المحرمات الثابتة خارج وقت الحج هي ايضا محرمات اثناء الحج

خاطرة الحج الثامنة عشر

محمود الربيعي

توطئة

الثبات على الايمان والسلوك الرصين

ليس المهم ان تكون مسلما او مؤمنا بل المهم ان تعرف كيف تحافظ على هذا الاسلام الذي تعتنقه وكيف تحافظ على ان يكون الايمان مستقرا ثابتا راسخا في القلب والنفس وان روحك متعلقة بمعانيهما الواسعة العامة والفرعية الخاصة ، وعليه فان من موجبات الاسلام ان تسلم وجهك لله طائعا عابدا موحدا معترفا بما انزل على الرسول حامل الرسالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى اله الاطهار، وان تكون للايمان حافظا وقائما ومجاهدا لنفسك تروضها على الطاعات والعبادات والابتعاد عن المنكرات، فلحرام حرام الى يوم الدين والحلال حلال الى يوم القيامة وهذا ماخط القلم وجاء به محمد عليه افضل الصلاة والسلام وعلى اله الاتقياء الابرار. " انما المؤمنون الذين امنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا باموالهم وانفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون " سورة 49 الحجرات الاية 15.. لذلك فان المحرمات قبل الحج هي محرمات اثناء الحج فالهتان قبيح ومحرم في كل الاوقات وكذا الغيبة والنميمة، والروح الظالمة التي تتعامل بالربا فعلها محرم قبل الحج واثناء الحج وبعد الحج الى يوم الدين، والخمر والميس حرمتان الى جانب بقية المحرمات وكل الكبائر محرمات قبل واثناء الحج وبعده، كما ان القتل يعد جريمة من اكبر الجرائم التي تكبر حدودها بكبر تلك الجريمة ويكون عقابها شديدا وهو من اشد العقوبات.

الصغائر والكبائر

تعرف صغائر الذنوب بمعرفة الكبائر وقد حدد القران الكريم كبائر الذنوب واوجب عليها الحدود الشرعية ومن هذه الكبائر :-

القتل:-  " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا " سورة 17 الاسراء الاية 33.

  والزنا:-  " ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا " سورة 17 الاسراء الاية 32.

والسرقة:- " والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " سورة 5 المائدة الاية 38.

 وشرب الخمر :- " يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " سورة 5 المائدة الاية 90. ويرتكب الانسان الكثير من الذنوب بدون لن يتلتفت الى عظمها

كالربا:-  " واخذهم الربا وقد نهوا عنه واكلهم اموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا اليما : سورة 4 النساء الاية 161.

والغيبة والنميمة والبهتان:-  " ومن يكسب خطيئة او اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا " سورة 4 النساء الاية 112.

والكذب :- " انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بايات الله واولئك هم الكاذبون " سورة 16 النحل الاية 105.

وكل من هذه الذنوب لها قوانينها وظروفها الخاصة  وتتفاوت درجة الحد الشرعي في حدتها حسب مايراه الامام الحاكم وقد يسقط الحد او يتوقف احيانا وقد يباح احيانا اخرى وسنبين ذلك فيما بعد.

فاما قتل النفس المحترمة بعدوان فيصار اليه بمعاقبة القاتل وحديثنا هذا في عقوبة الدنيا وليست عقوبة الاخرة، وقد يكون القتل سهوا وهناك حلول لمثل هذه الامور في باب الديات، وقد يكون القتل مباحا في حالات يحددها الشارع المقدس عندما يهدد الانسان في نفسه وعرضه وماله في الحدود الشرعية التي يسمح بها الشارع المقدس ضمن حدود القانون الاسلامي.

وقد تكون بعض الكبائر ذات تاثير اجتماعي سلبي اكبر فرغم ان القتل اعظم من الزنا الا ان الزنا يسلتزم اربعة شهود في حين يسلتزم شاهدين في اثبات القتل وما ذلك الا لمنع انتشار الفساد المتعمد الذي يلحق الضرر بالمجتمع كالاتهامات الباطلة.

وفي حين تكون العقوبة شديدة في القتل المتعمد الباطل بدون حق وهي القتل مقابل القتل تكون العقوبة في حال السرقة قطع اليد في حال ثبوت البينة وبظروف يكون فيها السارق في وضع لايحق له مد يده الى اموال وممتلكات الغير وغير محتاج ولم توفر له الدولة وظيفة ولم يوفر له المجتمع فرصة للعيش وعلى هذ الاسس ينظر الحاكم الشرعي الى الحدود من الجانبي التطبيقي، وفي موضوع الزنا ينظر الى مرتكبها من جوانب متعددة في حالات المتزوج المحصن او غير المحصن رجل او امراة رضا ام عدوانا مسافرا ام حاضرا، ويعتبر الربا من الكبائر العظيمة لانه يزيد الفقير فقرا ويمنع التواصل الانساني والرحمة بين الناس ويكون اعظم اثرا في حياة الانسان من الزنا ولكن يصبح الربا جائزا بين الزوجة وزوجها، والغيبة حرام وهو ان تذكر عيبا لغيرك وانت مطالب ان تستره فتكون قد هتكت ستر غيرك وكذا النميمة وهي ان تنقل الكلام بين الناس فتزيد من الفرقة بينهم وتسبب النزاع بينهم، وكذا البهتان وهو ان تذكر عيبا لانسان ليس فيه وهو اعظم وكل هذه الذنوب المعنوية عليها عقوبات الهية قد تكون عاجلة في الدنيا فيعاقب الانسان بنفس الحالة ويكون عرضة للقيل والقال كما كان يتصرف في القيل والقال على غيره من الناس وقد تكون الغيبة احيانا جائزة للفاسق المتجاهر بالفسق. " وعنه صلى الله عليه وآله وسلم لاكبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار " الكافي 2 جامع الاخبار.

ويرتكب الانسان الكثير من الذنوب من دون ان يكون عليه رقيب ويتعرض للعقوبة من دون ان يشعر كالنظر المحرم والعمل المحرم ودخول الاماكن المحرمة والدخول في مواضع الشبهات الى غير ذلك من الامور التي لاتعد ولاتحصى. " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " سورة 4 النساء الاية 31. " من نص الخاطرة الرمضانية العشرون للكاتب محمود الربيعي".

وساتعرض انشاء الله الى بحث مبسط بالاعتماد على مصدرين مهمين هما تفسير الميزان للعلامة محمد حسين الطباطبائي الحكيم قدس سره الشريف، وكتاب جامع السعادات لمحمد مهدي النراقي قدس سره الشريف لما لهذين المصدرين من سعة ودقة وقوة في عرض هذه المواضيع اذ يمكن لهذين المصدرين ان يشكلا ثقلا مهما في بناء الشخصية المسلمة العقائدية.

البهتان

" ومن يكسب خطيئة او اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا " سورة 4 النساء الاية 20.... " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " سورة 4  النساء الاية 156..

تفسير الاية

و الظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى «و من يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا» حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار و نحوها، و أنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حكمه و الله عاصمه. ( الميزان في تفسير القران للعلامة الطباطبائي).

.. " ولولا اذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " سورة 24 النور الاية 16..

