خطوات نحو التوازن والاعتدال

فاضل الصفار      [email protected]

لاشك أن الواقعية في النظرة والاستقامة في العمل والموفقية في الأساليب والتكتيكات والنجاح في الأهداف من ثمرات التوازن والاعتدال في الآراء والمواقف.

وليس من السهل اليسير أن يتسم العاملون بالتوازن ما لم يكن سعة الصدر ومرونة التعاطي والتفكير الهادئ رائدهم وصفتهم البارزة في الفكر والعمل.

ولعلّ التجارب العملية للأخوة العاملين تؤكد كم من المعطيات الكبيرة جنوها من الاتصاف في السيرة والتعامل الموزون، وكم من الأهداف الكبيرة والتضحيات الجسيمة أفرط بها التسرع في الآراء والارتجال في المواقف، وكم من الخلافات والانقسامات بين الأخوة والأصدقاء سببها موقف متطرف أو رأي مبالغ فيه أو تصور هو إلى سوء الظن أقرب منه إلى الظن المعتبر.

ولعلّنا جربنا جميعاً على اختلاف مواقفنا وتنوع أدوارنا السلوك المنطقي المعتدل ولمسنا آثاره الإيجابية في تقريب الأهداف البعيدة وتحقيق القريبة وحلّ بعض الأزمات والصراعات في وقت كنا نعدها من المتعذرات.

فحساب الاحتمالات ومعادلة الأرباح والخسائر في كفتي الميزان لدى كل خطوة من خطواتنا يعطينا قدرة أكبر على مشاهدة الأمور بعين البصيرة وتشخيصها بفكر ناضج ثم جني ثمارها..  والعكس صحيح.

إن التوازن في رسم الأهداف يقلبها إلى حقائق قابلة للوجود في الفضاء الخارجي في قبال الإفراط الذي قد يخرج بها من الهدفية إلى الشعار أو التفريط الذي يسف بها إلى قصور النظر وضيق الرؤية وبالتالي التراجع في العمل...

كما أن الاعتدال في التفكير يعطي لحامله قدرة أكبر على التقييم والموازنة في احتواء الأصدقاء وتحييد الأعداء ورفع المشاكل وحل الأزمات..  الأمر الذي يعطيه ضمانة كبيرة بالسلامة وتحقيق النتائج بأكثر الأرباح وأقل التضحيات..  وبالتالي فإن رعاية التعقل والموازين المنطقية والانحياز إلى الحكمة في الفكر والإدارة تعد النقطة المشتركة الــتي تجمع بين الأهـــداف والقدرات وتقرب الصحيح وتبعد الخطأ ويلتقي عندها الجميع.

هناك معاناة حقيقية لدى بعض العاملين - القيادات والقواعد- من مشكلة الإفراط والتفريط في الأمور سواء منهم أو من الآخرين..  ولعل مشكلة التطرف في مستوى الفكر والعمل صعوداً ونزولاً من كبريات الأزمات التي عانت منها البشرية في العديد من الفترات.

كما تعاني منها العديد من المؤسسات والجماعات سواء على الصعيد السياسي والفكري والاجتماعي.

فإن التطرف في الحكم وتقديس الحاكم -على سبيل المثال- ينتهي إلى الظلم والاستبداد الذي أودى ولا زال بحياة الكثيرين كما ألقى بالكثير من المفكرين والمبدعين في قاع السجون.

كما إن عدم رعاية التوازن في القيم والعلاقات الاجتماعية عند بعض الشعوب والجماعات انتهى إلى التمزق والانفلات وبالتالي الضعف ثم الهزيمة.

فإن من يتطرف في حب العشيرة أو حب المال والجاه ويقدمها على المبدأ..  وذلك الذي يقدم مصلحة الصديق على مصلحة الحق والثالث الذي يتسلح بالعنف والقسوة في قبال مخالفيه من أهله وذويه ينتهي إلى المصير السيء في أي موقع كان..

وبالنتيجة فإن الجماعة المتفوقة تلك التي تتمكن أن تجمع بين خطواتها وطموحاتها وأهدافها وممارساتها وهذا من الصعب تحقيقه ما لم يجمعه الاعتدال والوسطية الهادفة فكراً وعملاً..

فإن خير الأمور النمط الأوسط الذي إليه يرجع الغالي وبه يلحق التالي(1)..  لأنه القاعدة الثابتة التي يعود إليها كل من شط عن الصواب أو جمحت به الغريزة أو ثار به الخطأ إلى الإفراط والتفريط.

