من الطبيعي أن المرء يولد مرة حين إطلالته وخروجه إلى الحياة الدنيا
عند الولادة، ولكن من النادر الملفت للنظر أن بعض من الناس يولدون
ولادة جديدة ثانية عند وفاتهم ورحيلهم من هذه الحياة، حيث يكون تاريخ
رحيلهم شهادة ميلاد متفردة توثق خلودهم وسطوع نجمهم في عالم العظماء
....
شهادة تعريف تزخر بالمآثر وتحتفي بالمفاخر وترتل آيات المجد
والكفاح، خطتها أنامل التاريخ ونقشتها ريشة الإنصاف لتسطر سيرة عطرة
تفوح منها روائع الأتقياء وجواهر العلماء واشراقة العظماء يطلع عليها
وينشد لها من لم يعرفهم من قبل حال حياتهم.
وهكذا هم العظماء لا يفقدهم الموت الق العظمة ووهجها، بل يبزغ نجمهم
ويشع بريقهم حين تعرج أرواحهم الزاهرة إلى بارئها حيث حظيرة القدس
الإلهي، فيحالون إلى ومضة سماوية تخطف الأبصار وتشد القلوب وتحبس
الأنفاس إعجابا وإكبارا ومحبة.
كربلاء كانت ومازالت تضم بين دفتي أساطير عظمائها الخالدين قبسات
نيرة لأمثال هؤلاء، فكانت مهدا ينطلق منه ويأوي إليه رجال عانقوا المجد
بذراها المقدس، فتاقت أرواحهم لها سكنا ومؤلا.
وليس ابلغ شاهد على هذا من سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين(ع) وصحبه
الأبرار (رض) الذين خطت لهم كربلاء شهادة ميلاد مصدقة بدمائهم الزكية،
حيث عفت كربلاء عليهم ثراها وعفرت بدمائهم الطاهرة جبينها لتخط لهم
ميلاد الخلود إلى آخر الدهر.
وربما قد اختارتها الأقدار أو اختارها الأخيار لتكون لهم مثوى أخيرا
وميلادا آخر.
ومن خير مصاديق العظماء الراحل الفقيد سماحة السيد آية الله محمد
رضا الشيرازي (قدس سره ).... ولسنا هنا في معرض تأبين الفقيد الراحل
بقدر ماهو احتفاء بميلاده المجيد - ميلاده الثاني- لنوقد بذكراه شموع
الميلاد لاشموع الرحيل والوداع.... واليكم أحداث الميلاد الخالد.
من الطبيعي أن نبكي وننعى من عرفناه في حياته ولمسنا طيب خصاله
وتنعمنا بعظيم آثاره وروائع أفعاله... ولكن أن نبكي حرقة ونتألم حسرة
على من تعرفنا عليه بعد مماته فهذا ما لايكون إلا لمن أتاه الله من منه
وفضله حظ وافر من العظمة والشموخ والسؤدد.....
نعم هكذا كان حال الكثيرين ممن لم يتعرفوا على سماحة الفقيد الراحل
في حياته إلا إن ذلك التشييع الجليل لجثمانه المبارك الذي شد القلوب
وأذهل الألباب ثار فضول الكثيرين ممن لم يتعرفوا على سماحته عن كثب ولم
تواتيهم الحياة بشرف لقاءه أو سماعه والتماس مآثره، إلا أن عظمة
المصيبة برحيله التي اهتز لها بحر متلاطم من الجموع البشرية الزاحفة
خلف جنازته الطاهرة ومن مختلف الفئات والأعمار والثقافات والانتماءات
والتحزبات... منظر مهيب يأخذ بمجامع القلوب، وتفيض لهوله إحراق العيون
سخاءا وحرقة وحسرة ولهفة..... يستوقف المتطلع إليه ذهولا واندهاشا
وتساؤلا ... ترى من هذا العظيم الذي ترنوا إليه الأرواح والقلوب دون
سابق معرفة أو تنظيم أو توجيه؟! فكان حري إلا باللبيب التنقيب عن سر
هذا الالتفاف العجيب لذلك التشييع المهيب لا سيما أن الفقيد ليس من ذوي
السلطات السياسية الفاعلة أو الثروات المادية الهائلة أو غيرها من
المميزات الدنيوية التي قد ينجذب إليها الناس ويحوطونها ما درت معايشهم
وتعلقت مصالحهم من توجهات سياسية أو تحزبات عشائرية أو عرقية أو غير
ذلك .
فيزول العجب وينكشف السر حينما نستذكر قول أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب(ع) حين قال: (عجبت لمن ملك العبيد بماله كيف لايملك الأحرار
بأخلاقه) إن المتتبع لسيرة الفقيد الراحل يدرك تماما أنه (قدس سره) كان
مصداقا حقيقيا لمن ملك قلوب الأحرار بأخلاقه وعظيم مآثره التي رافقته
حيا وشهدت له وخلدته ميتا... فكان رحيله ميلادا جديدا أوقد نور الهداية
بقلوب الكثيرين من تابعوه وأنصتوا لجواهر كلمته ودور محاضراته المسجلة،
وتأملوا روائع ما خلف من الباقية الراقية وسمعوا عن جميل أخلاقه وصفاته
السامية ... فعلقوا صوره على جدران بيوتهم وحفظوها بصفحات قلوبهم،
يستعجلون من محياه الملائكي قبسا يستضيئون به ومن علياء شموخه سلما
يرتقون به، ومن جميل أخلاقه وشاحا يتزينون به، ومن علمه درعا يتحصنون
به... فطبت ياسيدي لمن عرفك حيا وميتا خير أسوة وقدوة... أيها الغائب
الحاضر، والبعيد القريب، والميت الحي....طاب بك الثرى وسعدت بك
الجنان... واستبشرت لقدومك الملائكة يا صنيعة محمد واله الأطهار.
لقد تصدع لرحيلك قلوب تلامذتك ومحبيك، وبكى لفقدك القرطاس والقلم
...ونعاك المحراب والمنبر...
لقد انكب عمد راسخ فتي من أعمدة آل الشيرازي الكرام، عقدت عليه
المرجعية أمالها ونسجت حوله الأمة أثواب مستقبلها....
فما أعظم الرزية فيك... ثلم بها جرح الإسلام وانفصم لها ظهر
التشييع...
ولكن سيبقى سيدي ربيع عطاءك مورقا بضفاف القلوب المؤمنة التي تهنوا
لعظيم فكرك الخلاق وتشوق نهلا من بحر خلقك الرقراق، وتوقد شموع الميلاد
تخليدا لذكراك ورحيلك أيها الفقيه العملاق.
* من النصوص التي نشرت في الاصدار الخاص لمجلة بشرى
بمناسبة الذكرى الاولى لرحيل الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي |