لكي نحل خلافاتنا

مرتضى معاش              mortada@annabaa.org

قام الإسلام ونما على ركائز أساسية وبنى ذاتية تُعتبر المحور الأساسي لقوّته الداخلية حيث إن الإسلام لم يقم على قوى الإكراه و الإجبار، فالتماسك الداخلي المبني على أواصر وعلاقات اجتماعية قويّة هي التي تعطي الروح المحرّكة والمبدعة والمتقدمة للمجتمع الإسلامي ، لذلك قام الإسلام على مباني الأخوّة والتعاون والمحبة والإيثار والعفو والتضحية من أجل الآخرين..

ولكن عندما تسيطر على المجتمع الإسلامي مفاهيم القطيعة والشقاق والتناحر و تضمحل تدريجياً في إطارها المفاهيم الإيجابية، يبدأ المجتمع الإسلامي مرحلة الذوبان والتحلل ويحل التفكّك والتمزّق بدل التماسك وعندها ينتقل إلى مرحلة الانفصال عن أخلاقيات الإسلام ومبانيه ويفتقد روحه التي تغذّيه بالحيوية و الأمل. لذلك يمكن أن نرى الانفصال واضحاً عن روح الإسلام في المعارك الداخلية التي تحكم الساحات الإسلامية فتزرع حالة اليأس في نفوس العاملين وتزيدهم ابتعاداً عن الجماهير. ولكن لماذا القطيعة؟ مع أن الإسلام يؤكّد على الأخوّة والوحدة والاعتصام، ولماذا الصراع والعراك؟ وديننا الإلهي رسم في برنامجه العام روح التفاهم والتعاون.

 فكيف تبدأ المعارك الداخلية وكيف توسّع ولماذا..؟ هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى نشوء الصراعات وتناميها ولكن من أهم هذه الأسباب هو:

1- حب التسلّط والانفراد الذي يستحوذ على الأفراد وخصوصاً القيادات، والمدراء والعاملين الذين يمتلكون مراكز قرار يستطيعون من خلاله أن يتحكّموا بالآخرين. فحبّ التسلّط والاستبداد والتحكّم بالآخرين هو أمر ينبثق من طبيعة الإنسان الغريزية الأنانية، تلك الطبيعة التي تنظر لذاتها كمتفوّق على الآخرين وأنها أحق في أن تنال كلّ شئ وأن تكون فوق الجميع. وكلّما كبرت أنانية الإنسان زاد عنده حب التسلّط وازدراء الآخرين والنظر إليهم بعين الاحتقار.

و المشكلة تنشأ عندما تفوّض الجماعة أو الحركة كلّ أمورها إلى شخص واحد بحيث يمتلك كل القوى والعناصر التي تجعله متحكّماً بالجميع، بحيث يكون رأيه وقراره فوق الجميع وهنا تبدأ المعركة كما وضحته الآية القرآنية:{إنّ الإنسان ليطغى إن رآه استغنى} فينفرط الأفراد و تنشق الجماعة و يتعمّق التناحر. لذلك فإن الوقاية خير من العلاج وهو بترسيخ منهج العمل الجماعي القائم على حكم الأكثرية وأن يكون إصدار القرار بالشورى وأكثرية الآراء حتى لا تتحوّل الجماعة إلى حركة ذات قيادة استبدادية.

ولابدّ من تعميق الأخلاقيات الإسلامية فليس من حقّ الفرد أن يحتقر أخاه لمجرّد أنه أرفع مستوى و أكثر علماً أو أعظم نفوذاً، يقول المعصوم (عليه السلام) ما مضمونه: المسلمون أما أكبر سناً منك فاجعلهم بمنزلة أبيك ، وأما أصغر سناً منك فاجعلهم بمنزلة ابنك، وأما مساوون لك في العمر فاجعلهم بمنزلة أخيك، فبرّ أباك وآس أخاك وارحم ابنك.

