رُؤيَةُ الهِلاَلِ بَينَ الفِقْهِ وَ السِيَاسَةِ..

محمّد جواد سنبه

عندما تستخدم السياسة المقدس الديني، كوسيلة لتبرير غاية معينة، عملاً بمبدأ (مكيافيلي) (الغاية تبرر الوسيلة)، يسقط السياسي فقط في نظر العارفين من الناس، لأنهم يقيّمون عجز السياسي بعدم قدرته على اتخاذ القرار المناسب، إزاء موقف أو أزمة معينة. فيكون خطاب السياسي المتشبث بالدين، عبارة عن سدٍّ للعجز الحاصل في كفاءته وامكانياته الذهنيّة، المتوقع منها أنْ تنهض باتخاذ قرار يحسم الموقف. أما في نظر عامّة الناس (وهو الأمر المحزن على الدوام) فيسقط في نظرهم، السياسي والمقدس الديني معاً، وهذه كارثة تاريخية سنبقى نعاني منها الآن،  وستبقى تعاني منها الأجيال اللاحقة أيضاً.

 وخير مصداق لتحويل الدين وسيلة لخدمة السياسة، موضوع رؤية هلال شهر رمضان المبارك، وشهر شوال، وشهر ذي الحجة. فهذه القضية تحظى باهتمام كبير عند المسلمين، لأنَّها ترتبط بمسألة تشريعيّة مهمّة، وهي فرض التكاليف العباديّة كالصيام والحج، التي يرتبط تنفيذها برؤية هلال الشهر، الذي يختص باحدى تلك العبادات. فالرؤيّة الشرعيّة لهلال تلك الشهور، تعيّن الوظيفة العباديّة للمكلفين بها. والاختلاف في تحديد غرة هذه الشهور سارٍ، على مدار سنين طويلة جداً، و إهمال المسؤولين (المرجعيات الشيعيّة والسنيّة) حالة الاتفاق أصلاً، لحسم هذه القضية أمر واضح وبيّن !!، (سواءاً كان عدم الاتفاق بدون قصد، أو جرّاء حالة الدعة والاسترخاء لحدّ الغفوة)، أو ربمّا عدم الاتفاق بينهم ناشئ بسبب تأثير الحاكم المستبدّ عليهم (ولو بشكل إيحائي، تستلهمه النفوس الميّالة إلى عدم المماحكة مع الحاكم، واثارة المشاكل حفاظاً على هالاتها القدسيّة، التي يحرصون كل الحرص على تضخيمها وتهويلها في نظر البسطاء من الناس)، وكذلك شعور أولئك المسؤولين عن هذا الأمر، بأنّ الخوض في هذا الموضوع، خطاً أحمراً يعرض المتجاوزين عليه للعقوبة، (وهذا العذر وإن التمسته لهم، لكن قناعتي القوية بأنّ وحدة المسلمين أعزّ و أغلى من أيّ دم).

لطالما دارت النقاشات بين الناس، حول أسباب الإختلاف في موضوع رؤية الأهلّة، والتي تنتهي دائماً بعدم اتفاق أطراف النقاش لأسباب أهمّها :

1. عدم وجود الخلفيّة العلميّة عند الأشخاص المتحاورين.

2. عدم الفهم الدقيق بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم بخصوص هذا الموضوع.

3.  إحجام الناس عن القيام بمسؤوليتهم الشخصية، معتمدين على الغير (المرجعيات الشيعيّة والسنيّة)، في اتخاذ القرار نيابة عنهم.

هذه الفراغات في المناطق الثلاث المذكورة، أصبحت بؤرة تستقطب في خفاياها، النيّة السياسيّة المبيتة بالسوء، التي يتعمّد استغلالها أعداء الإسلام المحليون أو الخارجيون. فالبعد الأخير يحشر القضية الدينية في الموقف السياسي، أو بالأصح تحميل الموقف الفقهي الذي يخص شأناً دينياً بعداً سياسياً. لقد نجح الحكام والسلاطين على مدى قرون طويلة، باستغلال غرة شهر رمضان وشهر شوال، وكذلك غرة شهر ذي الحجة لصالح حكمهم. فالحكام والسلاطين يحركون المؤسسات الدينية التي تقع تحت رعايتهم، باتجاه استصدار فتوى يطغى عليها طابع السبق الاعلاني، عن رؤية الهلال، أو الاعلان عن يوم محدد يكون اليوم الأخير من الشهر، وصولاً لإنهاء الشهر باتمام عدته.

