أسباب تولية المأمون للإمام الرضا (ع)

11 ذي القعدة 1423هـ

بقلم: جعفر المنصوري

مقدمة

إنه لأمر مثير حقاً، ماذا جرى؟ وما عدا مما بدا؟ ألم تمتلئ السجون بالعلويين بالأمس؟ ألم يُلصقوا على الجدران بالمسامير؟ ألم تمتلئ الخزانات برؤوسهم وأجسادهم؟ ألم تُبْنَ عليهم الاسطوانات وهم أحياء؟ ألم يُقتّلوا؟ ألم يُشّردوا؟...

يا سبحان الله! فبين عشية وضحاها يُقرب العلويون إلى السلطة، وتذاع فضائل أهل البيت على المنابر بعد ما يقارب من ثمانين سنة من السب والشتم، ويُعطى لزعيمهم ثاني منصب في الدولة، حقاً إنه أمر يُثير الدهشة، فما دهى المأمون العباسي، أفهل تحول بهذه العجالة إلى أكبر مصلح في التأريخ ليعيد الخلافة إلى أصحابها الحقيقيين؟ ولكن لماذا حرب أبي السرايا وغيرها من الثورات العلوية التي ملأت أصقاع العالم، ألم تكن مطالبة بإعادة الحق إلى أهله؟ فلماذا قتالهم وبكل قوة؟ ولماذا هذه الأعداد الكبيرة من الضحايا؟ ولماذا الخراب والدمار الذي حصل في البلاد؟.

إنها السياسة، إنه الملك والسلطان فالهدف واحد والأساليب متعددة، ما كان المأمون ليغير سياسة آبائه، كلا ثم ألف كلا، فإن الهدف الذي قُتل من أجله موسى بن جعفر (ع) على يدي هارون الرشيد بالأمس، هو نفس الهدف الذي أعطي من أجله الإمام الرضا (ع) ولاية العهد اليوم، نعم إنه تغيير في الأسلوب والطريقة، لكن الهدف هو الهدف، وهو المحافظة على الملك، المحافظة على عرش الخلافة، فالملك عقيم وقد قُتل الأمين وخربت بغداد – ذاك البلد الحضاري الأصيل – من أجله، وقدمت عشرات الآلاف من الضحايا من أجله أيضاً، أفهل يُعطى اليوم وبكل بساطة للإمام الرضا (ع)؟ نقولها بلا تردد وبلا شك، ويقولها العقل السليم، ويقولها التأريخ كلا، فإن اللعبة كبيرة جداً، والمناورة حيكت في ظلام دامس، ونسجت خيوطها من وراء الستار، ولكن... لكن المأمون فاته شيء، شيء عظيم أفسد عليه خيوط مؤامرته، فاته أن خصمه من أهل البيت الذين قد زقوا العلم زقاً، فاته أن خصمه ينظر بنور الله، فقد كشف المؤامرة وعمل بحنكة عجيبة استطاع من خلالها أن يسقط ورقة اليقطين من على سوأة المأمون، وأعاد السهم الذي صوّب إليه، على عقبه ليتجه نحو صدر المأمون ليكون هدفاً له.

أدرك المأمون فشل مسرحيته وتبدد أحلامه فراح يفكر في نفس الأسلوب الذي جرى عليه آباؤه، أسلوب الاضطهاد والقتل، فقدم كأس السم إلى الإمام ليكشف عن نواياه الحقيقية ويتضح زيفه ونفاقه، ولأجل أن نطلع القارئ على حقائق التأريخ المظلم، نحاول أن نشير إلى أهم الأسباب التي أدت بالمأمون العباسي إلى إعطاء ولاية العهد للإمام (ع)، ونستعرض ردود فعل الإمام تجاهها ونسلط الضوء على بعض الأحداث التي تكشف عن زيف المأمون ونفاقه، كما نحاول أن نحيط القارئ بالأحداث التي تتعلق بهذا الموضوع والله الموفق.

نبذة عن الظروف التي كانت تحيط بالمأمون

إن من يُلق نظرة إلى التاريخ يتضح له أن الظروف التي أحاطت بالمأمون تختلف عن الظروف التي أحاطت بغيره من الخلفاء، فإن المأمون العباسي رغم ذكائه وفطنته بل رغم كونه أفضل رجل عباسي من حيث العلم والمعرفة والذكاء والكياسة، إلا أن ميول العباسيين إلى أخيه الأمين كانت أكثر من ميولهم إليه بكثير، وذلك لأن الأمين عباسي الأب والأم، فأمه زبيدة حفيدة المنصور وسيدة البلاط العباسي، وأبوه هارون الرشيد، وكان في حجر الفضل بن يحيى البرمكي وهو أخو الرشيد من الرضاعة، وكان المشرف على مصالحه الفضل بن الربيع – العربي – أما المأمون فإن أمه فارسية، وكانت أقذر جارية في مطبخ الرشيد، وكان مؤدبه الفضل بن سهل – الفارسي – ولذا نرى أن هارون الرشيد يعطي ولاية العهد من بعده لولده الأمين، رغم أن المأمون كان يفوقه فضلاً وسناً – وذلك تماشياً مع الجو العام كما صرح بنفسه في ذلك، فقد قال: (لو لا أم جعفر – يعني زوجته زبيدة – وميل بني هاشم إليه – أي إلى الأمين – لقدمتُ عبد الله عليه...)(1).

