ـ الإرهاب السياسي: ص12.

14 ـ الحروب والحضارات: ترجمة أحمد عبدالكريم ص394.

15 ـ المصدر السابق: ص394.

16 ـ الإرهاب السياسي: ص131.

17 ـ في العنف: ص73.

18 ـ ظاهرة العنف السياسي: ص53.

19 ـ موسوعة السياسة: المجلد الثاني ص803.

20 ـ الإرهاب السياسي: ص79.

21 ـ المصدر السابق: ص12.

22 ـ ظاهرة العنف السياسي: ص96.

23 ـ الإسلام السياسي في مصر: هالة مصطفى ص121.

24 ـ في العنف: حنة ارندت ص73.

25 ـ تصنيف غرر الحكم: ص244.

26 ـ مجلة عالم الفكر: المجلّد الخامس/ العدد الثالث، ص172.

27 ـ المصدر السابق: ص167.

28 ـ في العنف: ص48.

29 ـ الإرهاب السياسي: ص151.

30 ـ الاستراتيجية: ليدل هارت ص94.

31 ـ السبيل إلى انهاض المسلمين: ص147.

32 ـ بحار الأنوار: المجلد 41، ص126.

33 ـ الوصول إلى حكومة واحدة إسلامية: الإمام الشيرازي ص39.

34 ـ بحار الانوار: المجلّد 75/ ص60.

35 ـ تصنيف غرر الحكم: ص243 ـ الصياغة الجديدة: ص595.

36 ـ موسوعة السياسة: المجلد الخامس ص386.

37 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين: ص148.

38 ـ موسوعة السياسة: المجلد الخامس ص387.

39 ـ المصدر السابق: ص386.

40 ـ المصدر السابق: ص385.

41 ـ المصدر السابق: ص387.