لتحرير الصوم من العادة الطقسية الفارغة إلى تصعيد في الإيمان
وحلاوة في العبودية لا بد وأن نعي دور العبادات بأكملها ومن ثم دور
الصيام بينها، لنفيد ونستفيد من كلي العبادة. لنعلم أن العبادات في
الإسلام تمثل العنوان الرئيسي لسائر التعاليم الإسلامية، وهي تؤدي دوراً
مركزياً في بناء الشخصية الإنسانية وتكاملها، وذلك بعد أن تفكها من أسر
العبوديات المختلفة لمصلحة عبادة الله الواحد الأحد، ومعرفته سبحانه
وتعالى، بما يجعل الإنسان يعيش سعادة القرب من الله، وهي الغاية التي
أراد الله للإنسان أن يصل إليها.
إلا أن هذه المعرفة ليست ميسرة لكل وارد. بل لها شروط ومستلزمات
فجمال الحبيب مستور بنقاب العبودية لغيره من أصنام الهوى والشهوات
والميول والارتباطات التي تندرج في المفهوم الإسلامي تحت عنوان الذنوب
والمعاصي التي ترتكبها النفس الإنسانية، عندما تعجز عن التحرر من أسر
طغيانها وأوهامها، ولن تجد هذه النفس هويتها الحقيقية، ولن تصل إلى
غايتها وكمالها، إلا بعد تأكيد حريتها، وبالتحديد حرية إرادتها أمام كل
ما يشل فعالية هذه الإرادة من أصنام لا تعد ولا تحصى.
وإذا كان لكل عبادة هدفها وعللها التي ترفع من شأن الإنسان بما
يجعله لائقاً لتولي مهمة خلافة الله سبحانه وتعالى في الأرض، فإن عبادة
الصوم تحتل دوراً مركزياً في تذليل العقبات التي تعترض تولي هذه المهمة
المقدسة، وأول شرط لذلك، ابتعاد هذا الإنسان عن كل ما يشوش ويعكر ويصيب
الروح الإلهية المودعة فيه بسهام الذنوب والمعاصي القلبية والجسدية،
الفردية والاجتماعية، وهل يمكن ذلك إلا بامتلاك ملكة التقوى التي هي
الثمرة العملية لعبادة الصوم؟
إن هذه العبادة تحررنا من أسر الارتباط بحاجاتنا الضرورية من طعام
وشراب وغيره، مما أحله الله، لهي جديدة إذا فهمها العابد ومارسها وفق
الأصول والقواعد الشرعية، أن تهبه تلك الحال الروحية والمعنوية التي
تصونه من كل انحراف، وتحرره من كل هوى وشهوة وحقد وطمع، وذلك من أجل أن
تعكس هذه الروح وبشكل طبيعي، كل ما هو خير وجمال وحق من الصفات الإلهية
في هذا الوجود، وبذلك وحده يحقق الإنسان معنى العبادة، وإلا تحولت
العبادات إلى مراسم وطقوس وعادات يمكن أن تحمل كل عنوان إلا اسم
العبادة.
ومن هنا يدعونا الله سبحانه وتعالى أن نعي بعقولنا ونفكر ونتدبر
آيات الله (عز وجل) وكلام أنبيائه ورسله فالعبرة ليست بكثرة الصلاة
والصيام بل بكيفية هذه العبادات وأي منها هذبت أخلاق الإنسان وصفت روحه
من الشوائب ونفت تفكيره من الشر والخطأ. ففي الأثر من لم ينهه صلاته عن
الفحشاء والمنكر فليست بصلاة، وهنا نستطيع أن نقول: مَنْ لم يزده صيامه
تقوى وعبودية وإخلاصاً فليست بصيام، أو كما قال النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).
ولعل المعيار السليم لمعرفة مدى توفيقنا في هذه العبادة، عبادة
الصوم هو مراقبة الذات خلال أيام الصوم، ومتابعتها لمعرفة ما وصلت إليه
من درجات التقوى، ومدى التغيير الذي لحق بها في علاقتها بالله، حتى
يمكن تقويم المسار لبلوغ أعلى الدرجات، فنطهر قلوبنا حتى لا يبقى فيها
إلا المحبة والخير والنصح لخلقه تعالى.
وأصفى ما يكون المؤمن عبودية لله تعالى في منهجه هو شهر رمضان
المبارك، ففيه استدامة الشرف العبادي، حتى يخرجك عن الألف العادي،
وتكون قد تركت ما أحل لك، وأَلِفَتْهُ نفسك واعتادته، ويقول لك (لا
تفعل) ثم بعد أذان المغرب يأمرك بأن تأكل، وقد كنت في الأيام الأخرى
مباحاً لك أن تأكل، والأكل ساعة المغرب عبادة جديدة ليس في عبادة
الحرمان قبل أن يؤذن المغرب، فهذه عبادة الإتيان حين يؤذن المغرب، كل
ذلك ليستديم للإنسان شرف الشعور بعبودية التكليف، ولينتفض من جديد كل
عام ليعتز بشرف العبودية، خشية أن تسيطر عليه العادة، فتحرمه لذة
الشعور بعزة العبادة والإخلاص لله. |