![]() |
أهداف المأمون من وراء بيعته للإمام الرضا |
||
11 ذي القعدة 1423هـ |
||
وقبل أن نطوي صفحة أسباب ودواعي ولاية العهد لا بد أن نشير إلى مجموعة من الأحداث ينكشف من خلالها رياء المأمون ونفاقه السياسي، وتسقط ورقة اليقطين عن سوأته، وتُبين ومن دون أدنى شك عدم جديته في التنازل عن الخلافة أو العقد للإمام الرضا بولاية العهد ومن ذلك: 1- لو كان المأمون صادقاً في عقده للإمام الرضا (ع) بولاية العهد فلنا أن نتساءل ونقول: لماذا لم يعط المأمون ولاية العهد بعد وفاة الإمام الرضا لولده الإمام الجواد؟ بل لماذا لم يتنازل له عن الخلافة؟ ولا أقل لماذا لم يوص له من بعده؟ ألم يقر بأفضليته وأعلميته على من سواه؟ ألم يقرّ أن علم أهل البيت إلهام من الله تعالى، وأن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال(1)؟ إلى غير ذلك من تصريحات المأمون في أهل البيت، والتي تتنافى مع سلوكه العملي، فإن المأمون لو كان صادقاً في نيته ويريد إرجاع الخلافة إلى أهلها لكان عليه أن يتنازل عنها ويهبها للإمام الجواد (ع). 2- إن المأمون – وكما تقدم(2) - قد أمر الرجاء بن أبي الضحاك أن يأتي بالإمام على طريق البصرة والأهواز وفارس، وأن لا يأخذ به على طريق الكوفة والجبل وقم، بل لقد كتب إلى الرضا نفسه بذلك، وواضح أن هذا الإلزام باتباع طريق معين يتنافى مع صدق التنازل عن الخلافة أو إعطاء ولاية العهد، كما أنه لا يوجد سر في هذا الإلزام سوى تخوف المأمون من افتتان الناس بالإمام الرضا، فإن الشيعة في قم والكوفة أكثر بكثير من بقية المناطق، وإن المأمون كان يحسب لاجتماع الشيعة ألف حساب وحساب. 3- إن المأمون كان حريصاً على معرفة ما جرى من الأحداث مع الإمام الرضا في الطريق ليتخذ الموقف المناسب تجاهها؛ ولذا نراه يسأل الرجاء عن حال الإمام في الطريق فيخبره الرجاء بما شاهده منه من الزهد والتقوى والذوبان في الله سبحانه وتعالى، فيأمره المأمون بكتمان هذا الأمر قائلاً: (يا بن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم فلا تخبر أحداً بما شاهدته منه)، وواضح أن المأمون لا يريد أن تنتشر فضائل الإمام، لأنها سوف تسبب لحكمه مضاعفات جسيمة لا يمكنه تجاوزها، ولكنه ولأجل التمويه على رجاء هذا أردف كلامه قائلاً: (لئلا يظهر فضله إلا على لساني...) ولكننا لم نقرأ في كتب التأريخ والرواية أن المأمون قد حدّث عن سلوك الإمام وما جرى منه في الطريق ولو مرة واحدة. 4- إن الأسلوب الذي اتخذه المأمون مع الإمام في أثناء المفاوضات يتنافى ولا ينسجم مع التنازل عن الخلافة أو أعطاء ولاية العهد، وهو أسلوب الإلزام والإجبار والتهديد بالقتل، فكيف لنا أن نتصور أن المأمون كان مخلصاً ونحنُ نراه يهدد الإمام بالقتل إن لم يقبل بولاية العهد؟ أفلم يكن الأجدر به أن يستشير الإمام فيما يفعل خصوصاً مع اعترافه بأن الإمام حجة الله على خلقه وأعلم أهل الأرض؟ 5- تقدمت الإشارة إلى أن المأمون قد قتل الكثير من الشيعة والعلويين فيما بعد، ومن بينهم إخوة الإمام الرضا(ع). 6- لعل فيما رواه لنا الصولي من قضية عبد الله بن أبي سهل النوبختي المنجم دلالة واضحة على عدم جدية المأمون في العقد للرضا بولاية العهد، حيث أن هذا المنجم أراد اختبار ما في نفس المأمون؛ أيحب تمام هذا الأمر أم هو تصنع منه فأخبره أن وقت البيعة للإمام غير صالح، وأن النجوم تدل على أن عقد البيعة للرضا في هذا الوقت لا يتم، وأنها تدل على نكبة المعقود له، فلو كان ظاهر المأمون كباطنه، لترك عقد البيعة في ذلك الوقت وأخره إلى زمان يكون أوفق منه لكن المأمون رفض قوله وحذره أن يرجع ذو الرئاستين عن عزمه على إيقاع العقد في ذلك الوقت، وأنه إذا رجع علم أن ذلك من النوبختي، وأمره بإرجاع الكتاب لئلا يطلع عليه أحد. ثم بلغ النوبختي أن الفضل بن سهل (ذو الرئاستين) قد تنبه أن الوقت غير صالح لوقت البيعة لأنه كان عالماً بالنجوم أيضاً، فخاف النوبختي أن ينُسب رجوع الفضل بن سهل عن عزمه إليه فيقتله المأمون، فركب إلى الفضل وأقنعه عن طريق النجوم أن الوقت صالح على خلاف الحقيقة لأنه كان أعلم منه بالنجوم(3). وواضح من هذا أن المأمون أراد تحقيق مآربه، وأن ولاية العهد ليست إلا شَرَكاً يصطاد بها بعض المكاسب السياسية. 