علــى شــاطئ الكــوثـــر |
فاضل
الصفار |
هل
جعل الله سبحانه أهل البيت عليهم الصلاة
والسلام قطب رحى الوجود والتوحيد،
وأرواحهم المقدسة أوعية المشيئة الإلهية
فيغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم؟ ولماذا أصبحت
محبّة أهل البيت ومودتهم أعظم أجر للرسالة
{قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في
القربى}(1) ؟،
وكيف صارت محبتهم ميزان الأعمال وملاك
قبولها أو رفضها عند الله سبحانه؟!..
وخصوصاً الصديقة الطاهرة حيث تواتر النقل
من الفريقين بذلك، ونحو ذلك من الأسئلة و
الاستفهامات. والإجابة
على ذلك تستدعي مجالاً أوسع ولكن باختصار
نذكر بعض الإشارات المقتضية ونرجئ
التفصيل إلى مظانه من الكتب الكلامية
فنقول: يستفاد من الأدلّة الواردة بشأنهم
عليهم السلام وخصوصاً السيدة الزهراء (عليها
السلام) إن لهم من المقامات والخصوصيات
مالم يحظ به أحد، وقد كشفت الروايات عن بعض
الخصوصيات الكبيرة للسيدة الزهراء (عليها
السلام) و إشارات إلى بعض مقاماتها
الرفيعة منها: 1/
إنها قطب دائرة الوجود ومحور حركة العالم. ففي
الحديث الشريف عن مولانا الصادق عليه
السلام:«هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها
دارت القرون الأول»(2). إن
للمخلوقات حركة دورانية ذاتية ومستمرّة
تبتدئ من منطلق وتنتهي إليه وهذا أمر
أثبتته علوم الفيزياء والفلك والأحياء،
من أن للموجودات المادية أقطاباً ومحاور
تدور حولها في سيرها الوظيفي .. فالشمس
والقمر والكواكب الأخرى لها دورة خاصة
تدورها والأرض تدور دورتين: محورية حول
مركزها و دورة دائرية حول الشمس.. وهكذا
مياه البحار والمحيطات تتصاعد بخاراً نحو
الطبقات الباردة من الفضاء ثم تعود لتهطل
مطراً إلى مجاريها من جديد.. وهكذا الأشجار
والحيوانات والإنسان أيضا تبتدئ من تراب؛
قال تعالى:{منها خلقناكم وفيها نعيدكم
ومنها نخرجكم تارة أخرى}(3)
وهكذا بالنسبة إلى المادة تتحوّل إلى
الطاقة ثم تعود للتماسك إلى مادة مرّة
أخرى.. هذا في المادّيات وكذلك في
المعنويات يحكم القانون ذاته.. إذ أن لها
مداراً ومركزاً تدور عليه. والحياة
الإنسانية اليوم قائمة على ذلك أيضاً إذ
المجتمع المتديّن يدور على محور الدّين
بمعنى أن الأخذ والعطاء وسائر الأخلاقيات
والآداب والرسوم تجري على محور الدين..
والمجتمع المادي يجري على المادة بل أن
المحور المادي للعالم ينتهي إلى المحور
الأم، والمركز الأصل هو المعنويات لأن
المعنويات هي الغاية للمادة دون العكس. وأهل
البيت عليهم الصلاة والسلام هم محور الكون
والكائنات لأنهم - بإرادة الله تعالى -
السبب والوسائط في إيجاد عالم مبدأً
وغايةً، وكانوا هم الطرق والمجاري التي
أوصل الله سبحانه فيضه إلى الخلق ولعلّ
هذا مفاد الحديث «يا أحمد لولاك لما خلقت
الأفلاك و لولا علي لما خلقتك.. »(4)،
وفي الحديث الوارد عن مولانا صاحب الأمر
عجل الله تعالى فرجه:«نحن صنائع ربنا
والخلق بعد صنائعنا»
(5)
بمعنى أنهم وسائط الفيض الإلهي إلى خلقه
وهذا أمر ممكن، كما أن عزرائيل عليه
السلام واسطة بين الله وبين خلقه في
الإماتة وقبض الأرواح وغيره من الملائكة
واسطة بينه سبحانه وبين خلقه في الرزق
وهكذا. فكذلك هم عليهم السلام الواسطة في
الإيجاد والإعدام ولهم التصرّف في شؤون
الكون إيجاداً وإعداماً.. إذ كما منح الله
سبحانه الإنسان قدرة على الاختيار
والتفكير والعمل والحركة والقيام بشؤونه
كذلك منحهم عليهم السلام القدرة على
التصرّف في أمور الكون ويصبح وقوعه
الخارجي أدلّ دليل عليه وبالنسبة لما
ذكرنا، ومعلوم أن الأمر إذا لم يقف دون
وقوعه محال عقلي أو محذور شرعي يقع في
دائرة الإمكان. فبعد ثبوت إمكانه عقلاً بل
ووقوعه خارجاً بالنسبة إلى الأولياء
والأنبياء والملائكة كما في قصة آصف بن
برخيا مع عرش بلقيس وعيسى
عليه السلام في خلق الطير وإبراء الأكمه
والأبرص وإحياء الموتى وغير ذلك ممّا ذكره
القرآن الكريم.. يصبح الأمر واضحاً، وقد
إستند بعض العلماء إلى العديد من الشواهد
والأدلة لإثباته.. منها ما ورد في الحديث
القدسي في شأن فاطمة عليها الصلاة والسلام:
«..