وفي هذا المجال هناك بعض الخطوات التي ينبغي مراعاتها لنضمن لفكرنا الصحة ولعملنا السلامة ولمنهجنا الفردي والجماعي التوازن والاعتدال.

أولاً:  وقبل كل شيء، ولكي نوفر لأنفسنا فرصة سانحة لوضع الأشياء مواضعها وإصابة الواقع قبل فواته ينبغي التأمل والتخطيط ودراسة الأمور بهدوء وروية والنظر إلى محاسن الأشياء ومساوئها وعواقبها وآثارها وعرضها على جدول الأولويات والأهم والمهم ومعادلة الأرباح والخسائر..  فإن اللبيب من استقبل وجوه الآراء بفكر صائب ونظر العواقب(2)،  كما أن طول التفكير يصلح عواقب التدبير(3)  في نفس الوقت الذي يوازن عندنا معادلة الإدارة واحتواء أطرافها.

ثانياً:  إخضاع الأمور ـ دائماً- إلى المناقشة والتشاور ودراسة مقدماتها ونتائجها قبل الإقدام عليها يقودنا إلى النجاح فإن المشورة في الغالب توفر لنا الوسطية والاعتدال في الفكر والممارسة والبناء عليهما..  قال علي(ع):«اضربوا الرأي ببعض يتولد منه الصواب»(4)  وبعكسه الاستبداد في الرأي والتفرد في الأمور يشذ بنا عن الصحة ويجاوزنا المسلمات ويلقينا في التهم والانقسامات فإن المستبد متهور في الخطأ والغلط(5)  وبالآخرة كثير الزلل وغير محمود العواقب لأنه ينتهي في الأكثر إلى الإفراط والتفريط فيفقد توازنه وتضعف آراؤه ويقوى عليه أعداؤه وينفض عنه أصدقاؤه ويسيء تدبيره يقول علي(ع):«من ساء تدبيره كان هلاكه في تدبيره»(6).

ثالثاً:  النظر المستمر إلى الأهداف العليا في الأفكار والأعمال..  لاشك أن لكل جماعة أهدافاً عليا تعتبر من أسمى ما تنظر إليه وفي سبيلها تبذل التضحيات الجسام إلاّ أنها في بعض الأحيان تغـــفل عنها أو تنساهـــا خاصة مع كثرة الانشغالات وتزاحم المشاكل وضغوطها التي قد تجرّ الأفراد إلى الخروج عن الوسطية فإذا ما تريثوا وطابقوا أفكارهم وأساليبهم مع أهدافهم العليا سيكتشفون مواقع الخلل كما يعرفون درجة الاستقامة والانتظام في معادلة الموازنة بين ما يصح وما لا يصح؛ هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المطابقة المستمرة مع الأهداف يقود الأفراد إلى الانشغال بالمهمات من الأمور والانصراف عن الاهتمام بالهوامش وهذا يضمن للعمل سلامة أكبر في المسيرة وتقدماً ملحوظاً في كسب الآمال والطموحات.

ولعلّ ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين(ع):«إن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم»(7) يؤكد هذه الحقيقة.  ومعلوم أن الإنسان -فرداً كان أو جماعة- إذا واصل همته في طلب الحق وجدّ في عمله سيصله يوماً بلا تردّد فإن من كان مقصده الحق أدركه ولو كان كثير اللبس(8).

رابعاً:  مطابقة الفكر والعمل مع الموازين الشرعية وسيرة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)..  وفي مسيرتهم المثلى ما ملأ كل جوانب الحياة فكراً وعملاً.  وقد عايش الأئمة الأطهار (عليهم السلام)  مختلف الظروف والأحوال السياسية والاجتماعية وتعاملوا معها بطرق وأساليب متوازنة جمعت بين مصالح الدنيا والآخرة وكانت الفضلى في بابها لتكون لنا ولغيرنا النهج القويم الذي يدلنا على الصواب ويرشدنا إلى الحق وبعكس ذلك الابتعاد عن نهجهم وسيرهم (عليهم السلام)  وفي الحديث الشريف:«شرّ الآراء ما خالف الشريعة»(9)  و«خير الأعمال ما أصلح الدين» ولعلّ هذا يفسر لنا بعض الحكمة من ضرورة وجود القدرة ووجوب الإقتداء.

(1)  حديث شريف نقل بتصرف عن البحار:  ج76 ص292.

(2)  تصنيف غرر الحكم عن علي(ع)،  495 ص55.

(3)  المصدر السابق.

(4)  المصدر السابق.

(5)  الغرر:  2، 484.

(6)  المصدر:  354.

(7)  تصنيف الغرر:  68.

(8)  المصدر.

(9)  المصدر