تفسير الاية

و البهتان الافتراء سمي به لأنه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتانا عظيما لأنه افتراء في عرض و خاصة إذ كان متعلقه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم و دعوى من غير بينة كما تقدم في قوله: «فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون» و معنى الآية ظاهر. ( الميزان).

.. " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا " سورة 33 الاحزاب الاية 58..

تفسير الاية

قوله تعالى: «و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا» تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأن إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحد و التعزير لا إثم فيه.

و أما إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتانا أن المؤذي إنما يؤذي لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم.

و كونه إثما مبينا لأن الافتراء و البهتان مما يدرك العقل كونه إثما من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعا. ( الميزان).

... " يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا ياتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ان الله غفور رحيم " سورة 60 الممتحنة 12....

تفسير الاية

قوله تعالى: «يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك» إلخ، تتضمن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد شرطت عليهن في «على أن لا يشركن» إلخ، أمورا منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال و النساء كالتحرز من الشرك و من معصية الرسول في معروف و منها ما هو أمس بهن من حيث إن تدبير المنزل بحسب الطبع إليهن و هن السبيل إلى حفظ عفة البيت و الحصول على الأنسال و طهارة مواليدهم، و هي التجنب من السرقة و الزنا و قتل الأولاد و إلحاق غير أولاد أزواجهن بهم، و إن كانت هذه الأمور بوجه من المشتركات.

فقوله: «يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك» شرط جوابه قوله: «فبايعهن و استغفر لهن الله».

و قوله: «على أن لا يشركن بالله شيئا» أي من الأصنام و الأوثان و الأرباب، و هذا شرط لا غنى عنه لإنسان في حال.

و قوله: «و لا يسرقن» أي لا من أزواجهن و لا من غيرهم و خاصة من أزواجهن كما يفيده السياق، و قوله: «و لا يزنين» أي باتخاذ الأخدان و غير ذلك و قوله: «و لا يقتلن أولادهن» بالوأد و غيره و إسقاط الأجنة.

و قوله: «و لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن» و ذلك بأن يحملن من الزنا ثم يضعنه و ينسبنه إلى أزواجهن فإلحاقهن الولد كذلك بأزواجهن و نسبته إليهم كذبا بهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن لأن الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها و رجليها، و لا يغني عن هذا الشرط شرط الاجتناب عن الزنا لأنهما متغايران و كل مستقل بالنهي و التحريم.

و قوله: «و لا يعصينك في معروف» نسب المعصية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الله مع أنها تنتهي إليه تعالى لأن المراد أن لا يتخلفن بالمعصية عن السنة التي يستنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ينفذها في المجتمع الإسلامي فيكون ما سنه هو المعروف عند المسلمين و في المجتمع الإسلامي.

و من هنا يظهر أن المعصية في المعروف أعم من ترك المعروف كترك الصلاة و الزكاة و فعل المنكر كتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى.

و في قوله: «إن الله غفور رحيم» بيان لمقتضى المغفرة و تقوية للرجاء. ( الميزان ).

البهتان إن تقول في مسلم ما يكرهه ولم يكن فيه، فان كان ذلك في غيبته كان كذبا وغيبة، وإن كان بحضورة كان أشد أنواع الكذب. وعلى أي تقدير، فهو أشد إثماً من الغيبة والكذب قال الله سبحانه: ....... جامع السعادات للنراقي.

" ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً " . وقال رسول الله (ص): " من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ماليس فيه، أقامه الله على تل من نار، حتى يخرج مما قاله فيه ". وقال الصادق (ع): " من بهت مؤمناً أو مؤمنة بما ليس فيه، بعثه الله عز وجل في طينة خبال، حتى يخرج مما قال " قلت: وما طينة خبال؟ قال: "صديد يخرج من فروج المومسات " ثم ما ورد في ذم اللسان وكونه شر الاعضاء ومنبع أكثر المعاصي ـ كما يأتي في موضعه ـ يدل على ذم الغيبة والبهتان، كما يدل على ذم جميع آفات اللسان مما تقدم: من الفحش، واللعن، والطعن، والسخرية، وغير ذلك، وما يأتي: من الكذب، والمزاح، والخوض في الباطل. وفضول الكلام، وغير ذلك. " جامع السعادات  الجزء الثاني.. البهتان.

النميمة

" هماز مشاء بنميم " سورة 68 القلم الاية 11.

تفسير الاية

و الهماز مبالغة من الهمز و المراد به العياب و الطعان، و قيل: الطعان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.

و المشاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم. ( الميزان ).

النميمة التي هي النقل من أحد الجانبين. وبالجملة هو بجميع أقسامه مذموم محرم، قال رسول الله (ص): " من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة ". وقال (ص): " تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ". وقال (ص): " يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسان في قفاه وآخر من قدامه يلتهبان ناراً حتى يلتهبان خده. ثم يقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين، يعرف بذلك يوم القيامة ". وورد في التوراة " بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين، يهلك الله يوم القيامة كل شفتين مختلفتين ". وعن علي بن اسباط، عن عبد الرحمن بن حماد، رفعه قال: قال الله تبارك وتعالى لعيسى: " يا عيسى، ليكن لسانك في السر والعلانية لساناً واحد، وكذلك قلبك، إني أحذرك نفسك، وكفى بي خبيرا! لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان! ". وقال الباقر (ع): " لبئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطرى أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطى حسده وان ابتلي خذله ". ( جامع السعادات الجزء الثاني في النفاق ).

النميمة تطلق في الأكثر على أن ينم قول الغير إلى المقول فيه، كأن يقال: فلان تكلم فيك بكذا وكذا، أو فعل فيك كذا وكذا. وعلى هذا تكون نوعا خاصاً من افشاء السر وهتك الستر، وهو الذي يتضمن فساداً أو سعاية. وقد تطلق على مالا يختص بالمقول فيه، بل على كشف ما يكره كشفه، سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو الكتابه أو بالرمز والإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً ونقصانا على المنقول عنه أو لم يكن. وعلى هذا يكون مساوية الافشاء السر وهتك الستر وحينئذ فكل ما يرى من أحوال الناس ولم يرضوا بافشائه، فاذاعته نميمة فاللازم على كل مسلم أن يسكت عما يطلع عليه من أحوال غيره، إلا إذا كان في حكايته نفع لمسلم أو دفع لمعصية. كما إذا رأى أحداً يتناول مال غيره، فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، وأما إذا رآه يخفى مالا لنفسه، فحكايته نميمة وافشاء للسر. ( جامع السعادات ).

ثم الباعث على النميمة يكون غالباً ارادة السوء بالمحكي عنه، فيكون داخلا تحت الإيذاء، وربما كان باعثه اظهار المحبة للمحكى له، أو التفريح بالحديث، و الخوض في الفضول. وعلى أي تقدير، لا ريب في أن النميمة أرذل الافعال القبيحة واشنعها. وما ورد في ذمها من الآيات والأخبار لا يحصى كثرة ( باب النميمة جامع السعادات الجزء الثاني ).

الغيبة

الغيبة ذكر الغير بما يكرهه لو سمعه، فاعلم ان ذلك انما يحرم إذا قصد به هتك عرضه، والتفكه به، أو اضحاك الناس منه.  ( جامع السعادات الجزء الثاني فصل مسوغات الغيبة ).