7- إن المأمون وحينما شعر بفشل مسرحيته بفضل الحنكة التي يتمتع بها الإمام (ع) أخذ يستنفر كل خطيب ومتكلم إلى مجلس المناظرة، إذ لعل في هذا الجمع من يستطيع أن يدحض الإمام ولو في مسألة واحدة، وبالتالي يبطل الرأي المعروف من أن الأئمة أهل البيت أعلم الناس وأفضلهم، ومن ثم يطيح بمقام الإمام شيئاً فشيئاً، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، فقد قال الصدوق (رض): كان المأمون يجلب على الرضا (ع) من متكلمي الفرق وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصاً على انقطاع الرضا (ع) عن الحجة مع واحد منهم...(4). وجاء عن أحمد بن علي الأنصاري، قال: سألت أبا الصلت الهروي فقلتُ: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا (ع) مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟ فقال: إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليري الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم، فلما لم يظهر منه في ذلك إلا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له إلا قطعه وألزمه الحجة.(5). ولنستمع إلى المأمون نفسه وهو يحدثنا عن اختراعه الجديد هذا، فقد جاء في جوابه لحميد بن مهران وجمع من العباسيين عندما عاتبوه على العقد للرضا بولاية العهد: قد كان هذا الرجل مستتراً عنا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن، فإذ قد فعلنا به ما فعلنا وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنا نحتاج أن نضع منه قليلاً حتى نصوره عند الرعايا بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه... ولذا نرى المأمون قد فرح كثيراً عندما طلب منه حميد بن مهران أن يسمح له بمجادلة الإمام ليفحمه ويضع من قدره وينزله منزلته ويبين للناس قصوره (ع) عمّا رشحه المأمون له، فأجابه قائلاً:ما شيء أحب إلي من هذا.(6). وبالطبع فإن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وقد فشل المأمون في سياسته هذه ولم يستطع أن يمسك على الإمام مثقال ذرة من الوهن أو الضعف، كما أن ازدياد المناظرات أدى إلى بروز قدرة الإمام العلمية أكثر فأكثر، وازداد المأمون تبعاً لذلك يأساً وقنوطاً، وقد أشار إلى تلك الحقيقة الإمام سلام الله عليه بقوله للنوفلي: (يا نوفلي اتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلتُ نعم، قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبراتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضتُ حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي، علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك يكون الندامة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)(7).(8). هذا وإن الشواهد على رياء المأمون ونفاقه كثيرة جداً، قد أغمضنا عن ذكرها عيناً هنا مراعاة للاختصار. وعلى كل حال فقد تبين أن المأمون لم يكن جاداً في عمله، بل كانت مسألة ولاية العهد ألعوبة سياسية أراد تمريرها على الرأي العام ليتسنى له البقاء على كرسي الخلافة، لكن هل ترك الإمام المأمون أن يمضي في مسرحيته من دون أن يقف في وجهه ويظهر الحقيقة للرأي العام؟ كلا ثم ألف كلا فقد وقف الإمام موقفاً حازماً من المأمون وأبطل جميع مخططاته.