2- عدم معرفة أساليب حلّ الاختلافات، فالاختلاف سنّة طبيعية في الحياة، إذ إن كل إنسان يختلف عن الإنسان الآخر في معظم القضايا الجسمية والنفسية والفكرية، والانطباع الذي يمتلكه الإنسان عن الحياة وصور الحياة يتشكّل من مجموعة حوافز ودوافع مختلفة بين فرد و آخر لذلك فإن تصوّر كل إنسان يختلف عن الإنسان الآخر وقد لا يتفقان إلا قليلاً، هذه هي حكمة الخلق والامتحان و التكليف التي تجعل الإنسان مستقلاً ومختارا لكي ينتخب الطريق بنفسه ويصل إلى الحقيقة والحق عبر إرادته لا بإجبار وإكراه الآخرين، وفي الآية القرآنية:{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود: 118). وكون الاختلاف سنة طبيعية، لا يعني الحرب والعراك بل إنه يعني بشكل أعمق تنوّع الاجتهادات وتدفق الأفكار ونمو الإبداع وتحفيز العقل الإنساني على ابتكار الجديد والمتقدّم دائما. ولكن لعدم امتلاك الثقافة اللازمة لمعرفة طبيعة الاختلاف في الإنسان وعدم معرفة أسلوب حل الخلافات يتحوّل الاختلاف من كونه سنة إيجابية إلى معارك متطاحنة مدمّرة. و هناك الكثير من الأصدقاء المتقاربين المتحابين يتحوّلون بين ليلة وضحاها إلى أعداء متقاتلين وذلك لسوء فهم بسيط لم يعرفوا كيف يتفاهمون لحلّه!.

لابدّ أولاً من التريث وعدم إصدار القرار سريعاً فلربما كان ما صدر عن الصديق قد أسيء فهمه ولم يقصد ما فهمه، وفي الفقه هناك قاعدة يمكن أن نطبّقها في هكذا مواقف:(ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد)؛ وقد قال أمير المؤمنين (ع):«ضع أمر أخيك على أحسنه»، و عن الإمام الصادق (ع):«فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولاً وقال لم أقله فصدقه وكذبهم». وإذا كان ما فهمته من أخي و صديقي في العمل صحيحاً فلابدّ أن أتريث أيضاً ولا أصدر قراراً انفعالياً يشوّبه الغضب و العصبية، فأحاول أن أسيطر على إرادتي و انشر الهدوء و السلام في عروق دمائي الثائرة؛ فأبدأ باستعراض أدلّة الطرف الآخر و أدرسها بدقّة وموضوعية فقد يكون هو المصيب وأنا المخطئ وحينها يجب أن أقبل خطأي بكل تواضع و أتنازل عن رأيي وهذه صفات المؤمن الصادق مع ربه ونفسه وإخوانه المؤمنين . ولو كان هو المخطئ ورأيي هو الصحيح فلا يعني هذا إعلان الثورة ضدّه بل لابدّ من الصبر أيضاً ومحاولة إقناعه بالعقل والمنطق والحوار الهادئ  وإذا أصرّ وكابر و عاند فــي رأيه فلابدّ من الـــتزام الهدوء معه ومحاولة استيعابه حتى لا ينفرط من عقد الجماعة.

وقد يكون منهج الشورى هو أفضل منهج يمكن أن يحلّ الاختلافات في داخل المجتمع و الجماعات فعندما يجد كل فرد أن رأيه محترم وأنه شارك في اتخاذ القرار فأنه يلتزم بعقد الجماعة أما إذا كان رأي الفرد لا قيمة له وأنه مجرّد صورة فإنّ هذا يجذّر الصراع و يشجّع على الانفراط خاصّة عندما يدّعي بعض أفراد الجماعة أو الحركة أنهم أقدر على فهم واتخاذ القرار. الشورى بتطبيقها واقعياً تفتح المجال لتفاهم الأفراد جسمياً و نفسياً وفكرياً، وقد قيل:(في البعد جفاء).