بعد أن بايع الرشيد لولده الأمين بولاية العهد أراد أن يضمن للمأمون نصيبه من الخلافة فجعله ولي العهد بعد أخيه، وكتب العهود والمواثيق وأشهد عليها وعلقها في جوف الكعبة(2)، كما ولاه الحرب وولى أخاه السلم، ووهب للمأمون كل ما في العسكر من كراع(3) وسلاح، وكان الرشيد متخوفاً ممّا تؤول إليه الأمور، ولذا نراه يجيب زبيدة زوجته عندما عاتبته على إعطائه السلاح والكراع للمأمون قائلاً: (إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع..)(4).

وكيف لا يتخوف ولا يتخوف الجميع وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق وحلف الأيمان، بأنه كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون (5).

لذا نرى الرشيد يقول:

محمد لا تظلم أخاك فانه              عليك يعود البغي إن كنت باغيا

ولا تعجلن الدهر فيه فانه              إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا

وبعد ما توفي الرشيد وتسلم الخلافة ولده الأمين، بدأ يتحين الفرص لعزل المأمون - الذي ولاه الرشيد المناطق من همدان إلى آخر المشرق بما في ذلك خراسان وجهاتها – وبالفعل فقد خلعه وبايع لابنه موسى ولقبه بالناطق بالحق وهو إذاك طفل رضيع، ثم ندب إلى حربه علي بن عيسى بن ماهان وقال له: أوثق المأمون ولا تقتله حتى تقدم به إليّ، ولما سمع المأمون بذلك خلع أخاه من السلطة وتسمى بإمرة المؤمنين وندب إلى حربه أخاه طاهر بن الحسين.

وبدأ الصراع بين الأخوين واستمر ما يقارب الأربع سنوات، دُمرت فيها البلاد وأهلكت العباد، فقد حوصرت بغداد خمسة عشر شهراً ورميت بالمجانيق، وكثر الخراب والدمار والهدم حتى درست معالم المدينة وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها.

انتهت الحرب بقتل الأمين شر قتلة، حيث ذبحوه من قفاه وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر بن الحسين وتركوا جثته(6)، فنصبه طاهر على برج، وخرج أهل بغداد للنظر وطاهر يقول هذا رأس المخلوع، ثم بعث بالرأس إلى المأمون، فلما وصل إليه الرأس سجد لله شكراً وأعطى لمن أتاه به ألف ألف درهم(7)!!.

وضعت الحرب أوزارها وصفا الملك للمأمون وخضعت له الرقاب، لكن الأخطار أخذت تهدد دولته الداخلية وحكومته، فلقد استغل العلويون الضعف الحاصل في الدولة، نتيجة تلك الصراعات الداخلية وتوالت الثورات فخرج أبو السرايا في الكوفة، وإبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن، وزيد بن موسى بن جعفر في البصرة، ومحمد بن جعفر بالمدينة، وهكذا أخذت الثورات تتسع وتحظى بالتأييد من مختلف الطبقات، ويخرج مع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة، فأخذت الأمور تتفاقم على المأمون إذ أنه للتو خرج من حرب مدمرة ما كان لها غرض إلا تحصيل الملك والخلافة، وهو يرى اليوم كرسي خلافته مهدداً بالزوال فما الحل؟ وعلى من يعتمد؟ أعلى العرب الذين قتل أبناءهم وخرب بلادهم؟ أم على العباسيين الذين قتل زعيمهم؟ إذن كيف يواجه المأمون هذا المد العلوي؟ وكيف يضمن لسلطته البقاء؟ وكيف يحافظ على مكانته الاجتماعية من الزوال؟ إنه لا يوجد عند المأمون من ناصر ولا معين سوى الخراسانيين الذين كانوا يتمتعون بميول إلى أهل البيت (ع) وقضية نيشابور وصلاة العيد في مرو خير شاهد على ذلك.

إذن فماذا على المأمون أن يفعل، وقد أدرك خطورة الموقف، وأيقن أن الجري على منهج آبائه القائم على البطش والإرهاب يؤدي إلى زوال خلافته.

