فليدع ناديه.. سندع الزبانية

عبدالله بدر إسكندر المالكي

القانون المشترك الذي يربط جميع الديانات والإتجاهات هو قانون الرد بالمثل، وربما يمتد هذا القانون ليشمل كائنات أخرى كالحيوانات مثلاً لأنها تمتلك غريزة الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت لهجوم خارجي، إلا أن العرب قبل الإسلام جعلوا هذا القانون مقيداً بالأعذار حتى أن الحروب كانت تنشب بينهم لأهون الأسباب.

ولما نزل القرآن الكريم أبقى هذا القانون على ما هو عليه مع إضافة بعض الفقرات التي تتطلبها المقتضيات الآنية مراعياً بذلك المصالح والمفاسد التي تترتب عليه، فالقانون القبلي الذي كان يعتمد من قبل العرب قد أخذ الحد الأقصى في مسألة القتل كما ينص على ذلك شعارهم الذي مفاده أن [القتل أنفى للقتل] ولما نزل القرآن الكريم جعل لشعارهم هذا ضوابط محددة كما أشار تعالى لتلك الضوابط بقوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء 33.

وعند تأمل الآية الكريمة نجد أن السلطان قد أجمل العملية في عدم الإسراف وقد فسر هذا السلطان في قوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) البقرة 178. والآية صريحة من أن المكلف مخير بين القصاص وبين الدية لذلك أكد تعالى على الترغيب بالعفو والإكتفاء بالدية.

وهذا التوجه الجديد الذي شرعه القرآن الكريم جعل قانون القصاص ضمن مسوغات مفهومة وضوابط لا تحيد على التعدد المفرط إلا أن الإباحة هي الأصل في ذلك، وهذا السبيل قد ينظم الحياة في صراعاتها الأخرى سواء السياسية منها أو الإقتصادية وما إلى غير ذلك من الإتجاهات التي يفرضها الواقع المعاش ولذلك فإن القرآن الكريم ذم الإسراف حتى في القانون الذي لا يحتمل الجمود كما في قوله: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) البقرة 194.

وكما هو ظاهر في الآية الكريمة فإن التقوى مفادها عدم الإسراف إلا في حالة تجاوز الخصم للحد المقرر الذي تترتب عليه مقابلة الإحسان بالإساءة، فهنا لا بد أن يكون الرد حاسماً وبمختلف الطرق التي يتحول فيها الإسراف إلى العمل المحمود أحياناً، لذلك نجد هذه المقابلات اللطيفة في متفرقات القرآن الكريم باعتبارها الرد النهائي الذي يكون أبعد في الجزاء كما في قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5. وقوله: (ويمكرون ويمكر الله) الأنفال 30. وقوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) التوبة 127. وكثير غير الذي ذكرنا. وقد قال تعالى حكاية عن نوح: (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) هود 38.

وقد وجه تعالى المؤمنين إلى رد العقاب بقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) النحل 126. والترغيب في الصبر والعفو ظاهر في الآية.

وهناك رد جعله تعالى مبهماً ولم يبين فيه نوع العقوبة كما في قوله: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز) فصلت 41. وإخفاء العقوبة يكون أشد على من توجه إليه لأجل أن يتوقع الشر من كل جانب وهناك وجه آخر يتمثل في إختلاف العقوبة حسب نوع الكفر، لأن الذين يكفرون بالذكر أصناف شتى، منهم الجاحد على علم والمتكبر وأصحاب الكتاب، وحتى فرق المسلمين لا تخلو من الكفر بالذكر فلكل صنف من هؤلاء عقوبة مختلفة عن الصنف الآخر. وكذلك حسب إختلاف العصور والأماكن ولهذا السبب أخفى تعالى نوع العقوبة لأجل أن يفسرها أهل كل زمان بتفسير مخالف للأزمنة الأخرى.