من المعروف أنّ أيّ جماعة بشريّة يكون عداؤها للجماعة التي تنشق عنها، أقوى من عدائها لجماعات بعيدة عنها، تختلف معها في المعتقد. وبناءاً عليه تقوم المؤسسة الدينية السلطانية (عن طريق صناعة حجة للاختلاف مع الآخر مغلفة بغطاء شرعي)، بتسويق الحرب على المخالفين للسلطان أو ولي الأمر (الواجب الطاعة)، وتصورهم بأنهم  فئة مشاغبة تحاول تفتيت وحدة المسلمين، وشقّ عصا الجماعة والتمرد على الدين أصلا، فهم شذاذ في دينهم، وأهل ضلالة في عقيدتهم. إنه سلاح ذكي يحارب المسلمين بالإسلام، فضلاً عن كونه تنكيلاً قوياً باتباع المذهب الذين يخالفون الحكام في الرأي. إضافة لذلك فهو وصمة دائمة بان اتباع هذا المذهب تابعون لدولة معينة بالخارج، لمزاً بتبعية اتباع المذهب المخالف، لإرادة المؤسسة الدينيّة السلطانيّة بدولة مّا وعمالتهم لها. هذه هي النتائج المتوخاة من وراء اختلاف رؤية هلال الأشهر الثلاثة، انها عملية ممنهجة لإذكاء الشحن الطائفي، بصورة مستمرة لا يكاد يخبو أو يفتر أبداً.

 منذ كنّا صغاراً في بدايات الستينيات من القرن الماضي، كنا نسمع من هنا وهناك أنّ الشيعة يصومون متى ما صامت ايران، ويفطرون متى ما أفطرت ايران، كل ذلك من أجل اثارة حفيظة بقية المسلمين على أبناء المذهب الجعفري، وتصويرهم بصورة الرافضين لسلطة ولي الأمر، أو الشاذين عن بقية المسلمين، أو الخارجين عن إجماع الأمّة. هذه المواقف كانت ولا زالت تمرر من قبل الحكام والسلاطين في عموم العالم الإسلامي، لغرض سياسي بحتّ، يهدف لعزل شريحة محددة من المجتمع، وصبغها بصبغة العمالة للاجنبي والخيانة للوطن. ومن تجاربي الخاصة ومراقبتي لهذا الموضوع، أجزم بأنّ سوء النية مبيّت في هذا الموضوع، لغرض تمزيق وحدة الصف الإسلامي، من خلال وظائف المسلمين التعبديّة، وهذه المهمّة الخبيثة تنطلي على الكثير، من أبناء الإسلام من المذاهب المختلفة، ويغرقون ضحايا في بحور البغضاء، جرّاء مؤامرة كبيرة حيكت لهم بالخفاء، ينفذها هذا الحاكم أو ذاك الملك، ويساعده في هذه المهمة القذرة، وعاظ السلاطين وخطباء البلاط الملكي أو الأميري، في هذه البقعة أو تلك من العالم الإسلامي. ولحدّ الآن لا أعرف السر الذي يجعل المرجعيات (الشيعيّة والمرجعيات السنيّة)، لا تبادر لحسم هذا النـزاع المريض بحمى الطائفية المعلبة، بالرغم من توفر أجواء الحرية في التعبير عن الرأي واحتياج الموقف الإسلامي والوطني الى شدّ لحمة الأخوّة الإسلامية على الصعيد العمليّ، بعيداً عن لغة الخطابات أمام وسائل الإعلام.