عرض الخلافة أولاً

لقد كان المنفذ الوحيد الذي يضمن بقاء الحاكم العباسي في السلطة هو مهادنة العلويين الذين كانوا شوكة في عيون السلطة الجائرة، فقد أدرك المأمون أن القاعدة الجماهيرية العلوية أخذت بالانتشار والتزايد، وأن زحفها المقدس لا يمكن أن يقف حتى يقتلع الفساد من جذوره وتعاد الراية إلى أهلها الحقيقيين، والمأمون موقن سلفاً بأن أصل حكمهم الجائر ما كان ليقوم لولا التظاهر بالدعوة للرضا من آل محمد، فكيف يستوعب الموقف خصوصاً وأن أنصاره الخراسانيين كانوا من أتباع أهل البيت؟ إنه لابد من عمل يوفق فيه المأمون بين إرضاء العرب الذين دمر بلدانهم وقتل الكثير من أبنائهم، وإرضاء الخراسانيين الذين ناصروه وأوصلوه إلى دفة الحكم، وإيقاف الثورات العلوية التي كادت تختطف كرسي الخلافة منه، انه موقف حرج للغاية، تأمل المأمون كثيراً وهو عارف بأن النضوج السياسي والفكري ما كان ليحصل لولا وجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فأراد أن يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد، فقرر أن يعطي ولاية العهد – التي يأتي التعرض لها تفصيلاً فيما بعد – للإمام الرضا (ع)، لكن المأمون كان على مستوى من الذكاء، عارفاً بأن الأمة وخصوصاً العلويين لا يقبلون بغير تحكيم الراية المحمدية الأصيلة، وأن أغراضه العديدة – التي سنشير إليها فيما بعد – لا تستوفي لو عرض على الإمام ولاية العهد ابتداءً، فبادر بعرض الخلافة على الإمام – وهو على يقين بأن الإمام سوف لن يقبلها – قائلاً له: (يا ابن رسول الله قد عرفتُ علمك وفضلك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة مني، فقال الرضا (ع): بالعبودية لله عز وجل افتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزوجل، فقال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك)(8).

حقيقة إنه ذكاء كبير ودقة في العمل منقطعة النظير، فأي خلافة هذه التي يتصرف في شؤونها المأمون وتفتقر إلى توفر أبسط شروطها الموضوعية، فكيف يحقق الإمام العدالة في الأرض وهو محاط بمجموعة من الوزراء والقواد وقد تلطخت أيديهم بالكثير من الدماء من أجل الحكم والخلافة، أفلا يعني قبولها الانتحار؟! أفلا يعني أن الإمام يضع نفسه في قفص لا يمكن الخروج منه فيما بعد؟ فإن قبول خلافة كهذه ليس إلا مجازفة لا يقدم عليها إلا شقي جاهل ليس لديه أدنى اطلاع.

هذا مضافاً إلى أن الإمام كان عالماً بمكر المأمون ودهائه وأنّ تنازله عن الخلافة ليس جدياً وأن من ورائه مكائد عديدة، وقد جاءته بالأمس رسالة الفضل وهي تدعوه للقدوم إلى خراسان ليكون شريكاً للمأمون في أمره فقد جاء في الرسالة: (فإذا أتاك كتابي جعلتُ فداك – وأمكنك أن لا تضعه من يدك حتى تسير إلى أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه وأولى الناس بما تحت يده..)(9).

ولنا أن نتساءل عن معنى الشركة في الأمر، فهو لا يخلو في واقعه من أمرين، إما أن يكون المأمون خليفة والإمام ولي عهد – وهو الظاهر من العبارة – وهذا يعني أن المأمون كان عازماً من أول الأمر على إعطاء ولاية العهد دون الخلافة، وإنما تظاهر بإعطاء الخلافة ليراه الناس مرتدياً لباس القديسين وقد قدم الخلافة للإمام على طبق من ذهب، لكن الإمام رفضها فيكون المأمون معذوراً عند سائر الموالين والمحبين لأهل البيت حينئذ، أو يكون الإمام هو الخليفة والمأمون ولي عهده، وهذا يعني أن التنازل عن الخلافة كان مسبوقاً بشرط وهو تولي المأمون لولاية العهد، وحينئذ وحيث أن الإمام يكبر المأمون بـ (22) سنة فإنه سيموت في النتيجة إن لم يكن المأمون قد أعد العدة لقتله، وبالتالي يتسلم المأمون الخلافة ويكون مرتاح البال هادئ الضمير وقد أرضى الجميع وحافظ على سلطانه أيضاً.

