رمضان والعمل على بناء النفس والمجتمع

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: يسعى الإنسان بفطرته الى مراتب أعلى وأفضل، ليس في باب المادة وحدها ولا الفكر وحده، بل في عموم أنشطته الحياتية المتنوعة والمتشابكة، ناهيك عن إستعداده لآخرته من خلال ما يقدمه من افعال واقوال في الحياة الدنيا، ولذلك نراه ينتهز الفرص او يحاول ان يفعل ذلك لكي يحقق ما يصبو إليه في الدنيا والآخرة، لكننا نقر ان هناك من يبحث عن الدنيا فقط وهذه هي الطامة الكبرى إذ تقوم حياة مثل هؤلاء على كل ما هو مادي مبني على الجشع والظلم وتحقيق الكسب بأية صورة كانت بغض النظر عن مشروعيتها.

ولهذا فإن شهر رمضان المبارك يعدُّ فرصة كبيرة وعظيمة لتقويم النفس والسيطرة عليها تحقيقا للنجاح المنشود في الدنيا والآخرة، ولعل المشكلة تكمن في السلوك الاجتماعي الظاهر للعيان، فكثير من الناس يبنون شخصياتهم وطبيعة سلوكهم تحت تأثير الآخرين فيهم، فإذا كان المؤثر طالحا سيكون المتأثر طالحا في سلوكه وعمله وقوله واذا كان صالحا سيكون المتأثر صالحا بطبيعة الحال.

من هنا ينبغي أن نؤثر في الآخرين لتغيير بعض قناعاتهم الاجتماعية نحو الافضل، ويرى سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي أن هنالك سبل متعددة لتحقيق هذا التأثير الايجابي في الآخرين ومنها مسألة التبليغ، إذ يقول سماحة المرجع في كتابه القيّم الموسوم بـ (نحو بناء النفس والمجتمع): (أما المسألة المرتبطة بأهل العلم في الغالب - وإن كانت عامة أيضاً ولكن بمراتب - فهي مسألة التبليغ والدعوة إلى الله تعالى. يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: ... وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً-1-.

والزين على درجات ومراحل. فتارة يسعى أحد أهل العلم أن لا يفعل أو يتكلّم ما من شأنه أن يسيء للإسلام، فهذه مرحلة، وهي مرحلة مهمة ولا بد منها. وتارة يسعى أحدهم لأن يتصرف بنحو يؤثر في الناس من خلال سلوكه وتعامله مع الآخرين. وهذه مرحلة أعلى، وهي المعنية بقول الإمام سلام الله عليه في رواية صحيحة: كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم-2-. وهذا لا يعني ترك الدعوة باللسان، بل عدم الاكتفاء بها لأنها مطلوبة أيضاً، ولكن الدعوة بالعمل أفضل منها).

وهكذا تبدو أهمية جودة السلوك امام الآخرين فهي أعلى درجة من القول الصالح فقط، بمعنى ان القول الصالح له اهميته ويجب العمل به كي يكون وسيلة من وسائل تغيير المجتمع نحو الافضل، ولكن إذا اقترن هذا القول بالسلوك او بالعمل فإن الدرجة هنا ستكون اكبر وافضل وان التأثير على الآخرين سيكون اسرع وأدق وأفضل، فالطفل او الشاب او حتى الرجل الكهل سيكون أكثر تقبلا للكلام السليم المقرون بالعمل، مثال ذلك انك تحث الآخرين على التعاون من خلال الكلام ولكنك لو قمت وحققت دعوتك عمليا سيكون تأثيرك اسرع واقوى، وهنا يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: ( لو لاحظ ذوونا وزملاؤنا أنّا نسعى لأداء صلواتنا في أوقاتها فإنهم سيلتزمون بذلك في الغالب حتى لو لم ندعهم بألسنتنا. وهذا لا يعني عدم وجود استثناءات ولكن التبليغ العملي والتربية والدعوة من خلال العمل بطبيعتها تؤثر أكثر من الدعوة باللسان آلاف المرات. فما فائدة أن تدعو ابنك لأداء صلاته أوّل الوقت وهو يراك لا تكترث بذلك؟!

إن الذين عايشوا أشخاصاً اعتقدوا بصلاحهم - لما لاحظوهم يسعون أن لا تختلف أفعالهم عن أقوالهم - هم أفضل في الغالب من الذين استمعوا آلاف المواعظ، دون أن يروا نماذج عملية تجسّدها).