كفارة الغيبة

كفارة الغيبة ـ بعد التوبة والندم للخروج عن حق الله ـ أن يخرج من حق من اغتابه. وطريق الخروج من حقه، إن كان ميتا أو غائبا لم يكن الوصول إليه، أن يكثر له من الاستغفار والدعاء، ليحسب ذلك يوم القيامة من حسناته ويقابل بها سيئة الغيبة، وإن كان حياً يمكن الوصول إليه ولم تبلغ إليه الغيبة، وكان في بلوغها إليه مظنة العداوة والفتنة، فليكثر له أيضاً من الدعاء والاستغفار، من دون ان يخبره بها، وإن بلغت إليه أو لم تبلغه، ولم يكن في بلوغها ظن الفتنة والعداوة، فليستحله متعذراً متأسفاً مبالغاً في الثناء عليه والتودد إليه، واليواظب على ذلك حتى يطيب قلبه ويحله فان لم يطب قلبه من ذلك ولم يحله، كان اعتذاره وتودده حسنة يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة.

والدليل على هذا التفصيل قول الصادق (ع): " وإن اغتبت فبلغ المغتاب، فاستحل منه، فان لم تبلغه لم تلحقه، فاستغفر الله  وذلك لأن في الاستحلال مع عدم البلوغ إليه إثارة للفتنة وجلب الضغائن وفي حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول إليه بموت أو غيبة، وعلى هذا فقول النبي (ص): " كفارة من اغتبته أن تستغفر له ". محمول على صورة عدم إمكان الوصول إليه، أو إمكانه مع ايجاب الاعلام والاستحلال لإثارة الفتنة والعداوة. وقوله (ص): " من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال، فليتحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته، فان لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته "، محمول على صورة البلوغ، مع عد إيجاب الاعلام والاستحلال فتنة وعداوة. ( جامع السعادات الجزء الثاني في كفارة الغيبة).

" يا ايها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ايحب احدكم ان ياكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم " سورة 49 الحجرات الاية 29.

تفسير الاية

قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم» إلى آخر الآية المراد بالظن المأمور بالاجتناب عنه ظن السوء فإن ظن الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا»: النور: 12.

و المراد بالاجتناب عن الظن الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كان يظن بأخيه المؤمن سوء فيرميه به و يذكره لغيره و يرتب عليه سائر آثاره، و أما نفس الظن بما هو نوع من الإدراك النفساني فهو أمر يفاجىء النفس لا عن اختيار فلا يتعلق به النهي اللهم إلا إذا كان بعض مقدماته اختياريا.

و على هذا فكون بعض الظن إثما من حيث كون ما يترتب عليه من الأثر إثما كإهانة المظنون به و قذفه و غير ذلك من الآثار السيئة المحرمة، و المراد بكثير من الظن - و قد جيء به نكرة ليدل على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظن - هو بعض الظن الذي هو إثم فهو كثير في نفسه و بعض من مطلق الظن، و لو أريد بكثير من الظن أعم من ذلك كأن يراد ما يعلم أن فيه إثما و ما لا يعلم منه ذلك كان الأمر بالاجتناب عنه أمرا احتياطيا توقيا من الوقوع في الإثم.

و قوله: «و لا تجسسوا» التجسس بالجيم تتبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، و مثله التحسس بالحاء المهملة إلا أن التجسس بالجيم يستعمل في الشر و التحسس بالحاء يستعمل في الخير، و لذا قيل: معنى الآية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الأمور التي سترها أهلها.

و قوله: «و لا يغتب بعضكم بعضا أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، و قد فسرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة و ضيقا في الفقه، و يئول إلى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوءه لو ذكر به و لذا لم يعدوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.

و الغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحدا بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجو من الاجتماع و هو أن يخالط كل صاحبه و يمازجه في أمن و سلامة بأن يعرفه إنسانا عدلا سويا يأنس به و لا يكرهه و لا يستقذره، و أما إذا عرفه بما يكرهه و يعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك و ضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة التي تأكل جثمان من ابتلي بها عضوا بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة.

و الإنسان إنما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة لأن يخالطه و يمازج فيفيد و يستفاد منه، و غيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة و تبطل منه هذه الهوية، و فيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح و لا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدل الصلاح فسادا و يذهب الأنس و الأمن و الاعتماد و ينقلب الدواء داء.

فهي في الحقيقة إبطال هوية اجتماعية على حين غفلة من صاحبها و من حيث لا يشعر به، و لو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرز منه و توقى انهتاك ستره و هو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الإنسان و نواقصه ليتم به ما أراده من طريق الفطرة من تألف أفراد الإنسان و تجمعهم و تعاونهم و تعاضدهم، و أين الإنسان و النزاهة من كل عيب.

و إلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» و قد أتي بالاستفهام الإنكاري و نسب الحب المنفي إلى أحدهم و لم يقل: بعضكم و نحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعابا و شمولا و لذا أكده بقوله بعد: «فكرهتموه» فنسب الكراهة إلى الجميع و لم يقل: فكرهه.

و بالجملة محصله أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتا، و إنما كان لحم أخيه لأنه من أفراد المجتمع الإسلامي المؤلف من المؤمنين و إنما المؤمنون إخوة، و إنما كان ميتا لأنه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.

و في قوله: «فكرهتموه» و لم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم و هو ميت فكما أن هذا مكروه لكم فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا.

و اعلم أن ما في قوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل» إلخ، من التعليل جار في التجسس أيضا كالغيبة، و إنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، و التجسس هو التوصل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتبع آثاره و لذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا» إلخ، تعليلا لكل من الجملتين أعني «و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا».

و اعلم أن في الكلام إشعارا أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، و من القرينة عليه قوله في التعليل: «لحم أخيه» فالأخوة إنما هي بين المؤمنين.

و قوله: «و اتقوا الله إن الله تواب رحيم» ظاهره أنه عطف على قوله: «اجتنبوا كثيرا من الظن» إن كان المراد بالتقوى هو التجنب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: «إن الله تواب رحيم» أن الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.

و إن كان هو التجنب عنها و التورع فيها و إن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله: «إن الله تواب رحيم» أن الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية و التوفيق و الحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.

و ذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا»: التوبة: 118، و توبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة و قبول التوبة كما في قوله: «فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه»: المائدة: 39.

قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» إلخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون و هو على ما في المجمع الحي العظيم من الناس كربيعة و مضر، و القبائل جمع قبيلة و هي دون الشعب كتميم من مضر.

و قيل: الشعوب دون القبائل و سميت بها لتشعبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حي واحد، و جمعه شعوب، قال تعالى: «شعوبا و قبائل» و الشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف و تفرق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الذي تفرق أخذت في وهمك واحدا يتفرق، و إذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، و شعبت إذا فرقت.

انتهى. ( الميزان ).    

الربا

" الذين ياكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره الى الله ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " سورة 2 البقرة الاية 275..

تفسير الاية

آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا و يربي الصدقات، و قوله: و أن تصدقوا خير لكم، و كذا ما وقع من ذكره في سورة الروم و في سورة آل عمران مقارنا لذكر الإنفاق و الصدقة و الحث عليه و الترغيب فيه.