على أن الشواهد على زيف المأمون كثيرة جداً، أفهل يعقل أن المأمون يتنازل عن الخلافة بهذه السهولة؟ فلماذا الحرب إذن؟ لماذا الخراب والدمار؟ لماذا آلاف الضحايا؟ لماذا السجود شكراً عند وصول رأس أخيه الأمين إليه؟ ولماذا إعطاء ألف ألف درهم لمن جاءه بالرأس؟ أليس من أجل الملك والسلطان؟. ثم لماذا الإصرار على ولاية العهد؟ ولماذا التهديد بالقتل عند رفضها؟، أفهل يتناسب القتل مع فكرة التنازل عن الخلافة؟! ثم صلاة العيد خير شاهد على ما نريد، فلماذا الإرجاع حيث أن المأمون عندما عرف أن مرو تزعزعت بالبكاء والنحيب، وخاف من افتتان الناس بالإمام (ع) أمر بإرجاعه بإشارة من الفضل بن سهل على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله، لماذا الخوف من افتتان الناس بالإمام؟ فليفتتنوا وليكن هو الخليفة أفليس المأمون كان يريد التنازل عنها؟ وغير ذلك الكثير الكثير من الشواهد التي تفضح المأمون وتكشف سوء نواياه، وتبين أنه لم يفكر آناً ما في التنحي عن الخلافة، وكان جل همه أن يظهر بمظهر المصلح والورع التقي، ويُري الناس بأنه أعاد الخلافة إلى أهلها لكي يتمكن من الحفاظ على مملكته، لكن الإمام الذي ألهمه الله علمه وحكمته لم تفته خطط المأمون، ولم يتركه يظهر للناس بلباس القديسين فأجابه قائلاً: (إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك).

فورم أنف المأمون من جواب الإمام الحاسم، فراح يقول: (لا بد لك من قبول هذا الأمر) فأجابه الإمام (ع) (لستُ افعل ذلك طائعاً)(10).

وورد أن المفاوضات دامت نحواً من شهرين (11)، أسفرت عن رفض الإمام القاطع تسلم الخلافة، وقد أثار رفض الإمام هذا دهشة الوزير الفضل بن سهل (ذي الرياستين) الذي يظهر أنه لم يكن يعرف خيوط اللعبة، ولذا نراه قد خرج على الناس قائلاً: (واعجباه وقد رأيت عجباً... رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى: قد رأيت أن أقلدك أمور المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك، ورأيت علي بن موسى الرضا يقول: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوة، فما رأيت خلافة قط أضيع منها، ان أمير المؤمنين يتفصى منها ويعرضها على علي بن موسى وعلي بن موسى يرفضها ويأبى)(12).

مع تبريرات المأمون

بعد أن عرف القارئ الكريم موقف الإمام (ع) من عرض الخلافة عليه، نحاول أن نقف قليلاً مع تبريرات المأمون التي أدت به إلى التنازل عن الخلافة للإمام سلام الله عليه ونرى كيف أنها كانت متناقضة ولا تنسجم مع مجريات الأحداث:

1- إن المأمون لما أراد العقد للرضا علي بن موسى (ع) وحدث نفسه بذلك، أحضر الفضل بن سهل وأعلمه بما قد عزم عليه من ذلك، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له المأمون: (إني عاهدتُ الله أنني إن ظفرت بالمخلوع – يعني الأمين – أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض...)(13).

ونحن بدورنا لم نفهم وجهاً لكلام المأمون هذا، فكيف يصح أن يعقد العهد على إعطاء الخلافة ويكون الوفاء باعطاء ولاية العهد؟ فبعد أن رفض الإمام تسلم الخلافة يكون المأمون قد عجز عن الوفاء بعهده، فما الداعي حينئذ إلى الإصرار والتهديد على قبول ولاية العهد؟! فالعهد المزعوم – الذي عقده المأمون مع الله – لم يتم الوفاء به على كافة التقادير.

نعم قد يكون مراد المأمون من تسليم الخلافة إعطاء ولاية العهد، وحينئذ إن كان الرجل قد وفى بعهده فماذا يعني تنازله عن الخلافة – المتقدم – إذن؟ ألم تكن مسرحية حاول تمريرها على الرأي العام ليكون في نظرهم زاهداً قديساً قد أعاد الخلافة إلى أهلها كما تقدمت الإشارة إليه؟

2- إن المأمون أراد من خلال ذلك مكأفاة الإمام علي بن أبي طالب في ولده(14)، ومن الواضح أن بطلان هذا الادعاء لا يحتاج إلى مزيد بيان، فإن الأعداد الكثيرة التي قتلها المأمون من العلويين وأتباعهم خير شاهد على كذب مزاعمه هذه.

ومن بين هؤلاء إخوة الإمام الرضا (ع) زيد بن موسى بن جعفر(15)، الذي سقاه المأمون سماً، وأحمد بن موسى بن جعفر الذي خرج للطلب بثأر أخيه الرضا (ع) وكان معه ثلاثة آلاف من العلويين فاشتبكوا مع جيوش المأمون في قم وخراسان في معارك أدت إلى استشهاد أحمد بن موسى مع الكثير من أصحابه(16)، وهارون بن موسى الذي كان في القافلة التي تقصد خراسان وكانت تضم 22 علوياً وعلى رأسها السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر (ع) فأرسل المأمون إلى هذه القافلة جنوداً قتلوا وشردوا كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه فقتلوه وهكذا غيرهم.

يقول الكاتب الفارسي علي أكبر تشيد: (إن كثيراً من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان أيام تولي الإمام ولاية العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمام (ع) وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل أو إلقاء القبض على كل علوي...)(17).