3- المصالح الفردية التي يقدّمها الفرد على المصالح العامة، وانتهاز الفرص لكي يستثمر الأوضاع لتحقيق غاياته الشخصية، هي من الأسباب التي تؤدي إلى التنازع والتعارك. فالفرد الذي هو ضمن إطار جماعة أو جماعة في إطار جماعات متقاربة في الفكر والمنهج لابدّ أن يسعى لتحقيق أهداف هذه الجماعة ومصالحها العامة، لأنّه قد تعاقد والتزم بحرية واختيار قوانين الجماعة ومنهجها. وهذا لا ينافي أن للفرد مصالح خاصّة تتوافق وتنسجم مع المصالح العامة ولكن بشرط أن لا تخرق مبادئ الجماعة وأهدافها وتماسكها ووحدتها. وأغلب النزاعات تنشأ من هذه النقطة هو تناقض المصالح الفردية والمصالح الجماعية فأما أن الجماعة لا تستطيع تأمين مصالح الفرد أو تتغاضى عنها أو أن الفرد يرى أن مصالحه الشخصية هي أولى، وفي كلتا الحالتين لابد من معالجة الاختلاف بتروّي وتفاهم وإقناع للوصول إلى نقاط مشتركة ترفع التناقض. وعدم استخدام الحكمة من كلا الطرفين (الفرد أو الجماعة) يفجّر حالة التنازع ويقطع خطوط التواصل بين أفراد الجماعة ويثير هواجس القلق والخوف بينهم خاصة عندما لا تحل المشكلة بموضوعية وإنصاف، و هذا الكلام يجري بين الجماعات المختلفة التي تتناقض وتتقاطع مصالحها الخاصة مع المصالح الاجتماعية العامة.

4- الحق الكامل : يترسّخ التنازع و الشقاق عندما يريد الفرد مع الجماعة أو الجماعة مع الجماعات الأخرى الحق الكامل وعدم التنازل للطرف الآخر، حيث يرى صاحب رؤية الحق الكامل أن كل الحق له وأن تفكيره ورؤيته متطابقة مع الواقع وأن الآخرين على خطأ مهما حدث وحصل. هذه الرؤية الأحادية هي التي خلقت الاستبداد والديكتاتورية كحالة اجتماعية وثقافية وسياسية نعاني منها عقودا طويلة. فمن الذي أعطى لهذا الشخص أو الأشخاص هذا الحق الكامل في امتلاك الفكر أو الرؤيـــة أو الساحة أو الحقيقة؟! أوَليس الفكر الإنساني مجموعة تصورات محدودة بالمكان والزمان وتحتمل الصحة والخطأ ؟.

لا يمكننا حلّ النزاعات إلا عندما نتخلّى عن الأحادية ونتنازل عن غرور الفكر واستبداده، فإذا اختلف الأفراد و الجماعات لابدّ أن يتحلّى الجميع  بالتواضع والتسامح فقد تكون رؤيتي خاطئة فأناقشها بموضوعية أولاً قبل أن أفرضها على الآخرين وحتى إذا لم نصل إلى معرفة الصحيح أو الخطأ نحاول أن نعثر على حل وسط يجمع بين الرأيين و هذا هو منطق العقلاء الذين لا يلجأون إلى النزاع والشقاق مهما حدث. إذن الحق الناقص أو بعض الحق أو الحقيقة النسبية هو منهج الأفراد والجماعات المتقدّمة، و اتخاذ الحلول الوسطى كأسلوب عملي لرفع الخلافات هو السلوك السليم في تقريب وجهات النظر المختلفة وحلّ التناقضات والتباينات التي تواجه الجماعة.

و يمكن أن نلخّص مجموع الخطوات اللازم اتخاذها في حل الاختلافات هكذا:

1/ الشورى منهج أساسي وبنيوي في سلوك الجماعة لاحتواء الأفراد واستيعابهم ضمن أهداف الجماعة ومبادئها.

2/ جلسات الحوار الحر والمناقشات المفتوحة والنقد الصريح البنّاء هي أساليب تقضي على الخلافات قبل وقوعها وترفع إشكاليات الفرد قبل أن تتراكم في نقسه وتنفجر.

3/ حسن الظن بالآخرين، يرفع حالات الشك والريبة وسوء الفهم التي يصاب بها الفرد نتيجة لما يفهمه خطأ من سلوك الآخرين اتجاهه.

4/ رفع التناقضات التي تنشأ بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة.

5/ الحقيقة النسبية أو الحلول الوسطى كمنهج يجب أن تتبعه الجماعة في رؤاها و تقييمها وسلوكها.

6/ التركيز على القواسم المشتركة التي تجمع بين الأفراد والجماعة عند الاختلاف ووضع نقاط التباين جانباً.

و يبقي التنازع والعداء الذي يحكم الجماعات هو المشكلة الأساسية التي تشغل الساحة الإسلامية، فلابدّ أن نعالج خلافاتنا بروح هادئة وموضوعية بعيداً عن القرارات الثائرة والمواقف الحادة التي تفجّر الساحة وتحولها إلى معركة حربية إستنزافية قد لا تنتهي بسرعة..!