فياترى لا تدرك هذه المرجعيات حالة التمزق والتشرذم التي تصيب الكيان الإسلاميّ، جراء الاستمرار في العجز من حسم موضوع رؤية هلال ؟. فهذا الموضوع ليس ستراتيجية نووية، أو استكشاف لكوكب مجهول !!!. إنـّه موضوع حياتي متكرر الجزء الخطر فيه، إذكاء صراع معتقدي بين المسلمين. ألا تدرك تلك المرجعيّات بأن وحدة المسلمين تبدأ بخطوات بسيطة، منها توحيد شعائرهم كي تتوحد مشاعرهم ؟. إذا كنا نصدق بأنّ النظام البائد، كان هو العنصر الحاسم لهذا الموضوع، وتلك حقيقة واقعة، أمّا الآن فما عاد بوسعنا التصديق، بأنّ حرجاً معيناً يقع على المرجعيّة الشيعيّة و السنيّة، إذا ما أرادا العمل سويّة، لقطع حبل الشك باليقين، عن طريق تشكيل لجنة مشتركة من المؤمنين الثقات، بعد أنْ يوفر لهم فريق عمل فني متخصص، في مجال الأنواء الجوية، يقدم مشورته ومعلوماته أمام هذه اللجنة المشتركة، لتقول كلمتها الفصل في موضوع، أبسط افرازاته تخديش العلاقة بين المذاهب الإسلاميّة، فضلاً عن كون هذا الاختلاف يعتبر منطقة خصبة يستغلها أعداء الإسلام بكل بساطة، لإثارة النعرات الطائفيّة وايقاع الفتنة المذهبيّة بين المسلمين.

 فإذا عجزت المرجعية الشيعيّة والمرجعيّة السنيّة، من ايجاد مخرج لاستعصاء فقهي ذي تاريخ طويل وهو رؤية الهلال، هل تستطيع هذه المرجعيات النهوض بمسؤولياتها التاريخية، عن طريق توحيد الخطاب الإسلامي، وتنقية التاريخ الإسلامي من الإسرائيليّات، كمقدمة لمشروع إسلاميّ عالميّ طموح يدعو لوحدة المسلمين، لست أدري ؟؟؟. لكن الواقع يشير بخيّبة أمل كبيرة، فبعد انهيار النظام البائد، على ما يبدو (استأنست) هذه المرجعيات (الشيعيّة والسنيّة)، بعمليّة تجزأة وزارة الأوقاف إلى شقيّن (ديوان الوقف الشيعيّ، وديوان الوقف السنّي).   وإذا كان هذا التخصيص يجسّد التوجهات (لفدرلة) دولة العراق الجديد، بتفتيت كلّ شيء موحدّ (ولو كان بالشكل)، وتحويله إلى أجزاء متناثرة، فالأجدر بالدوّلة الحديثة، أنْ توكل مهمة رئاسة الوقفيّن إلى أشخاص أكفّاء، مشهود لهم بسعة الأفق الفكريّ الإسلاميّ، والتنَوّر والإطلاع الثقافيّ الواسع، وتبنّيهم الذاتي (لا عن طريق الحثّ والتلقين) لمشروع الوحدة الإسلاميّة، باعتباره الضرورة المرحليّة، التي لا يمكن تأجيلها إلى مرحلة لاحقة، بالاضافة إلى ذلك، الكفاءة الإداريّة الممتازة.

وعوداً على بدء، لابدّ من توضيح مسألة رؤية الهلال أكثر، فإنّ جميع المسلمين متفقون، على مبدأ رؤية الهلال بالعين المجردة، فهو أمر متسالم عليه، ولا اعتبار للآلات والمراقب والتلسكوبات واجهزة الرصد، سوى المساعدة في تحديد المكان وزاوية النظر فقط.  فقد ورد في المقطع التالي من الآية الكريمة 185 من سورة البقرة المباركة : (....فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ....). إنَّ كلمة(شَهِدَ) في الآية الشريفة أعلاه، هي التي تحدد موضوع استهلال الهلال أو ثبوت رؤيته، فما معنى كلمة(شَهِدَ) حسب المنظور التفسيري للقرآن الكريم. لنطلع على بعض هذه التفاسير المباركة، كي نفهم معناها بدقة :

 1. (الشاهد خلاف الغائب. ويقال شهد في المصر إذا حضر فيه. ومنه قوله ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي من حضر المصر فيه). ( التبيان / الشيخ الطوسي ج 6 ص 225 ).