وبنورها ظهر الوجود من الفاتحة إلى
الخاتمة»(6). والظاهر
أن (باء) بنورها للسببية.. فبسبب نورها ظهر
الوجود من كتم العدم إلى أنوار الوجود. وقالت
السيدة الكبرى سلام الله عليها مبينة
لمقاماتهم في التكوين والتشريع: «نحن
وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه ونحن
حجته في غيبة»(7). وفي
اللغة أن الوسيلة ما يتوصّل به إلى الشيء(8).
فهم عليهم السلام وسيلة في الإيجاد
والوسيلة في الإفاضة بعد الإيجاد بدليل
الإطلاق. ولا يخفى أن ما رُوي عن الحجة عجل
الله تعالى فرجه:«نحن صنائع ربنا والناس
بعد صنائعنا» يشير إلى أن الناس مصنوعون
لهم عليهم السلام بإذن الله وبتفويضه لهم
كما أنهم عليهم السلام مصنوعون لله تعالى
بمعنى أنهم العلّة، فهم يؤثرون في الوجود
في طول إرادة الله وإذنه لا في عرضه. ولعل
هذا البيان يفسّر لنا الروايات العديدة
الواردة بشأنهم عليهم السلام «لولا الحجة
لساخت الأرض بأهلها»(9)،
لأنّ مثل الكون مثل الخيمة وهم عمودها
ومحورها الذي يقوم عليه فإذا ذهبوا عليهم
السلام ساخت الأرض وانهدم الوجود، لذلك لا
تخلو الأرض من حجة إلى يوم القيامة، فهم
عليهم السلام قطب دائرة الإمكان ومركز رحى
الوجود إذ عليهم تدور القرون والأزمان
والخلق والإيجاد بشكل مطلق.. وأما فاطمة
الصديقة عليها السلام فهي المحور لهذا
المحور والمركز لهذا المركز ولعلّه لذلك
ورد «على معرفتها دارت القرون الأولى» كما
ورد «لولا فاطمة ما خلقتكما»(10)،
وفي حديث الكساء «هم فاطمة وأبوها وبعلها
و بنوها». 2/
إنها مخزن المعنويات ومركزها. ويستفاد
من الأدلة الكثيرة أن الله سبحانه وتعالى
جعل الكون خزائن.. حيث قال سبحانه:{و لله
خزائن السموات والأرض}(11)،
إذ جعل للماديات خزائن تعدّ منبعاً
للحقائق المادية.. فالشمس مخزن النور
والحرارة والبحار مخازن المياه والعجائب
والمخلوقات الجبال مخازن المعادن الزهور
مخازن العطور، والأشجار مخازن الثمار، و
الثمار نفسها مخازن الغذاء وهكذا.. {وإن من
شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر
معلوم}(12). فقد
جعل العالم العيني المادّي مضاهياً
للعالم المعنوي الغيبي جعل في الكثير من
مكنوناته مطابقاً لعالم المعنى لأنه أصله
وعلّته وغايته كما ثبت في الحكمة.. ومن
هناك فإن عالم ما فوق المادة كذلك جعله
الله سبحانه مخازن ومنابع للمعنويات..