على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد و المقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، و الآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة و تحاذيها على الكلية من غير تخلف و استثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة و المحبة، و إقامة أصلاب المساكين و المحتاجين، و نماء المال، و انتظام الأمر و استقرار النظام و الأمن في الصدقة و خلاف ذلك في الربا.

و قد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أما سائر الكبائر فإن القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم، و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولي أعداء الدين.

و ليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشئومة، و لا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلا في الأعمال و الأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانية و يسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح.

و حيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، و انقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد و المعدم الشقي، و بان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدد الإنسانية بالانهدام، و الدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.

و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، و للإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال و حركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، و هذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها و نظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية و الاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، و يقصد الشرب إذا عطش، و الفراش إذا اشتهى النكاح، و الاستراحة إذا تعب، و الاستظلال إذا أراد السكن و هكذا، و ينبسط لأمور و ينقبض عن أخرى في معاشرته، و يريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، و إذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه.

حال المرابي في أخذه الربا إعطاء الشيء و أخذ ما يماثله و زيادة بالأجل فإن الذي تدعو إليه الفطرة و يقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، و أما إعطاء المال و أخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة و أساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين و تجمعه و تراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، و لا ينمو إلا من مال الغير، فهو بالانتفاص و الانفصال من جانب، و الزيادة و الانضمام إلى جانب آخر.

و ينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة و كلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص و يتداركه، و في ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن و التعادل الاجتماعي و يفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

و هذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة و المعاوضة فلا يفرق بين البيع و الربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا و يأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا و أخذ البيع، و لذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنما البيع مثل الربا.

 قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط و الاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، و المعروف عند العقلاء و المنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر و الرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، و لو قال: إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، و لم يكن معنى كلامه إبطال المزية و إهماله كما يراه الممسوس، و هذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، و لو أنه قال: إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.

و الظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك و إن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، و هذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: إنما البيع مثل الربوا نظمهما في سلك واحد، و إنما قلبوا التشبيه و جعلوا الربا أصلا و شبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله: و مهمة مغبرة أرجاؤه.

كأن لون أرضه سماؤه.

قوله تعالى: و أحل الله البيع و حرم الربوا، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد.

يقال: جاءني زيد و قد ضرب عمرا، و لا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله و ظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع و حرم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية و الحرمة و قبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية و إنما هي مستأنفة.

قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله، تفريع على قوله: و أحل الله البيع «إلخ»، و الكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، و المعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم و من جاءه موعظة «إلخ» فإن انتهيتم فلكم ما سلف و أمركم إلى الله.

و من هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لما قبل زمان بلوغه، و من قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.

و اعلم: أن أمر الآية عجيب، فإن قوله: فمن جاءه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.

إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات و رد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفا عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك، فإن قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أول التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.

و أما قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، و يلازم ذلك الإصرار على الذنب و عدم القبول للحكم و هذا هو الكفر أو الردة باطنا و لو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب و لم ينته عنه و لو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا و لا يفلح أبدا.

فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة و بين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.

و من هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب.

فإن الآية و إن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم و لا محذور فيه.

و قد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، و في قوله: و أمره إلى الله، و قوله: و من عاد «إلخ» وجوه من المعاني و الاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ.

قوله تعالى: يمحق الله الربوا و يربي الصدقات «إلخ»، المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجا، و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مر معنى الإثم.

و قد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات و محق الربا، و قد تقدم أن إرباء الصدقات و إنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة.

فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة و تورث المحبة و حسن التفاهم و تألف القلوب و تبسط الأمن و الحفظ، و تصرف القلوب عن أن تهم بالغضب و الاختلاس و الإفساد و السرقة، و تدعو إلى الاتحاد و المساعدة و المعاونة، و تنسد بذلك أغلب طرق الفساد و الفناء الطارئة على المال، و يعين جميع ذلك على نماء المال و دره أضعافا مضاعفة.

كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال و يفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة و الخسارة، و يورث البغض و العداوة و سوء الظن، و يفسد الأمن و الحفظ، و يهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، و تدعو إلى التفرق و الاختلاف، و تنفتح بذلك أغلب طرق الفساد و أبواب الزوال على المال و قلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.

و كل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة و الربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء و المعوزين و قد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، و استعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، و هموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فإن أحسن إليهم بالصنيعة و المعروف بلا عوض - و الحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان و حسن النية و أثرت الأثر الجميل، و إن أسيء إليهم بإعمال القسوة و الخشونة و إذهاب المال و العرض و النفس قابلوها بالانتقام و النكاية بأي وسيلة، و قلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم و خراب بيوتهم و خسران مساعيهم.

إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، و قل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب و عوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء و المذلة، و بين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل و الدول بالرسمية، و وضعت عليها القوانين، و أسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها و تعارف بينها و انصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية و تراكمها في جانب، و حلول الفقر و الحرمان العمومي في جانب آخر، و ظهور الانفصال و البينونة التامة بين القبيلين: الموسرين و المعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا و سوف يؤثر أثره السيىء المشئوم، و هذا النوع من الظهور و البروز و إن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، و ربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، و اليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد.

فقوله تعالى يمحق الله الربا و يربي الصدقات يبين حال الربا و الصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، و المحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق و إن سمي ربا و الصدقة ربا رابية و إن لم تسم ربا، و إلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، و توصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى و هو الانمحاق.

و بما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي و خسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة و العيان يكذبه، و إنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر و طيب الحياة و هناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال و وضع درهم على درهم، و مبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءا، و الهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس و بغض المعوزين له، و وجه ضعفه ظاهر.

و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد به محق الآخرة و ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.

و كذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: و من عاد «إلخ»، و قد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال و الدفع جميعا.

قوله تعالى: و الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، و المعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية، و هي طرق المعاملات الفطرية، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال الطمع و الحرص في أموال الناس و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.

قوله تعالى: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات «إلخ»، تعليل يبين به ثواب المتصدقين و المنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله و ذروا ما بقي من الربا، و هو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، و له بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، و هدد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله الآية.

و هذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.

و في تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان، و تأكيد لما تقدم من قوله: و من عاد «إلخ»، و قوله: و الله لا يحب كل كفار «إلخ».

قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، الإذن كالعلم وزنا و معنى، و قرىء فآذنوا بالأمر من الإيذان، و الباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين و نحوه، و المعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله و رسوله، و تنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، و نسبة الحرب إلى الله و رسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل و التشريع و لرسوله فيه سهم بالتبليغ، و لو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، و أما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى: «ليس لك من الأمر شيء»: آل عمران - 128.

و الحرب من الله و رسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله:» الحجرات - 9، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه و هو محاربته إياهم من طريق الفطرة و هو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، و هي التي تقطع أنفاسهم، و تخرب ديارهم، و تعفي آثارهم، قال تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» الإسراء - 16.

قوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون، كلمة و إن تبتم، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا و له بقايا على مدينيه و معامليه، و قوله: فلكم رءوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا و لا تظلمون بالتعدي إلى رءوس أموالكم، و في الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا: و على كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: و على إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رءوس أموالكم و المال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات و أصناف الكسب ثالثا.

قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، و النظرة المهلة، و الميسرة اليسار، و التمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه و أمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.

و الآية و إن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية و يأمر بالإنظار.

قوله تعالى: و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي و إن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.

قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله «إلخ»، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم و الجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، و يهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى و الورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، و هو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.

و أما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، و معنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

و قد قيل: إن هذه الآية: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوا و عشيا، و يقولون ربنا متى تقوم الساعة. (تفسير الميزان لللعلامة الطباطبائي).

أقول: و هو مثال برزخي و تصديق لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.

و قد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و في بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.

و في التهذيب، بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام فقال: و هل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع و حرم الربا، فاربح و لا ترب. قلت: و ما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، و حنطة بحنطة مثلين بمثل.

و في الفقيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.

أقول: و قد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال و الذي هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟ أنه إنما يكون في النقدين و ما يكال أو يوزن، و المسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.

و في الكافي، عن أحدهما و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال الموعظة التوبة.

و في التهذيب، عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيء حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر (عليه السلام) مخرجك من كتاب الله عز و جل: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى - فله ما سلف و أمره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: و قال لو أن رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أن في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله و إن عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله و ليرد الزيادة.

و في الفقيه، و العيون، عن الرضا (عليه السلام): هي كبيرة بعد البيان. قال: و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

و في الكافي،: أنه سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز و جل.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): و قد سئل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات الآية، و قيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر.

أقول: و الرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية و التحريم و تقابله الصدقة في شأنه، و هي لا تنافي ما مر من عموم المحق.

و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أنه قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الربا خمسة: آكله و موكله و شاهديه و كاتبه أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل و المرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد.

و فيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة و هو مثل أحد.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و عائشة و ابن عمر و أبي برزة الأسلمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: أنه لما أنزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله و قال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله - و ذروا ما بقي من الربا الآية.

أقول: و روي قريبا منه في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).

و في المجمع، أيضا عن السدي و عكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس و خالد بن الوليد و كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإسلام و لهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كل دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و المتحصل من روايات الخاصة و العامة أن الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، و كانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية.

و هذا يؤيد ما قدمناه في البيان: أن الربا كان محرما في الإسلام قبل نزول هذه الآيات و مبينا للناس، و أن هذه إنما تؤكد التحريم و تقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه قبض و لم يبين للناس أمر الربا كما في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و أنه قد مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.

على أن من مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و بين ذلك للناس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في المجمع، أيضا عن علي (عليه السلام): إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.

أقول: و قد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.

و فيه،: في قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: و اختلف في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد.

و فيه،: أنه أي إنظار المعسر واجب في كل دين: عن ابن عباس و الضحاك و الحسن و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

و فيه،! قال الباقر (عليه السلام): إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.

أقول: و الرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، و قد مر له معنى آخر، و الروايات في هذه المعاني و ما يلحق بها كثيرة و المرجع فيها كتاب الدين من الفقه.

بحث علمي

تقدم مرارا في المباحث السابقة: أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، و بعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، و يرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله و ما عمله و العمل في هذا الباب أعم من الفعل و الانفعال و كان نسبة و رابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع أي أنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، و يعده ملكا جائز التصرف لشخصه، و العقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.

لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحدة دعي ذلك إلى الاجتماع التعاوني و أن ينتفع كل بعمل غيره و ما حازه و ملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، و استقر ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل و يملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، و يعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، و هذا أصل المعاملة و المعاوضة.

غير أن التباين التام بين الأموال و الأمتعة من حيث النوع، و من حيث شدة الحاجة و ضعفها، و من حيث كثرة الوجود و قلته يولد الإشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، و الحمار لغرض الحمل، و الماء لغرض الشرب، و الجوهرة الثمينة للتقلد و التختم مثلا لها أوزان و قيم مختلفة في حاجة الحياة، و نسب مختلفة لبعضها إلى بعض.

فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس و الدرهم و الدينار، و كان الأصل في وضعه: أنهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة و السلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية أفراده كالمثاقيل و المكائيل و غيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة و يقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه و نسبة بعضها إلى بعض.

ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء كواحد الطول من الذراع و نحوه، و واحد الحجم و هو الكيل، و واحد الثقل و الوزن كالمن و نحوه، و عند ذلك تعينت النسب و ارتفع اللبس، و بان مثلا أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير و المن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، و تبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا و على هذا القياس.

ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل و التوسعة كنقود الفضة و النحاس و البرنز و الورق و النوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

ثم افتتح باب الكسب و التجارة بعد رواج البيع و الشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله و شغله بالتعويض و تبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، و استقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم و الدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، و كأنه كل متاع يحتاج إليه الإنسان لأنه الذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده و يحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، و ربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع و الأمتعة و هو الصرف.

و قد ظهر بما مر: أن أصل المعاملة و المعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، و هذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، و أما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به و هو مما يقيم أود الاجتماع، و يرفع حاجة المحتاج و لا فساد يترتب عليه، و إن كان مع زيادة في المبدل منه و هي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟ الربا - و نعني به تبديل المثل بالمثل و زيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل و أخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل و ما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار و الإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة و هو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد و لازمه أن له في غده ثمانية و هو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته و حياته في الانمحاق و الانتقاص و لا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه و يبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين و ليس له و لا واحد 20 - 0 = المال و هو الهلاك و فناء السعي في الحياة.

و أما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه و العشرة التي للمقترض، و ذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب و يخلو الجانب الآخر من المال، و ليس إلا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين و انجرار المال إلى طبقة الموسرين، و يؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، و تحكمهم في أموال الناس و أعراضهم و نفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون و يتهوسون لما في الإنسان من قريحة التعالي و الاستخدام، و إلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع و الانتقام، و هذا هو الهرج و المرج و فساد النظام الذي فيه هلاك الإنسانية و فناء المدنية.

هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء و أهل العسرة، و أما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك و غيرها كالربا على القرض و الاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، و يوجب ازدياد رءوس أموال التجارة و اقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، و وقوع التطاول بينها و أكل بعضها، بعضا و انهضام بعضها في بعض، و فناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، و يجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، و عاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.

و لا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، و تقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، و تقدمهم البارز في مزايا الحياة، و حرمان آخرين و هم الأكثرون من أوجب واجباتهم، و قد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية و العدالة و الحرية و التساوي في حقوق الإنسانية، و كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، و يعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، و كانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف و استذلال الطبقة السافلة و التعالي عليهم، و التحكم المطلق بما شاءوا، و أنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، و رجع كيدهم و مكرهم إلى أنفسهم، و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، و كان عاقبة الذين أساءوا السوآى، و الله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها، و من مفاسد الربا المشئومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، و حبس الألوف و الملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع و الشرى، و جلوس قوم على أريكة البطالة و الإتراف، و حرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة و هو اتكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم، و لا يعيش به آخرون لحرمانهم.

الخمر

" يسالونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما ويسالونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الايات لعلكم تتفكرون " سورة 2 البقؤة 219..

قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر و الميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، و الأصل في معناه الستر، و سمي به لأنه يستر العقل و لا يدعه يميز الحسن من القبح و الخير من الشر، و يقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، و يقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، و يقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، و سميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى و تخمر من قبل، و قد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب و التمر و الشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، و الجميع خمر.

و الميسر لغة هو القمار و يسمى المقامر ياسرا و الأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب و العمل، و قد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، و هو الضرب بالقداح و هي السهام، و تسمى أيضا: الأزلام و الأقلام. ( الميزان ).

قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، و قرىء إثم كثير بالثاء المثلثة، و الإثم يقارب الذنب و ما يشبهه معنى و هو حال في الشيء أو في العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء و الحرمان في أمور أخرى و يفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى و هذان على هذه الصفة.

أما شرب الخمر فمضراته الطبية و آثاره السيئة في المعدة و الأمعاء و الكبد و الرئة و سلسلة الأعصاب و الشرايين و القلب و الحواس كالباصرة و الذائقة و غيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما و حديثا، و لهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.

و أما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق و تأديته الإنسان إلى الفحش، و الإضرار و الجنايات، و القتل، و إفشاء السر، و هتك الحرمات، و إبطال جميع القوانين و النواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، و خاصة ناموس العفة في الأعراض و النفوس و الأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول و لا يشعر بما يفعل، و قل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا و نغصت عيشة الإنسان إلا و للخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.

و أما مضرته في الإدراك و سلبه العقل و تصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان و تغييره مجرى الإدراك حين السكر و بعد الصحو فمما لا ينكره منكر و ذلك أعظم ما فيه من الإثم و الفساد، و منه ينشأ جميع المفاسد الآخر.

و الشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، و نهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، و الميسر، و الغش، و الكذب، و غير ذلك، و من أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال و قول الكذب و الزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل و على رأسها السياسات المبتنية على السكر و الكذب هي التي تهدد الإنسانية، و تهدم بنيان السعادة و لا تأتي بثمرة عامة إلا و هي أمر من سابقتها، و كلما زاد الحمل ثقلا و أعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، و خسر العمل، و لو لم يكن لهذه المحجة البيضاء و الشريعة الغراء إلا البناء على العقل و المنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، و للكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.

و لم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق و الحقيقة، و انعقدت العادات على تناولها و شق تركها و الجري على نواميس السعادة الإنسانية، و لذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، و كلفهم بالرفق و الإمهال.

و من جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق:» الأعراف - 33، و الآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، و في الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو و أن في الخمر إثما كبيرا.

و لعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق و التسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: «و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا:» النحل - 67، و الآية أيضا مكية، و كان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة و أنتم سكارى:» النساء - 43، و الآية مدنية و هي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب و السكر في أفضل الحالات و في أفضل الأماكن و هي الصلاة في المسجد.

و الاعتبار و سياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة و آيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، و لا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.

ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: «و يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما» و هذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه و تشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر «فيهما إثم كبير» و تقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.

و من هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: «قل فيهما إثم كبير» لا يدل على أزيد من أن فيه إثما و الإثم هو الضرر، و تحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة و منفعة من جهة أخرى، و لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم و أصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: «إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون».

وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا و ليس الإثم هو الضرر و مجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، و كيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 47، و قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه:» البقرة - 283، و قوله تعالى: «أن تبوء بإثمي و إثمك:» المائدة - 29، و قوله تعالى: «لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم:» النور - 11، و قوله تعالى: «و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه:» النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، و لو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، و لفظها صريح في ذلك حيث يقول «و إثمهما أكبر من نفعهما» و إرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.

و أما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم و هي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية!.

على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم و هذه الآية قيدت الإثم بالكبر و لا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام و مصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، و قد وصف القرآن القتل و كتمان الشهادة و الافتراء و غير ذلك بالإثم و لم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر و في الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 48، و بالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.

ثم نزلت آيتا المائدة: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون:» المائدة - 91، و ذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر و لم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.

و أما الميسر: فمفاسده الاجتماعية و هدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، و العيان يغني عن البيان، و سنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير و منافع للناس، قد مر الكلام في معنى الإثم، و أما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، و الكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه و هو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، و لو لا المقايسة و الإضافة لم يكن كبر و لا صغر كما لا يكون كثرة و لا قلة، و يشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة و هي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر و الصغر فيها، قال تعالى: «إنها لإحدى الكبر:» المدثر - 35، و قال تعالى: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم:» الكهف - 5، و قال تعالى: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه:» الشورى - 13، و العظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.

و النفع خلاف الضرر و يطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير و الشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، و المراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع و الشرى و العمل و التفكه و التلهي، و لما قوبل ثانيا بين الإثم و المنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع و إلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: و إثمهما أكبر من نفعهما و لم يقل من منافعهما.  (الميزان).

.. " يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " سورة 5 المائدة الاية90.... " انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون " سورة 5 المائدة الاية 91.... "

الميسر

.... " يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " سورة 5 المائدة الاية90.

النظر المحرم

" قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم ان الله خبير بما يصنعون " سورة 24 النور الاية 30..

.. " وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن او ابائهن او اباء بعولتهن او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت ايمانهن او التابعين غير اولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون " سورة 24 النور الاية 31....

قوله تعالى: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون» الغض إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أن «من» في «من أبصارهم» لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكل قائل، و المعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم.

فقوله: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم» لما كان «يغضوا» مترتبا على

قوله: «قل» ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، و الآية أمر بغض الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الأجنبي و الأجنبية لمكان الإطلاق.

و قوله: «و يحفظوا فروجهم» أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشق بين الشيئين، و كنى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن المليء أدبا و خلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب.

و المقابلة بين قوله: «يغضوا من أبصارهم» و «يحفظوا فروجهم» يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر.

و على هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.

ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثهم على المراقبة في جنبه بقوله: «ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون».

قوله تعالى: «و قل للمؤمنات يغضضن» إلخ، الكلام في قوله: «و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن و يحفظن فروجهن» نظير ما مر في قوله: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم و يحفظوا فروجهم» فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه و يجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي و الأجنبية.

و أما قوله: «و لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها» فالإبداء الإظهار، و المراد بزينتهن مواضع الزينة لأن نفس ما يتزين به كالقرط و السوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.

و قد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، و قد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه و الكفان و القدمان كما سيجيء إن شاء الله.

و قوله: «و ليضربن بخمرهن على جيوبهن» الخمر بضمتين جمع خمار و هو ما تغطي به المرأة رأسها و ينسدل على صدرها، و الجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون و هو معروف و المراد بالجيوب الصدور، و المعنى و ليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها.

و قوله: «و لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن - إلى قوله - أو بني أخواتهن» البعولة هم أزواجهن، و الطوائف السبع الأخر محارمهن من جهة النسب و السبب، و أجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم و أبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الأبناء.

و قوله: «أو نسائهن» في الإضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء و قد وردت به الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

و قوله: «أو ما ملكت أيمانهن» إطلاقه يشمل العبيد و الإماء، و قد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، و هذا من موارد استعمال «ما» في أولي العقل.

و قوله: «أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال» الإربة هي الحاجة، و المراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، و «من الرجال» بيان للتابعين، و المراد بهم كما تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال و لا شهوة لهم.