هذا بقطع النظر عن جريمته الكبرى وقتله للإمام الرضا (ع) التي تدل عليها الشواهد، منها الرسالة التي وجهها عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (ع) إلى المأمون رداً على رسالة المأمون إليه، التي أخبره فيها بأنه يريد أن يوليه العهد، والتي جاءت بعد استشهاد الإمام الرضا (ع) فقد جاء في مقاتل الطالبيين: (وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب إليه بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه ويبايع له...

فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها: فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن – صلوات الله عليه – بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.

والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.

هبني لاثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم، وكنت الطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا...الخ.

ونقل في المقاتل أيضاً نصاً أخر للرسالة ولعلها رسالة أخرى جاء فيها: وصل كتابك وفهمته تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي بحيلة المغتال القاصد لسفك دمي.

وعجبتُ من بَذْلِكَ العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟

أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟ فوالله لأن أقذف وأنا حي في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل.

أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟...الخ(18).

فقد أفصحت الرسالتان عن مكائد المأمون وسوء نيته وقيامه بقتل الإمام الرضا (ع) واغتياله للعلويين واحداً فواحداً.

وهكذا يجد المتتبع أقوال المأمون وتبريراته بعيدة كل البعد عن واقع الأحداث كما أنها متناقضة فيما بينها وسيأتي تفصيل مواقف المأمون أكثر عند التعرض لأسباب ولاية العهد إن شاء الله.

لا بد من ولاية العهد إذن!

بعد أن فشلت المفاوضات حول منصب الخلافة، وحسم الأمر برفض الإمام لتولي ذلك المنصب، لمعرفته بمناورات المأمون وخططه السياسية – كما تقدم – قام المأمون بعرض ولاية العهد قائلاً: (فإن لم تقبل الخلافة ولم تجب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة من بعدي...)(19) وقد رفض الإمام هذا الطلب أيضاً رفضاً قاطعاً لأنه كان عالماً بأغراض المأمون من وراء ذلك، وأن غاية ما يريده هو تثبيت أركان سلطنته على ما يأتي بيانه عند ذكر أسباب إعطاء ولاية العهد، وإن النصوص التي دلت على رفض الإمام كثيرة جداً:

فقد جاء في إرشاد المفيد بعد أن نقل عرض الخلافة على الإمام ورفض الإمام لها: فردّ عليه الرسالة – أي المأمون: فإذا أبيت ما عرضتُ عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي، فأبى عليه الرضا إباءً شديداً، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم وقال له: إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك، فقال له الرضا (ع): (الله الله – يا أمير المؤمنين – إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه) قال له: فإني موليك العهد من بعدي.

فقال له: (اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين) فقال له المأمون كلاماً كالتهديد على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك فإنني لا أجد محيصاً عنه، فقال له الرضا (ع): (فاني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى، ولا أفتي ولا أقضي، ولا أُولي ولا أعزل، ولا أغير شيئاً مما هو قائم) فأجابه المأمون إلى ذلك كله(20).

وجاء في مقاتل الطالبيين: (فأرسلهما – يعني الفضل بن سهل وأخاه الحسن – إلى علي بن موسى فعرضا عليه ذلك فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت وإلا فعلنا بك وضعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد، ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد ثم قال له: إن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك، وقال: من خالف فاضربوا عنقه ولا بد من قبول ذلك، فأجابه علي بن موسى إلى ما التمس (21).

وجاء في الأمالي والعيون وغيرهما أن الإمام الرضا (ع) قال للمأمون: والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله (ص) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأُدفن في أرض غربة إلى جانب هارون الرشيد، فبكى المأمون ثم قال له بابن رسول الله يا بن ومن ذا الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي، فقال الرضا (ع) أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت، فقال المأمون يابن رسول الله، إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس أنك زاهد في الدنيا، فقال الرضا (ع) والله ما كذبت منذُ خلقني ربي عز وجل وما زهدتُ في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد قال: الأمان على الصدق، قال لك الأمان، قال: تريد بذلك أن يقول الناس أن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟ فغضب المأمون، ثم قال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (ع): قد نهاني الله عز وجل أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقضُ رسماً ولا سنة وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (ع) لذلك(22).

كما حدثنا أبو الصلت الهروي أنه دخل على الإمام الرضا (ع) فقال له: يابن رسول الله إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال (ع): قد علم الله كراهتي لذلك فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترتُ القبول على القتل... إلى أن قال: ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان(23).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة والتي يتلخص منها عدة أمور:

1- إن الإمام رفض الدخول في ولاية العهد رفضاً قاطعاً.

2- إن المأمون ألزمه بذلك وأجبره عليه بل وهدده بالقتل إن رفض ذلك.