 2. (وقد روي أيضا عن علي وابن عباس ومجاهد، وجماعة من المفسرين أنهم قالوا : من شَهِدَ الشهر، بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر، فعليه أن يصوم الشهر كله والثاني : من شاهد منكم الشهر مقيما مكلفا، فليصم الشهر بعينه).  ( تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي ج 2 ص 16).

 3. ((فمن شَهِدَ منكم الشهر فليصمه). قيل في معناه قولان: أحدهما من شاهد منكم الشهر مقيما فليصمه، وثانيهما من شهده بأن حضره ولم يغب، لانه يقال شاهِد بمعنى حاضر ويقال بمعنى مشاهد). (فقه القرآن/ القطب الراوندي ج 1 ص 178).

 4.  (قوله تعالى : فمن شَهِدَ منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به). (تفسير الميزان/السيد الطباطبائي ج 2ص24).

إذن الكلّ مجمع على أنّ الصيام يتحقق بأمرين. الأوّل تواجدي: وهو وجوب فريضة الصوم على كلّ من كان مقيماً في بلده( غير مسافر). الثاني تشخيصي: وهو مشاهدة الهلال ورؤيته بالعين المجردة. أما بالنسبة إلى الأمر الأوّل، فهو رأي كافة فقهاء المسلمين ان يكونوا بحالة اقامة. وأمّا بالنسبة للأمر الثاني، فقد اشترط المشتغلون بعلم الفقه، من خلال ما لديهم من حجج ثابتة، بأن تكون رؤية الهلال بالعين المجردة وبدون واسطة.

 وهنا يتحدد سؤال: إلى أي مدى يستطيع الفقهاء توظيف معطيات علم الفلك الحديث، والنتائج الرصدية لصالح قضية إثبات رؤية الهلال، بشكل قطعي وجازم. والتي هي محل نقاش وأخذ ورد متكرر بين الناس في كلّ عام، وخصوصاً في موارد ثبوت رؤية هلال شهر رمضان، وشوال، وذي الحجة ؟. لقد أوضح الفقهاء في رسائلهم العمليّة أنَّ هلال أي شهر قمري، ومنها شهر رمضان يثبت : بالرؤية، أو بمضي ثلاثين يوماً من الشهر السابق.  ولأجل الاستيعاب الكلي للموضوع وفهمه، ينبغي أنْ نعرج على تعريف بعض الإصطلاحات :  المحاق :غيبة القمر وعدم امكانيّة رؤيته.  الرؤيّة : جمع رؤى، المشاهدة بالبصر حيث كانت في الدنيا أو الاخرة.

الإستهلال :(لغة) البدء أو الأفتتاح أو المقدمة، و(اصطلاحاً) كلّ شيء رفع صوته فقد استهل، وبه سميّ الهلال هلالاً لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته، والإهلال بالحج: رفع الصوت بالتلبية. (المصدر/ معجم لغة الفقهاء/ معجم الفاظ الفقه الجعفري). فالهلال عند ولادته وخروجه من المحاق، يجب أنْ تمضي عليه فترة زمنيّة تتراوح بين(7-15) ساعة، حتى يمكن مشاهدته بالعين المجردة. وإذا ما نظرنا إليه من خلال مرقب (تلسكوب)، فيمكن مشاهدته بهذه الوسيلة، قبل أن تشاهده العين المجردة. وهذا الأمر يرفضه كلّ علماء المسلمين، لتعارضه مع التفسير القرآني لكلمة (شَهِدَ)، الواردة في الآيات الكريمات السابقات، حيث أنّ المشاهدة تقتضي الرؤيّة بالعين مباشرة. والله تعالى من وراء القصد.  

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

© جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25 أيلول/2007 -12/رمضان/1428

[email protected]