و قوله: «أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء» أي جماعة الأطفال - و اللام للاستغراق - الذين لم يقووا و لم يظهروا - من الظهور بمعنى الغلبة - على أمور يسوء التصريح بها من النساء، و هو - كما قيل - كناية عن البلوغ.

و قوله: «و لا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال و العقد و القرط و السوار.

و قوله: «و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون» المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه و بالجملة اتباع سبيله. ( الميزان ).

السرقة

" يا ايها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن اولادهن ولا ياتين ببهتان يفترينه بين ايديهن وارجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ان الله غفور رحيم " سورة 60 الممتحنة الاية 12..

.. " " والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " سورة 5 المائدة الاية 38....

قوله تعالى: «و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما» الآية الواو للاستيناف و الكلام في مقام التفصيل فهو في معنى: «و أما السارق و السارقة» إلخ و لذلك دخل الفاء في الخبر أعني قوله: «فاقطعوا أيديهما» لأنه في معنى جواب أما، كذا قيل.

و أما استعمال الجمع في قوله: «أيديهما» مع أن المراد هو المثنى فقد قيل: إنه استعمال شائع، و الوجه فيه: أن بعض الأعضاء أو أكثرها في الإنسان مزدوجة كالقرنين و العينين و الأذنين و اليدين و الرجلين و القدمين، و إذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا و لها لفظ الجمع كأعينهما و أيديهما و أرجلهما و نحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى المثنى و إن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملأت ظهورهما و بطونهما ضربا، قال تعالى: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما»: التحريم: 4 و اليد ما دون المنكب و المراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة، و يصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة.

قوله: «جزاء بما كسبا نكالا من الله» الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله: «فاقطعوا» أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله، و النكال هو العقوبة التي يعاقب بها المجرم لينتهي عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس.

و هذا المعنى أعني كون القطع نكالا هو المصحح لأن يتفرع عليه قوله: «فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه «إلخ» أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح و لم يحم حول السرقة - و هذا أمر يستثبت به معنى التوبة - فإن الله يتوب عليه و يرجع إليه بالمغفرة و الرحمة لأن الله غفور رحيم، قال تعالى: «ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و ءامنتم و كان الله شاكرا عليما»: النساء: 174.

و في الآية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه. ( الميزان ).

القتل

" يسالونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام واخراج اهله منه اكبر عند الله والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة واولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " سورة 2 البقرة الاية 217..

.. " ان الذين يكفرون بايات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يامرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم " سورة 3 الاية 21..

قوله: يكفرون، و يقتلون، في موضعين للاستمرار و يدلان على كون الكفر بآيات الله و هو الكفر بعد البيان بغيا، و قتل الأنبياء و هو قتل من غير حق، و قتل الذين يدعون إلى القسط و العدل و ينهون عن الظلم و البغي دأبا و عادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود، فقد قتلوا جمعا كثيرا و جما غفيرا من أنبيائهم و عبادهم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر و كذا النصارى جروا مجراهم.

و قوله: فبشرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب و نزول السخط، و ليس هو العذاب الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة «الخ» فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي و الأخروي معا، أما الأخروي فأليم عذاب النار، و أما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل و الإجلاء و ذهاب الأموال و الأنفس، و ما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.

و في قوله تعالى: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين، دلالة أولا: على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر.

و ثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: و ما لهم من ناصرين. ( الميزان).

.. " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما " سورة  4 الاية 93..

قوله تعالى: «و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم»، التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له، و حيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان و كان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح و هو يزعم أنه من الصيد و هو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان، و كذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطإ، و على هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل و أن المقتول مؤمن.

و قد أغلظ الله سبحانه و تعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى «إن الله لا يغفر أن يشرك به»: النساء: 48 أن تلك الآية، و كذا قوله تعالى «إن الله يغفر الذنوب جميعا»: الزمر: 53 تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة. (الميزان).

.. " من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون " سورة 5 الاية 32..

قوله تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» في المجمع:، الأجل في اللغة الجناية، انتهى.

و قال الراغب في المفردات:، الأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية و ليس كل جناية أجلا.

يقال: فعلت ذلك من أجله، انتهى.

ثم استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إن كذا سبب فعلي، و لعل استعمال الكلمة في التعليل ابتدأ أولا في مورد الجناية و الجريرة كقولنا: أساء فلان و من أجل ذلك أدبته بالضرب أي إن ضربي ناش من جنايته و جريرته التي هي إساءته أو من جناية هي إساءته، ثم أرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبي لك و لأجل حبي لك.

و ظاهر السياق أن الإشارة بقوله: «من أجل ذلك» إلى نبأ ابني آدم المذكور في الآيات السابقة أي إن وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سببا لكتابتنا على بني إسرائيل كذا و كذا، و ربما قيل: إن قوله: «من أجل ذلك» متعلق بقوله في الآية السابقة: «فأصبح من النادمين» أي كان ذلك سببا لندامته، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد كما في قوله تعالى: «كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون في الدنيا و الآخرة و يسألونك عن اليتامى» الآية: البقرة: 202 إلا أن لازم ذلك كون قوله: «كتبنا على بني إسرائيل» إلخ مفتتح الكلام و المعهود من السياقات القرآنية أن يؤتى في مثل ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفا و غيرها.

و أما وجه الإشارة في قوله: «من أجل ذلك» إلى قصة ابني آدم فهو أن القصة تدل على أن من طباع هذا النوع الإنساني أن يحمله اتباع الهوى و الحسد الذي هو الحنق للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شيء على منازعة الربوبية و إبطال غرض الخلقة بقتل أحدهم أخاه من نوعه و حتى شقيقه لأبيه و أمه.

فأشخاص الإنسان إنما هم أفراد نوع واحد و أشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد منهم من الإنسانية ما يحمله الكثيرون، و يحمل الكل ما يحمله البعض و إنما أراد الله سبحانه بخلق الأفراد و تكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة التي ليس من شأنها أن تعيش إلا زمانا يسيرا، و يدوم بقاؤها فيخلف اللاحق السابق و يعبد الله سبحانه في أرضه، فإفناء الفرد بالقتل إفساد في الخلقة و إبطال لغرض الله سبحانه في الإنسانية المستبقاة بتكثير الأفراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه: «ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين» فأشار إلى أن القتل بغير الحق منازعة الربوبية.

فلأجل أن من طباع الإنسان أن يحمله أي سبب واه على ارتكاب ظلم يئول بحسب الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبية و غرض الخلقة في الإنسانية العامة، و كان من شأن بني إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد و الكبر و اتباع الهوى و إدحاض الحق و قد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع و منزلته بحسب الدقة، و أخبرهم بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، و بالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.

و هذه الكتابة و إن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة و الاعتبار، و له تأثير في إثارة الغضب و السخط الإلهي في دنيا أو آخرة.

و بعبارة مختصرة: معنى الجملة أنه لما كان من طباع الإنسان أن يندفع بأي سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، و كان من أمر بني إسرائيل ما كان، بينا لهم منزلة قتل النفس لعلهم يكفون عن الإسراف و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون.