أتضح من جميع ما سبق أن للمأمون العباسي ذكاء خارقاً، وأن العمل الذي قام به كان بمستوى من التعقيد بحيث لم يشعر به حتى أقرب المقربين إليه، وكادت خطته هذه أن تنجح وينخدع بها الكثير وأن يظهر للناس بلباس القداسة، لولا خطط وإجراءات الإمام (ع) فقد حول كل أحلام المأمون إلى سراب لا واقعية له، وقلب السحر على الساحر، وجعل من أهدافه هواء في شبك، فأصبح عام مئتين وواحد – أي عام ولاية العهد – من أكثر الأعوام ازدهاراً في تاريخ التشيع(9) بفضل حنكة الإمام والتوكل على الله سبحانه وتعالى، ونحاول في هذه الصفحات أن نلقي الضوء على مواقف الإمام (ع) في مواجهته لخطة المأمون هذه: 1- إن الإمام رفض طلب المأمون وهو في المدينة، ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا محيص له من ذلك وأن المأمون لا يكف عنه(10)، بل إن بعض النصوص تدل على أنه حُمل إلى مرو بالرغم عنه لا باختياره(11). وواضح أن الإمام أراد توجيه رسالة إلى المأمون من خلال رفضه هذا، يفصح له فيها عن إحاطته بالمؤامرة وعلمه بأهدافها، كما أنه أراد من خلال ذلك أن يثير شكوك الناس حول طبيعة هذا الحدث، ولذا نراه قد بدأ يبين اشمئزازه من المأمون بكل لغة ممكنة، بالبكاء… بالنحيب… بالوداع في حرم النبي… بوداع أهل بيته… بإخباره إياهم بأن هذا سفر الموت، بالطواف حول الكعبة لأجل الوداع. وهكذا فقد استطاع الإمام أن يشحن جو المدينة، بغضاً وكرهاً للمأمون العباسي، وبدأت أوراق اليقطين تتهاوى عن سوأته وفي أول لحظات المشروع، فقد امتلأت قلوب الناس غيظاً على المأمون، وهم يرون أنه ساق إمامهم وبهذه الطريقة الشيطانية إلى الموت، في حين أن المأمون كان يتوخى مزيداً من الاحترام والتقدير على عمله هذا، وكان يتصور أن الناس سوف تحسن الظن به وتسيء الظن بالإمام (ع) لكن الإمام (ع) قام بقلب الموازين منذ اللحظات الأولى. 2- في الوقت الذي كان يريد المأمون عزل الإمام عن الناس، ويحاول بذلك قطع الروابط المعنوية والعاطفية بين الإمام وسائر الناس خصوصاً أنصاره ومحبيه، نلاحظ أن الإمام عمل على تقوية الروابط هذه وفي كل فرصة ممكنة، ولذا نراه في الطريق وفي مرو نفسها يعمل على ترك آثار عديدة يبقى الناس يتذكرونه من خلالها، منها إقامة المعاجز والبراهين على إمامته في الطريق، ومنها إلقاؤه حديث سلسلة الذهب المعروف، وفي حشد حضره عشرات الآلاف من علماء ورواة وغيرهم من مختلف الطوائف والفرق، ومنها خروجه لصلاة العيد في الكيفية التي يخرج بها رسول الله والتي أثرت في النفوس تأثير النار في الحطب والنور في الديجور، وتزعزعت مرو بكاملها وضج الناس بالبكاء والنحيب، مما حدا بالمأمون إلى إصدار أوامره بإرجاع الإمام من منتصف الطريق، ومنها عقد مجالس الدروس في الأندية والمحافل، والذي أدى إلى افتتان الناس بعلمه، مما حدا بالمأمون إلى إصدار أوامره بطرد الناس عن مجلسه(12)، وفي جانب آخر نلاحظ أن الإمام استغل فرصة فسح المأمون لإقامة المناظرات، تلك المناظرات التي أراد منها المأمون الحط من قدر الإمام، وتصويره عند الرعية بصورة من لا يستحق الخلافة، فكان يطلب من العلماء أن يقطعوا الإمام ولو بحجة واحدة لكن (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) و(الحق يعلو ولا يعلى عليه) فكانت نتيجة المناظرات أن الناس كانوا يقولون: (والله إنه أولى بالخلافة من المأمون) فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إلى المأمون فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده(13). 3- استطاع الإمام أن يبين للناس بأنه الخليفة الشرعي المفترض الطاعة من قبل الله سبحانه وتعالى، وأن ليس للمأمون ولا أمثاله التدخل في مثل هذا المنصب – أعني منصب الإمامة والخلافة –، وحينئذ فإن الإمام قد ضيع الفرصة على المأمون الذي أراد بعمله هذا إبطال المقولة المعروفة بان الخلافة مغتصبة، وحاول أن يضفي الشرعية على خلافته وخلافة من سبقه، فقد قام الإمام بإيقاف الناس على الكثير من الكرامات والمعاجز الدالة على إمامته، كما عمد في نيشابور وفي ذلك التجمع الكبير إلى طرح مسألة ترتبط بحقيقة الإسلام وهي مسألة التوحيد، وقد أسند القول في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى نقلاً عن آبائه عن جبرائيل (ع)، ثم وبعد أن سارت القافلة، بيّن الإمام روح التوحيد، فبينما القلوب والأعين منشدة نحو القافلة وهي تودع أنفاس الرسول الأكرم، أخرج الإمام رأسه إليهم فانشدت إليه الأسماع لتعرف ما يريد أن يقوله بقية الله في الأرض، فقال: بشروطها، وأنا من شروطها. فلقد أوضح الإمام لهذا الجمع الكبير بأن التوحيد لا ينجي من عذاب الله الأليم على إطلاقه، بل إن له شروطاً عديدة منها الإقرار بإمامة الرضا (ع) وأنه الإمام والخليفة المفترض الطاعة من الله سبحانه وتعالى لا من المأمون ولا من غيره، ولم يقتصر الإمام في تبليغ رسالته هذه إلى أبناء المجتمع بل واجه بها المأمون نفسه حينما تظاهر أمامه بالتنازل عن الخلافة، فقد أجابه الإمام وبكل حزم قائلاً: (إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك...)(14)، وهكذا استطاع الإمام أن يزيل القداسة التي أراد المأمون أن يتلبس بها وأوضح أن مسألة الخلافة أمر رباني وليس للمأمون التدخل فيه، وأنه هو الإمام المفترض الطاعة من الله سبحانه وتعالى، وأن ولاية العهد لا تزيد من منزلة الإمام في شيء، ولقد أشار (ع) إلى هذه الحقيقة بقوله للمأمون: (وما زدتني في نعمة هي علي من ربي) وجاء في صدر هذا الكلام: (ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي وإن أهلها وغيرهم يسألونني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإن كتبي لنافذة في الأمصار...)(15). 4- إن الإمام رفض كلا عرضي المأمون (الخلافة وولاية العهد) رفضاً قاطعاً، ولو لم يهدده المأمون بالقتل لما قبل بذلك، وقد أكد الإمام هذه الحقيقة في مواطن مختلفة(16)، وقد شاع بين الناس أن الإمام قد رفض مشروع ولاية العهد وقبول الخلافة مع شدة إصرار المأمون على ذلك ولم يقبل إلا بعد أن هُدد بالقتل، مما يعني رفض الإمام للخلافة المأمونية وإيمانه بعدم مشروعيتها، كما أن هذا الرفض سوف يرسم مقايسة في أذهان الناس بين المأمون الذي ضحى بآلاف الأشخاص ومن بينهم أخوه الأمين من أجل الحكم والخلافة، وبين الإمام الذي ينظر إلى هذه الخلافة نظرة استخفاف، مما يؤدي إلى نتيجة عكسية تخالف ما كان يبغيه المأمون من وراء ذلك، وقد أشار الإمام (ع) إلى هذه المسألة قائلاً للمأمون: (تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا(17) بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة...)(18) ، كما أن الإمام أراد أن يوجه رسالة أخرى للمأمون مفادها أن حيل المأمون ومكائده لا تنطلي عليه، فعليه أن يعتبر ويكف عن مثل هذه التصرفات في المستقبل. 