وهكذا يتضح لنا ان العمل بالقول سيضاعف التأثير بالآخرين آلاف المرات، وفي شهر رمضان ينبغي أن يعرف الجميع بأنه الفرصة المناسبة لنصح الآخرين والأخذ بيدهم الى جادة الصواب، بمعنى ان على المؤمن والمصلح والمثقف وغيرهم أن يعرفوا بأن هذا الشهر الفضيل هو فرصة لا تعوض على مدار العام كي يحققوا دورهم في التأثير بالآخرين ونقلهم سلوكا وقولا الى الصلاح وهو امر ليس بالهيّن اذا نجح فيه الانسان، ولعل الملاحظة الهامة في هذا الجانب هي أهمية ان يقترن القول بالعمل مع اهمية القول لوحده، وفي هذا الصدد يورد لنا سماحة المرجع الشيرازي مثالا عن ذلك في كتابه (نحو بناء النفس والمجتمع) يقول فيه: (أعرف اثنين من أهل العلم، كلاهما توفيا رحمهما الله، وكان أحدهما متقدماً على زميله في كثير من المجالات، كالمستوى العلمي والذكاء والأساتذة و... إلا أن زميله كان أكثر تأثيراً في المجتمع بمراتب كثيرة.

أذكر نموذجين من عملهما رحمهما الله؛ كان الأول أي المتفوق علمياً، في أحد الأيام جالساً في إحدى المشاهد المقدسة منشغلاً بقراءة الزيارة أو الدعاء، وكان المكان مزدحماً بالزوار، فجاءه شخص من عامة الناس وبيده مصحف وطلب منه أن يستخير الله تعالى له، ولم يكن يحبّ أن يقطع أحد عليه خلوته ودعاءه، فأشار إلى الشخص أن يذهب إلى غيره، ولكن الشخص لم ينتبه فتصور أن العالم لم يلتفت إليه، فتقدم إليه بالمصحف مقترباً منه قليلاً وأعاد طلبه. ومرة أخرى أشار له العالم بالذهاب إلى غيره.

ولم يلتفت الرجل أيضاً - لأن من عنده مشكلة، لا يلتفت بالإشارة وما أشبه عادة - فاقترب أكثر وكرر طلبه. فغضب العالم ولكنه لم يكلّم الرجل لأنه رأى أن الوقت الذي ستستغرقه الاستخارة ربما يكون أقل. وعندما أخذ منه المصحف رآه مقلوباً، وهنا لم يتمالك نفسه فشرع يصرخ في وجه الرجل قائلاً: لقد شغلتني عن قراءتي وقطعتني عن توجهي، وما أشبه من هذه الكلمات، ولكن ذلك الرجل كان غارقاً في همومه غير ملتفت إلى الموضوع أصلاً، فعجب منه وانصرف.

أما ذلك العالم الآخر- أي زميل هذا العالم – فطالما رأيته في حرّ الظهيرة، والعرق يتحدّر على وجهه، إذ يقبل عليه شخص، فيطلب منه سؤالاً أو استخارة، وأحياناً يكون السائل صبياً أو طفلاً صغيراً، فكان رحمه الله يجيبه وهو في مكانه ولا يطلب منه التحول إلى الظل رغم أنه لم يكن يبعد عنه أكثر من مترين!).

وهكذا نستطيع أن نعرف مدى الفرق بين العالمين المذكورين وينطبق هذا المثال على الآخرين أيضا، فالقائل العامل بالنصح أفضل من القائل بها فقط والقائل بها فقط أفضل من ذلك الصامت الذي يقدم شيئا من النصح لغيره، ولعل أسوأهم ذلك الذي لايقولها ولا يعمل بها ولا يسمعها ايضا، وهو اخطر الناس في المجتمع وأكثر حاجة للتأثير به وتغيير قيمه ونظرته للحياة، وهذا من واجب المصلح والعالم والمثقف وحتى الانسان العادي، اذ على الجميع ان ينتهزوا فرصة هذا الشهر الكريم لكي يغيروا القناعات الاجتماعية الخاطئة لدى الآخرين من خلال القول وهو امر واجب والقول المقرون بالعمل وهو ماجب أعلى درجة في نتائجة وثوابه.

هامش:

(1) الكافي: 2/77 ح9 باب الورع.

(2)الكافي: 2/78 ح14 باب الورع.

 جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/أيلول/2009 - 29/رمضان/1430

[email protected]