فالروح مخزن الحياة، والعقل مخزن
التفكير، والقلب مخزن الاعتقاد، والأم
مخزن العاطفة وهكذا.. ومن
مقتضيات الحكمة الإلهية أن يجعل للبشر
مظاهر لعلمه وحكمته ومشيئته تشبيهاً لغير
المحسوس بالمحسوس. فقد جعل الله سبحانه
أنبياءه وأولياءه خزنة علمه ومستودع سرّه
ومعادن حكمته وأوعية مشيئته، ولهذا يرضى
الله لرضاهم ويغضب لغضبهم ويحب ما يحبون
ويكره ما يكرهون. ومن
هنا فلأنها عليها الصلاة والسلام مصدر
المحبة ومخزن العاطفة صارت أماً لرسول
الله إضافة إلى كونها (شعلة الأمل) المضيئة
في حياته (ص) والتي ضمنت استمرار مسيرته
ومنهجه مع أنها منه جسماً كما كان يقول صلى
الله عليه وآله:«فاطمة روحي التي بين جنبي»
وكما كان يقول صلى الله عليه وآله «فاطمة
اُمّ أبيها»، والصديقة الطاهرة عليها
السلام هي اُم الفضائل، و الأم في اللغة
الأصل الذي يرجع إليه وهي عليها السلام
أُم النبي بلحاظ دورها الكبير في حياته
وبعد مماته في إحياء شريعته والدفاع عنها،
وأصل أولاده عليهم الصلاة والسلام فهي أم
أبيها وأم الأئمة المعصومين عليهم السلام
وبالتالي فهي المحققة للغرض من النبوة
والإمامة.. لأنّ أهل البيت عليهم السلام
العلّة الغائية للكون كما في متواتر
الروايات ومنها:«إني ما خلقت سماءً مبنية
ولا أرضاً مدحية ولا قمراً منيراً ولا
شمساً مضيئة ولا فلكاً يدور ولا بحراً
يجري ولا فلكاً يسري إلا لأجلكم». ويدلّ
على كونهم العلّة الغائية للخلق الروايات
العديدة الواردة عن الخاصة والعامة، منها
عن أبي هريرة عن النبي أنه قال:«لما خلق
الله تعالى آدم أبو البشر ونفخ منه من روحه
إلتفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة
أشباح سجداً ركعاً قال آدم: يا رب هل خلقت
أحداً من طين قبلي؟ قال: هؤلاء خمسة من
ولدك لولاهم ما خلقتك.. لولاهم ما خلقت
الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا
السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الإنس
ولا الجن.. يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي بهم
أنجيهم وبهم أهلكهم»(13).
ومن هنا فإنهم أجلّ وأعظم من الكون لأنّ
الغاية أجلّ من المعنى.. في جهة المعنى
والشأن، وإن كان في جهة المادّة الأكبر
وأعظم منها.. ولهذا تجد مثقالاً من الألماس
يقدّر بأغلى من مليون مثقال من التراب أو
الفحم وإن فضل العالم على غير العالم كفضل
النبي على الأمة.. وإن
السماء والأرض والبحار والأشجار وكل ما في
الكون يبكي دماً بقتل الحسين وهكذا.. كل
بحسب شأنه ومقامه على حسب عظمته المعنوية.
فهم عليهم السلام الغاية من التكوين إذ
الكون خلق لأجلهم باعتبارهم قمة الكمال
وأفضل مخلوقات الله على الإطلاق وهم
المحققون لـ(وما خلقت الجن و الإنس إلا
ليعبدون)، وفاطمة عليها السلام شرط أساسي
في تحقق تلك الغاية إذ (لولا فاطمة لما
خلقتكما) «وعليها
دارت القرون الأولى».. ولأن
فاطمة عليها الصلاة و السلام ومن يرتبط
بها بنبوّة أو إمامة مخازن المعنويات
والكمالات صاروا مقتدى الناس وأسوتهم..