5- إن الإمام (ع) وحتى بعد أن هُدد بالقتل لم يقبل بولاية العهد بصورة مطلقة، بل بشروط وضعها لذلك، وهي أن لا يأمر ولا ينهى ولا يولي ولا يعزل ولا يتكلم بين اثنين في حكم ولا يغير شيئاً هو قائم على أصوله(19) وهذا يعني أنه لم يدخل في هذا الأمر إلا دخول خارج منه كما صرح بنفسه بذلك. وطبيعي أن وجود ولي عهد يرفض التدخل في أي صغيرة أو كبيرة من شؤون الدولة يعني أن موقفه كان سلبياً منها وغير راضٍ عنها، بل ولا يمكن أن يكون مخلصاً لها، وينتج أن المأمون لم يستطع إضفاء الشرعية على خلافته ولا إمضاء ما يصدر من حكومته من تصرفات إذ أن الكل علم أن الإمام ليس له في الحكومة سوى الاسم فقط، ويظهر أن المأمون حينما وافق على شروط الإمام كان يتصور أن بمقدوره جر الإمام إلى مهام الخلافة شيئاً فشيئاً وينجح في تمرير مخططاته على الناس، لكن الإمام ما كان لينخدع بألاعيب المأمون هذه، فقد حول مخططاته إلى رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. ففي الوقت الذي يحاول فيه المأمون جر الإمام إلى ساحة الخلافة نجد الإمام يتشبث بتلك الشروط ويرفض طلب الخليفة الرسمي في البلاد، ومن أمثلة ذلك. طلب المأمون من الإمام أن يكتب إلى بعض من يطيعه في النواحي التي فسدت عليه لكي يسكنوا، فيرفض الإمام طلبه ويذكره بتلك الشروط التي تقتضي عدم التدخل مطلقاً، ويجد المأمون نفسه مضطراً لقبول رفض الإمام هذا، وهناك مثال آخر وهو من أهم الأمثلة، فقد طلب المأمون من الإمام أن يؤم الناس في صلاة العيد بذريعة أنه يريد بذلك أن يطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضل الإمام، وقد رفض الإمام هذا الطلب أيضاً وذكر المأمون بتلك الشروط، فلما أصرّ عليه المأمون قبل، ولكن بشرط جعل المأمون يندم على ما فعله وهو أن يخرج (كما خرج رسول الله (ص) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع))(20) لا كما يخرج الآخرون، وبالطبع فإن المأمون لم يدرك أهمية ذلك الشرط ولم يعرف أهداف الإمام من ورائه، فقالها للإمام وهو غير مكترث: اخرج كيف شئت. فخرج الإمام بتلك الكيفية التي لم يألفها الناس في ذلك العهد، فقد عادت بهم الأيام إلى الوراء وهاهم يرون محمد بن عبد الله (ص) يخرج بين ظهرانيهم بذلك الوجه المشرق الذي أعاد للإنسانية عزتها وكرامتها. فما كان من مرو عاصمة الخلافة العباسية إلا أن تزعزعت بالبكاء والنحيب وضجت ضجة واحدة وسقط القواد والجند من على دوابهم إلى الأرض، فأخذ الهلع والخوف رجالات الدولة، فأمر المأمون بإرجاع الإمام من منتصف الطريق. وهكذا تلقى المأمون صفعة قوية لم يكن يتوقعها، فقد أدرك الناس أن منهج الإمام وسلوكه ومفاهيمه تختلف عن سلوك الآخرين، وأن خطه هو خط النبي محمد (ص)، وأن القيادة الربانية لا يمكن أن تتمثل بأي كان ومهما كان، فإن حكومة الأئمة تختلف جذرياً عن غيرها، وأن المنهاج الذي يسيرون عليه والمعيار الذي يتخذونه يتنافى مع منهاج ومعيار بقية الحكام، وبهذا تكون أحلام المأمون قد تبخرت وعصفت بها الرياح، وبقيت أعماله وتصرفاته محكومة بالبطلان، وحكومته قائمة على الغصب والقهر والقوة، ومن دون أن يحصل – بفضل وجود الإمام – على أدنى ذرة من الشرعية. 6- استطاع الإمام أن يجعل قبوله لولاية العهد بمثابة تقوية ساعد الحركة الشيعية، وقام بتسخير منبر الخلافة لنشر الأفكار التي ما كانت تقال على امتداد فترة 160 سنة إلا في حدود الخفاء وإلى الأصحاب والمقربين فقط، فقد استثمر الإمام مناظراته مع جمع من العلماء في تبيين أقوى استدلالات الإمامة وبمحضر المأمون نفسه، كما كتب رسالة (جوامع الشريعة) التي تتضمن جميع المطالب العقائدية الرئيسية والفقه الشيعي إلى فضل بن سهل(21) وبين حديث الإمامة المعروف لعبد العزيز بن مسلم في مرو(22)، وأخذت فضائل أهل البيت تذكر على الألسن وفي كثير من الآفاق الإسلامية وفي المحافل والأندية، وحلقات الدرس والاجتماعات العامة، وهكذا أصبح عام 201 من أفضل الأعوام الشيعية ازدهاراً ونمواً، ولم يجلب المأمون لنفسه إلا الخيبة والخسران المبين، فما كان بوسعه وقد فقد جميع رأس ماله إلا أن يتخذ نفس الأسلوب القذر الذي سار عليه أسلافه وهو أسلوب الاضطهاد والقتل(23) . الهوامش 1- انظر في ذلك الاحتجاج ح2 ص443 وما بعدها، الطبعة الثانية، 1983. 2- في مقالة من المدينة إلى خراسان. 3- انظر القصة في أعلام الورى: ج2 ص75، وعيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت4 ح19. 4- عيون أخبار الرضا ح1ت13، آخر الحديث، 5- البحار 49: 290. 6- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت14 ح1. 7- الغيبة- الطوسي ص57. 8- عيون أخبار الرضا(ع): ت12ح1. 9- كما أن من الأساليب التي أراد منها المأمون الإطاحة بمقام الإمام بث الشائعات على الأئمة ومن ذلك الشائعات التي انتشرت بين الناس بأنهم يعتبرون الناس عبيداً لهم ومن بينها أيضاً ما أشاعه هشام بن إبراهيم الذي وضع لمراقبة الإمام حيث أشاع بأن الرضا قد أحل له الغناء ولما سئل (ع) عن ذلك قال (كذب الزنديق) رجال الكشي: ح958. 10- أنظر أصول الكافي: ج1 ص557 – دار الأسوة. 11- عيون أخبار الرضا (ع): ت40 ح5 وح21. 12- عيون أخبار الرضا (ع): ت42 ج1. 13- البحار : 49: 290. 14- عيون أخبار الرضا (ع): ت40 ح3. 15- البحار: ج49 ص144، وقريب منه في البحار: ج49ص155 نقلاً عن الكافي: ج8. 16- تقدم جملة من النصوص على ذلك في هذه المقالة في فصل – لا بد من ولاية العهد إذن. 17- جدير ذكره هنا أنه لا منافاة بين تولي خلافة الدولة بالصورة الشرعية الصحيحة وبين الزهد، وأن الأئمة كانوا يعدون العدة ويهيئون الأرضية المناسبة لاستلام الحكم وتطبيق الشريعة المحمدية الأصيلة، لكن وحيث أن الناس قد اعتادت على حكم الطواغيت والجبابرة فكانوا يرون أن الحكم يتنافى مع الزهد، خصوصاً وأن الإمام كان يكبر المأمون بـ22 سنة، فان قبوله بولاية العهد يعني الشيء الكثير، ولذا أجبره المأمون على ذلك ولكن بفضل حنكة الإمام وذكائه فقد فشلت مسرحية المأمون تلك وذهبت أحلامه أدراج الرياح. 18- أمالي الصدوق: ص64. 19- انظر الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص255. 20- انظر الإرشاد: ج2 ص264. 21- راجع تحف العقول: ص415 فما بعدها. 22- أصول الكافي: ج11 ص223 فما بعدها – دار الأسوة. 23- إن ما ذكرناه هنا لا يمثل إلا نزراً يسيراً من مواقف الإمام وخططه الرامية إلى إفشال لعبة المأمون وقد اكتفينا بهذا القدر توخياً للأختصار، وبامكان القارئ أن يتعرف على الكثير من المواقف من خلال التأمل في فصول سيرة الإمام عليه السلام، كما نحيط القارئ علماً بأن هناك بحوث تحقيقية حول ولاية العهد قد تصدى لها بعض المحققين منها الكتاب التحقيقي التفصيلي حول الحياة السياسية للإمام الرضا لمؤلفه السيد جعفر مرتضى العاملي فمن شاء فليراجع. |