3- إن الإمام ومن منطلق الحفاظ على نفسه من القتل قبل الدخول في ولاية العهد، لكنه اشترط شروطاً تجعل من دخوله في ولاية العهد رمزياً لا أكثر، وتبين للملأ أن الإمام غير راضِ عن الدخول في هذا الأمر، وهذه الشروط هي:

أ- أن لا يعزل ولا يوحي أحداً.

ب- أن لا يأمر ولا ينهى ولا يفتي ولا يقضي.

د- أن لا ينقض رسماً ولا سنة.

هـ- أن لا يغير شيئاً مما هو قائم.

و- أن يكون مشيراً من بعيد في شؤون الدولة(24).

هذا وإن رفض الإمام لولاية العهد لم يكن تفصياً من الخلافة وهروباً منها، كيف وإن الأئمة كان جل همهم إقامة حكومة إسلامية عادلة في الأرض، وبذلوا الجهد الكبير في تهيئة الأرضية المناسبة لذلك؟ لكن الإمام كان عالماً وعارفاً بمآرب المأمون ومخططاته، وأن ولاية العهد ليست إلا ألعوبة أراد المأمون تمريرها على عامة الناس، على ما سيأتي تفصيله في ذكر أسباب ولاية العهد، وقد ذكر المدائني عن رجاله قال: لما جلس الرضا علي بن موسى (ع) في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء وخفقت الألوية على رأسه، فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا (ع) أنه قال: كنتُ بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إليّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إليّ أن ادنُ مني فدنوت منه: فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: (لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به، فإنه شيء لا يتم)(25).

الأسباب والدواعي لولاية العهد:

لقد اتضح للقارئ الكريم أن للمأمون العباسي مناورات سياسية وأهدافاً عديدة أراد تحقيقها من خلال إعطاء الإمام ولاية العهد، ولذا رأينا أن الإمام قد رفض تلك الولاية رفضاً قاطعاً حتى هُدد بالقتل، وحينئذ قبل بذلك مكرهاً وشرط شروطاً عديدة لقبولها، وهذا يعني وكما تقدم أن الإمام لم يدخل في هذا الأمر إلا دخول الخارج منه، وأن الذي حمله على قبول ذلك ما حمل جده أمير المؤمنين على الدخول في الشورى، كما صرح بنفسه (ع) بذلك(26).

ولكي ينجلي الغبار وتتضح الحقيقة ناصعة بيضاء نتعرض بشيء من التفصيل إلى أهم الأسباب والدواعي التي دفعت المأمون إلى إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا (ع).

1- إن المأمون العباسي عالم بأن مركز الخطر الحقيقي الذي يهدد حكومته هو وجود الإمام (ع)، وهو بصير بأن النضوج الفكري والسياسي ما كان ليتولد في المجتمع لولا وجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فأراد أن يحد من خطر وجود الإمام بوضعه تحت الرقابة، حتى يتمكن من معرفة أخباره والتقليل من اتصال أتباعه به، بل ويحاول التعرف على أهم الأقطاب الموالية التي تتصل بالإمام (ع)، وبالتالي يستطيع القضاء عليها بيسرٍ وسهولة.

وقد حدثنا الريان بن الصلت عن ذلك حيث قال: وكان هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني من أخص الناس عند الرضا (ع) من قبل أن يحمل، وكان عالماً أديباً لبيباً وكانت أمور الرضا (ع) تجري من عنده وعلى يده، وتصير الأموال من النواحي كلها إليه قبل حمل أبي الحسن (ع)، فلما حمل أبو الحسن (ع) اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين والمأمون، فقربه ذو الرئاستين وأدناه، فكان ينقل أخبار الرضا (ع) إلى ذي الرئاستين والمأمون، فحظي بذلك عندهما، وكان لا يخفي عليهما من أخباره شيئاً، فولاه المأمون حجابة الرضا، وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا (ع) فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه، وكان لا يتكلم الرضا (ع) في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون وذي الرياستين..(27).

كما أن المأمون العباسي قد أشار بنفسه لهذه الحقيقة في معرض جوابه على حميد بن مهران وجمع من العباسيين عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه من البيعة للإمام الرضا (ع)، فقد قال: (...وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ويأتي علينا منه ما لا نطيقه...)(28).

وتندرج في هذا النطاق أمور أخرى منها تزويجه الإمام الرضا ابنته أم حبيبة(29)، التي تصغره بحوالي أربعين سنة لكي تحصي عليه أنفاسه وتكون رقيباً داخلياً أميناً عليه.

ولعل منها أيضاً إرسال بعض الجواري إلى الإمام بعنوان هدية(30) فإن المأمون كان يدس الوصائف هدايا ليطلعنه على أخبار من شاء... وأن للمأمون على كل واحد صاحب خبر(31)، فينتج من جمع الأحداث بعضها لبعض، أن إرساله بعض الجواري كان لعين الهدف المتقدم. كما نلاحظ أن الإمام قد كتب في رسالة منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي يقول: (وأما ما طلبت من الأذن علي، فإن الدخول إليّ صعب، وهؤلاء قد ضيقوا عليّ في ذلك، فلست تقدر عليه الآن...)(32).