يستمدّون منهم مختلف العلوم والمعارف كما
ينهلون منهم الشجاعة والكرم والعاطفة
والطهر والسمو وسائر الفضائل وخصال
الخير، إذ من الواضح أن الإنسان الكامل
يجذب القلوب و يشدّ الأرواح ويسوقها نحو
الكمال.. ولعل هذا يفسّر لنا بعض السّر في
وجوب محبتهم و الإقتداء بهم و الاستنان
بسنتهم عليهم السلام. إذ
أنّ الحب تدور عليه رحى الحياة السعيدة،
فإن الأم والأب يعتنيان بأولادهما،
والطالب يكتسب علمه، والزارع يزرع نتيجة
المحبة.. لذا كان لزاماً على الإنسان أن
ينمّي في نفسه المحبة ويهنو بها ويوجهها
الوجهة الصحيحة لكي لا يشط عن خط نظام
الكون الذي خلق بالحب وللحب. فإن المحبة
كانت وراء إيجاد الكون كما ورد في الحديث
القدسي:«كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف
فخلقت الخلق لكي أعرف»(14).
كما لا يشطّ عن خط الدين الذي هو عبارة عن
الحب في الرواية الشريفة:«و هل الدين إلا
الحب»(15)،
لأنّ الحب والمحبة - في الله و لله و بالله -
هي المحرّك الأكبر نحو الفضائل والالتزام..
والغاية الأكبر وراء هذا العالم وجوداً
وبقاءً هم عليهم السلام لذلك صارت محبتهم
عليهم السلام ومودتهم مركز الولاية
والتشريع والطاعة والغاية من الخلق في نفس
الوقت المحطة التي يأخذ فيه الحب هدفه
ويحقق غايته. لأنّهم أكمل خلقه ذواتاً
وصفاتاً وأكمل خلقه طاعة وحباً.. وأن
المخلوق محبوب لخالقه حيث ذلك مقتضى
الرحمة وقد كتب ربكم على نفسه الرحمة.. صار
من أحبهم فقد أحب الله ومن والاهم فقد والى
الله ومن عاداهم فقد عادى الله.. كما ورد في
حديث الكساء.. «إني ما خلقت سماءً مبنية..»
إلى آخر الحديث الشريف إلا لأجلهم و
محبتهم. و بكلمة قد نقول يمكن أن يقال: إن
العلّة الغائية لخلقتنا هي محبة الأئمة
عليهم السلام ومعرفتهم والعلّة الغائية
لمعرفتهم ومحبتهم هي معرفة الله سبحانه،
إذ هم الأدلاّء على الله وهي الكمال
الأكبر فمعرفتهم طريق الكمال والإكمال
ولعلّ من هنا قال رسول الله صلى الله عليه
وآله:«يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم
.. أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم وعدو
لمن عاداهم ومحب لمن أحبهم..» و خصوصاً
السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها
الصلاة والسلام. و
لا يخفى عليك أن الحب له مرتبتان.. مرتبة
الحب الناقص وهو مجرّد المحبة القلبية
بدون عمل وإتباع، والمرتبة الأكمل هي
المحبة القلبية المقرونة بالعمل والطاعة
والإقتداء، و لعلّ الآية الشريفة التي
حصرت أجر الرسالة (مودة القربى) تعني
المرتبة الأكمل لأنّ المودة في اللغة
المحبة المقرونة بالعمل.. و من هنا فإن كمال الإيمان وكمال الإنسانية بل وكمال الأعمال أيضاً يكمن في الإقتداء بهم والسير على نهجهم وإظهار محبتهم في الأقوال والأعمال. قال تعالى:(إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم)(16). |
(1)
الشورى: 23.
(2)
البحار:
ج43 ص105 حديث 19. (3)
طه:
55. (4)
العوالم:
11/26، ب3،ح1، ط2. (5)
الغيبة
للطوسي 173،ح7،
طبعة طهران. (6)
الخصائص
الفاطمية: ص1. (7)
شرح
نهج البلاغة: ح16، 211. (8)
لسان
العرب: مادة وسل. (9)
البحار:
51، 113، ح6، ب8. (10)
مستدرك
سفينة البحار: 3،334. (11)
المنافقون:
7. (12)
الحجر:
21 راجع في تفصيل ذلك كتب التفسير. (13)
فرائد
السمطين: 1/36. (14)
بحار
الأنوار: 87، 199، ب12،69. (15)
مستدرك
الوسائل: 12، 219، ب14، ح5. (16)
آل
عمران: 31. |