كما هو الحال في توجيه الفضل والرحمة كما في قوله: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) النور 10. وقد حُذف جواب لولا، لأن رمي الأزواج يكرر في كل زمان ومكان وبطرق مختلفة، أما حديث الإفك فقد ذكر فيه جواب لولا، لأنه أمر قد وقع وأصبح من القصص القرآنية لذلك قال جل شأنه: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم) النور 14.

وهذا الرد بالمثل الذي أشارت له الآيات آنفة الذكر يعتبر الأصل الذي وضعنا له عنوان المقال وهو قوله تعالى: (فليدع ناديه***سندع الزبانية) العلق 17-18. وفي الآيتين مباحث:

المبحث الأول: قيل: إن الآيتين نزلتا في أبي جهل حين إنتهره النبي (ص) فقال أبو جهل أتنتهرني يا محمد فوالله لقد علمت ما بها أحد أكثر نادياً مني فأنزل الله تعالى [فليدع ناديه] وهذا وعيد أي فليدع أهل ناديه يعني عشيرته فلينتصر بهم إذا حل عقاب الله.

المبحث الثاني: النادي: الفناء أو كل مكان جامع سواء في الخير أو الشر ولا زال هذا المصطلح مستعمل إلى اليوم كما في الأندية الرياضية أو التجمعات المختلفة، وهو أعم من المجلس لأن الثاني يستعمل للإجتماع نهاراً أما إجتماع الليل فيسمى المسامر كما في قوله: (مستكبرين سامراً تهجرون) المؤمنون 67. إذاً النادي يفيد العموم سواء في الليل أو النهار كما في قوله تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر) العنكبوت 29.

المبحث الثالث: الزبانية: هم ملائكة العذاب الذين وصفهم تعالى بالغلاظ الشداد في قوله: (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم 6. والسين في [سندع] للطلب السريع أي الذي تفوق سرعته [سوف] وهذا إخبار منه تعالى بأن يدعو إليه الزبانية في جهنم والإخبار منه تعالى يكون على وجه السرعة لتحقق وقوعه، لأن ليس هناك ما يمنعه كما في قوله: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) النحل 1.

فإن قيل: علام الله تعالى يقابل الإنسان الذي خلق من ضعف بأشد أنواع العقاب المتمثل بالرد؟ أقول: عندما يوجه الإنسان هذا السؤال إلى نفسه وهو هل أننا قادرون على ترك المعاصي؟ فإن كان الجواب نعم نحن قادرون على ترك المعاصي ولدينا القدرة والإستعداد للرجوع إلى الله تعالى، فهنا نكون في أمان من العقوبة التي ذكرتها الآيات التي أشارت إلى المشاكلة، وإن كان الجواب كلا نحن ليس بإستطاعتنا العودة إلى الله، فهنا يكون الإنسان قد إستحق تلك العقوبة التي بينتها آيات المشاكلة لأن الإنسان تحدى العلة التي خلق من أجلها، والتي أشار لها تعالى بقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56.

فإن قيل: لماذا لا يضطرنا الله للعبادة؟ أقول: إذا إضطرنا الله تعالى للعبادة نكون قد فقدنا الإختيار وبالتالي نصبح كالمخلوقات الأخرى التي لا تستطيع أن تغير من حالها شيئاً، وهذا الإختيار بحد ذاته يبطل جميع النظريات المادية التي يجادل أصحابها بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير.

فإن قيل: إذا كان الله كريماً ورحمته وسعت كل شيء فلماذا لا يخلقنا للجنة التي وعد المتقون مباشرة دون عناء الأرض ومشقاتها فضلاً عن إرتكاب المعاصي فضلاً عن الكبائر فضلاً عن الجرائم؟ أقول: إذا كان الأمر كما يريد الناس يكون من العبث المنزه عنه تعالى، لأن العقل لا يقر العطاء دون ثمن علماً أن الثمن إعتباري، ألم تر إلى الإمام علي (عليه السلام) يقول: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.

Abdullahaz2000@yahoo.com

 جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/أيلول/2009 - 13/رمضان/1430

annabaa@annabaa.org