2- وحيث أن الجو العام كان يعلم أن الخلافة مغتصبة، وأن أهل البيت أحق الناس بها، فقد أراد المأمون بعمله هذا إضفاء الشرعية على خلافته وخلافة من سبقه، فوجود الإمام في الخلافة المأمونية يعني شرعيتها وبالتالي شرعية الحكومات السابقة التي انبثقت منها خلافة المأمون، وفي هذا الصدد نلاحظ المأمون يقول: قد كان هذا الرجل مستتراً عنا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتتنون به أنه ليس مما دعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا من دونه(33)... وحينئذ يكون المأمون – وفي تصوره بالطبع –قد استطاع أن يدحض ركيزتين قد ارتكز عليهما الأتباع والموالون في دعوتهم للحق وهما المظلومية المتمثلة بسلب الخلافة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والقداسة المتمثلة بزهدهم وورعهم وتقواهم وابتعادهم عن العمل في الحكومات الظالمة، وحينما يرى الناس أن الإمام يتولى عهد سلطان قاهر طليق اليد في أمور البلاد فسوف ينكشف لهم أنه لم يكن مظلوماً ولا مقدساً، خصوصاً وأن الإمام كان يكبر المأمون بـ22 عاماً مما قد يوحي في الأذهان أنه كان من محبي التسلط فإن الوضع الطبيعي أن يكون ولي العهد أصغر من الخليفة بكثير، ولا أقل أن يكون مقارباً له في العمر، أما أن يكون أكبر من الخليفة، بهذا الفارق ومع ذلك يقبل بتولي العهد فقد يعني الشيء الكثير، ولذا نلاحظ أن رفض الإمام كان قاطعاً غير قابل لأدنى مناقشة، وقد تقدمت النصوص على ذلك فلا نعيد.

3- القضاء على نضال التشيع الذي زلزل الأرض تحت أقدام المأمون، فقد تفجرت عليه الثورات من كل حدب وصوب، في وقت كانت حكومته بأمس الحاجة إلى الأنصار والأعوان، بعد الانقسام الحاصل في البيت العباسي والحروب الدامية التي جرت بينه وبين أخيه الأمين، فأراد أن يجعل من الإمام الرضا ورقة سياسية يساوم بها العلويين، ويتخلص من المد الثوري المستمر الذي كاد أن يقض أركان مملكته، فعند تولي الإمام الرضا لولاية العهد يكون العلويون قد هدأت ثائرتهم، إذ لا يمكنهم القيام ضد حكومة يكون الإمام أحد أفرادها، وقد نلاحظ في رسالة المأمون إلى العباسيين ما يشير إلى هذا الهدف، فقد جاء في رسالته وهو يتحدث عن ولاية العهد: (فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم...

وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم، وأنتم ساهون لاهون تائهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم...).

وهذه الفقرة من الرسالة إن دلت فإنما تدل على أن المأمون كان يشعر بمواطن الخطر، وأن الخلافة العباسية مهددة بالزوال، فأراد تثبيت أركانها ودفع السوء عنها، ولم يجد المأمون سبيلاً للحفاظ على مملكته وحقن دماء أبناء عمومته، إلا بالصلح مع العلويين ومهادنتهم، فقام بإعطاء ولاية العهد للإمام (ع)، ونستطيع القول إن المأمون قد نجح في إيقاف المد الثوري العلوي بلعبته هذه، ولم يحدثنا التأريخ بأن هناك ثورات قد انطلقت في فترة تولي الإمام لولاية العهد.

4- إن المأمون لم يكن ليتمكن من الوصول إلى السلطة لولا سيوف الخراسانيين الذين كانوا يتمتعون بميول إلى أهل البيت (عليهم السلام)، فكان عليه أن يعمل عملاً يُرضي فيه العرب الذين قتل رجالهم وخرب بلادهم، ويحافظ فيه على أنصاره الخراسانيين، فكانت فكرة ولاية العهد، وبالطبع فإن الخراسانيين عندما يرون أن ولي عهد المأمون هو الإمام الرضا (ع) سوف يشعرون بصدقه وقداسته، كما أن العرب سوف يرون بأم أعينهم بأن قتالهم لم يكن من أجل الحكم والسلطان، بل من أجل خدمة الأمة والنظر في مصالحها، وأن المأمون وإن اتخذ من مرو عاصمة له إلا أنه لا يفرق بين فارسي وغيره، وحينما رأى أن الإصلاح يتحقق في إخراج الأمر من بني العباس أخرجه وخالف في ذلك سيرة آبائه وأسلافه.