و أما قوله: «إنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس و هو القود و القصاص و هو قوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى»: البقرة: 187 و قتل النفس بالفساد في الأرض، و ذلك قوله في الآية التالية: «إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا» الآية.

و أما المنزلة التي يدل عليها قوله: «فكأنما» إلخ فقد تقدم بيانه أن الفرد من الإنسان من حيث حقيقته المحمولة له التي تحيا و تموت إنما يحمل الإنسانية التي هي حقيقة واحدة في جميع الأفراد و البعض و الكل، و الفرد الواحد و الأفراد الكثيرون فيه واحد، و لازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الإنسان و بالعكس إحياء النفس الواحدة بمنزلة إحياء الناس جميعا، و هو الذي تفيده الآية الشريفة.

و ربما أشكل على الآية أولا: بأن هذا التنزيل يفضي إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان أهمية قتل النفس و عظمته من حيث الإثم و الأثر، و لازمه أن تزيد الأهمية كلما زاد عدد القتل، و تنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء فإن من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، و تبقى الباقي و ليس بإزائه شيء.

و لا يندفع الإشكال بأن يقال: إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع و إن قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لأن مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، و اللفظ لا يفي ببيان ذلك.

على أن الجميع مؤلف من آحاد كل واحد منها يعدل الجميع المؤلف من الآحاد كذلك، و يذهب إلى ما لا نهاية له، و لا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع من غير آحاد.

على أن الله تعالى يقول: «من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها»: الأنعام: 106 و ثانيا: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع إن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره و هو محال بالبداهة، و إن أريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفسا فكأنما قتل غيرها من النفوس، و هو معنى رديء مفسد للغرض من الكلام و هو بيان غاية أهمية هذا الظلم.

على أن إطلاق قوله: «فكأنما قتل الناس جميعا» من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال.

و لا يندفع هذا الإشكال بمثل قولهم: إن المراد هو المعادلة من حيث العقوبة أو مضاعفة العذاب و نحو ذلك و هو ظاهر.

و الجواب عن الإشكالين: أن قوله: «من قتل نفسا - إلى قوله - فكأنما قتل الناس جميعا» كناية عن كون الناس جميعا ذوي حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحد منهم و الجميع فيها سواء، فمن قصد الإنسانية التي في الواحد منهم فقد قصد الإنسانية التي في الجميع كالماء إذا وزع بين أواني كثيرة فمن شرب من أحد الآنية فقد شرب الماء، و قد قصد الماء من حيث إنه ماء - و ما في جميع الآنية لا يزيد على الماء من حيث إنه ماء - فكأنه شرب الجميع، فجملة: «من قتل، إلخ» كناية في صورة التشبيه، و الإشكالان مندفعان، فإن بناءهما على كون التشبيه بسيطا يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبه عددا إذ لو سوي حينئذ بين الواحد و الجميع فسد المعنى و عرض الإشكال كما لو قيل: الواحد من القوم كالواحد من الأسد و الواحد منهم كالجميع في البطش و البسالة.

و أما قوله تعالى: «و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، و المراد بالإحياء ما يعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق و إطلاق الأسير، و قد عد الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحق إحياء قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122 فمن دل نفسا إلى الإيمان فقد أحياها.

.. " قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ " سورة 85 البروج الاية 4.

قوله تعالى: «قتل أصحاب الأخدود» إشارة إلى قصة الأخدود لتكون توطئة و تمهيدا لما سيجيء من قوله: «إن الذين فتنوا» إلخ و ليس جوابا للقسم البتة.

و الأخدود الشق العظيم في الأرض، و أصحاب الأخدود هم الجبابرة الذين خدوا أخدودا و أضرموا فيها النار و أمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم نقما منهم لإيمانهم فقوله: «قتل» إلخ دعاء عليهم و المراد بالقتل اللعن و الطرد.

و قيل: المراد بأصحاب الأخدود المؤمنون و المؤمنات الذين أحرقوا فيه، و قوله: «قتل» إخبار عن قتلهم بالإحراق و ليس من الدعاء في شيء.

و يضعفه ظهور رجوع الضمائر في قوله: «إذ هم عليها» و «هم على ما يفعلون» و «ما نقموا» إلى أصحاب الأخدود، و المراد بها و خاصة بالثاني و الثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذبين.

قوله تعالى: «النار ذات الوقود» بدل من الأخدود، و الوقود ما يشعل به النار من حطب و غيره، و في توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار و شدة اشتعالها و أجيجها.

قوله تعالى: «إذ هم عليها قعود» أي في حال أولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.

قوله تعالى: «و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود» أي حضور ينظرون و يشاهدون إحراقهم و احتراقهم.

قوله تعالى: «و ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله» النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.

قوله تعالى: «العزيز الحميد الذي له ملك السموات و الأرض و الله على كل شيء شهيد» أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجة على أن أولئك المؤمنين كانوا على الحق في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله و سيجزيهم خير الجزاء، و على أن أولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا و سيذوقون وبال أمرهم و ذلك أنه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الإطلاق و الجميل في فعله على الإطلاق فله وحده كل الجلال و الجمال فمن الواجب أن يخضع له و أن لا يتعرض لجانبه، و إذ كان له ملك السماوات و الأرض فهو المليك على الإطلاق له الأمر و له الحكم فهو رب العالمين فمن الواجب أن يتخذ إلها معبودا و لا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحق و الكافرون في ضلال.

ثم إن الله - و هو الموجد لكل شيء - على كل شيء شهيد لا يخفى عليه شيء من خلقه و لا عمل من أعمال خلقه و لا يحتجب عنه إحسان محسن و لا إساءة مسيء فسيجزي كلا بما عمل.

و بالجملة إذ كان تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به و لم يكن لأولئك الجبابرة أن يتعرضوا لحالهم و لا أن يمسوهم بسوء.

و قال بعض المفسرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: إن القوم إن كانوا مشركين فالذي كانوا ينقمونه من المؤمنين و ينكرونه عليهم لم يكن هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، و إن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحق الموصوف بصفات الجلال و الإكرام عبر بما عبر بإجراء الصفات عليه تعالى.

و فيه غفلة عن أن المشركين و هم الوثنية ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلا الصنع و الإيجاد.

و أما الربوبية التي تستتبع التدبير و الألوهية التي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم و آلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة لا غير.

قوله تعالى: «إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق» الفتنة المحنة و التعذيب، و الذين فتنوا «إلخ» عام يشمل أصحاب الأخدود و مشركي قريش الذين كانوا يفتنون من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين و المؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.

قال في المجمع،: يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم و عذاب الحريق و هما واحد؟ أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق مثل الزقوم و الغسلين و المقامع و لهم مع ذلك الإحراق بالنار انتهى.

............................  

المصادر

القران الكريم

موقع السراج في الطريق الى الله لسماحة الشيخ حبيب الكاظمي لغرض تدقيق الايات القرانية

تفسير الميزان للعلامة محمد حسين الطباطبائي الحكيم قدس سره

كتاب جامع السعادات لمحمد مهدي النراقي قدس سره الشريف

خواطر رمضانية (الخاطرة الرمضانية العشرون) لمحمود الربيعي

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18 كانون الاول/2007 - 7/ذو الحجة/1428