5- حيث أن أم المأمون هي مراجل الفارسية – أقذر جارية في مطبخ الرشيد – ومؤدبه الفضل بن سهل الفارسي، وعاصمته مرو الفارسية، كما أنه قام بقتل الكثير من العرب وقتل زعيمهم الأمين (أخيه) وخرب بلادهم، فقد كان مقامه الاجتماعي متدنياً وسمعته سيئة جداً، وكان مرفوضاً عند العرب والعباسيين، بل وعند سائر الناس أيضاً، حتى أن المأمون جلس مرة يستاك على دجلة من وراء ستر، فمرّ ملاّح وهو يقول بأعلى صوته: (أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه؟!) والشواهد على تدني مقام المأمون الاجتماعي، سواء من جهة أمه أو من جهة قتاله العرب وقتل أخيه كثيرة لا مجال لذكرها هنا، والغرض أن المأمون أراد بخطته تلك – إعطاء ولاية العهد للإمام (ع) – إعادة مقامه الاجتماعي، وحاول أن يكسب معنوية وشهرة عظيمة، إذ كان من الطبيعي أن يثني عليه الأكثر إن لم يكن الجميع؛ لكونه قد انتخب شخصية مرموقة ومقدسة ومن نسل النبي محمد (ص) لتولي هذا المنصب الخطير، وقد حرم اخوته وأبناءه من هذا الامتياز.

6- كان في تصور المأمون أنه يستطيع من خلال هذا العمل أن يجعل من الإمام مستشاراً لنظام خلافته، وبالتالي يتمكن من القضاء على أي تمرد أو حركة مناوئة تحاول الإطاحة بعرشه؛ وذلك من خلال الشرف والاحترام الكبير الذي يتمتع به الإمام أولاً، والحنكة والعلم ومعرفة توجيه الأحداث بصورة صحيحة ثانياً، ولذا نرى المأمون يقول للإمام: يا أبا الحسن لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي فسدت علينا...(34) وقد رفض الإمام ذلك الطلب على ما يأتي بيانه في مواقف الإمام إن شاء الله.

هذا وهناك أهداف أخرى للمأمون من وراء عمله هذا قد أغمضنا عنها عيناً توخياً للاختصار.

وقد تلخص من مجموع ما ذكرنا أن جل هدف المأمون كان الحفاظ على ملكه وسلطانه وأنه لم يكن يرد نقل الخلافة بل العكس هو الصحيح. 

 


الهوامش
1 - تاريخ الخلفاء.

2- مروج الذهب: ج3 ص387، المسعودي – مؤسسة الأعلمي، وتاريخ الطبرسي أحداث سنة 186، الأخبار الطوال ص 387.

3- الكراع: الخيل والدواب الماشية.

4- المسعودي، مروج الذهب ج3 ص 386.

5- الحياة السياسية للإمام الرضا (ع): سيد جعفر مرتضى العاملي، عن الوزراء والكتاب ص222.

6 - الطبري، أحداث سنة 198.

7 - الطبري،أحداث سنة 198.

8- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ص151 ت40 ج2.

9- حياة الإمام الرضا (ع): جعفر مرتضى العاملي ص445، نقلاً عن كتاب التدوين لعبد الكريم الرافعي الشافعي.

10- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ب40 ج3.

11- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ب40 ج21.

12- كشف الغمة: ج2 ص799.

13- انظر في ذلك مقاتل الطالبيين: ص454، والفصول المهمة: ص255، والبحار: ج49 ص145، والأرشاد: ح2 ص261.

14- القرشي – حياة الإمام الرضا (ع) ح2 عن الآداب السلطانية ص219.

15- أنظر البحار: ج48 ص315.

16- أعيان الشيعة4: 581 دار التعارف للمطبوعات.

17- الحياة السياسية للإمام الرضا: جعفر مرتضى العاملي ص428.

18- مقاتل الطالبيين – أبو الفرج الأصفهاني – ص498- 500.

19- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت40 ح3. وأمالي الصدوق ص65.

20- الإرشاد ح2 ص259 – مؤسسة آل البيت.

21- مقاتل الطالبين ص454 منشورات الشريف الرضي.

22- الأمالي للصدوق ص65 وعيون أخبار الرضا: ج2 ت40 ح3 وقريب منه ما في المناقب ح4 ص363.

23- البحار 49: 130، الأمالي ص68.

24- انظر الإرشاد: ج2 ص259، والأمالي للصدوق: ص68، والفصول المهمة: ص255، وغير ذلك من المصادر.

25- إرشاد المفيد ح2 ص263 – تحقيق مؤسسة آل البيت.

26- الأمالي: ص68، وعيون اخبار الرضا (ع): ج2 ت40 ح4.

27- البحار: ج49 ص139.

28- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت41 ح1.

29- إثبات الوصية للمسعودي ص 179.

30- البحار:  ج49 ص164.

31- انظر حياة الإمام الرضا – جعفر مرتضى العاملي ص213.

32- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت47 ح18.

33- عيون أخبار الرضا (ع): ج2 ت41 ح1.

34- البحار 49: 155.

الصفحة الرئيسيةاتصلوا بنا