عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضمن
كلامه عن شهر رمضان، ألتفت إلى الناس وقال: إن شهركم هذا ليس كالشهور،
إنه إذا أقبل إليكم، أقبل بالبركة والرحمة، وإذا أدبر عنكم، أدبر
بغفران الذنوب.
هو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره الإجابة
والعتق من النار..)
ها قد تصرم أفضل شهور الله بأيامه ولياليه
وساعاته المباركة بخيراته ونعماته ونفحاته القدسية، بليلة قدره التي هي
خير من ألف شهر وبجميع حسناته وقد أفلح من زكى نفسه وتاجر مع مالك كل
شيء، ورب كل شيء جل جلاله، تجارة لن تبور تلك التجارة الكبرى التي لا
خسارة فيها أبداً، بل ربح دائم ورصيد من الحسنات وافر وفوز بنعيم
الدارين مستمر، وقد خاب دساها وأسلس لنفسه الأمارة القياد وأشبع رغباته
وغفل عن عقله وروحه.
وإذا أراد الإنسان الاتصال بالله فعليه بالصوم
بمعناه العميق، والصلاة والذكر اللانهائي مثل الأنبياء والرسل
والصالحين الذين يعمقون الصلة بالله بالصوم حتى يكون انفعالهم ملائكياً،
وتسبيحهم ملائكياً، وصلتهم بالله تعالى كصلة الملائكة بالعرش العظيم
حتى يأتيهم اليقين، ويروا نور الله العظيم.
والصوم بمعناه الكبير هو نوع من التسامي النفسي،
والشفافية الروحية، والاتصال الوجداني بالبارئ العظيم، وهو تدعيم لقوة
الروح التي تسيطر على مادية الجسم، وهو ركيزة من ركائز الإيمان.
والصوم الحقيقي دعوة إلى السمو الخلقي، والبعد
عن الخطايا، وهو نوع من الاسترخاء النفسي والعقلي، والمؤمن الصائم يتصف
بالسماحة الخلقية، وهو من الكاظمين للغيظ، والعافين عن الناس، وهو ممن
يتصفون بالسيطرة على الغضب، والغضب والحقد..على الناس طريق يؤدي إلى
هلاك الإنسان، كيف؟
أنت حينما ينتابك الغضب أو الغيظ أو الحقد على
الناس يلبسك الشيطان ويتقمص شخصيتك، فتكون أنت الشيطان نفسه في تصرفاتك
وانفعالاتك الشخصية.
ورسالة الغضب والغيظ والحقد تنتقل إلى مستويات
المخ العليا، حيث ستستقبلها مراكز كيميائية تتفاعل معها، وتنقلها إلى
جسم يسمى (هيبوثلاموس) (Hypothalmus) بطريقة كيميائية معجزة؛ حيث تنتقل
بدورها إلى الغدة المعجزة (الغدة النخامية) Pituitary.
معجزة الغدة النخامية
الغدة النخامية هي معجزة من معجزات الخالق (سبحانه
وتعالى) وتلك الغدة التي تزن حوالي نصف جرام (حجم الحمصة الصغيرة) تفرز
العديد من هرمونات رئاسية في الدم تحمل الأوامر المباشرة إلى كل الغدد
الهرمونية الموجودة في الجسم، وبذلك تجري تبنيها لتلك الغدد الأخرى؛
لتفرز هوموناتها فوراً في الدم.
والغدة الرئيسية التي تنفعل عند الغيظ والغضب
والحقد هي غدة الأدرينال (فوق الكلية) وطولها بوصتان، وعرضها بوصة،
ووزنها أوقية تقريباً، وتتكون من قسمين:
القشرة واللب (مثل قشرة البندق ولبها) وكل قسم
يفرز الهرمونات الخاصة به، وتفرز القشرة العديد من الهرمونات التي تؤثر
في عمليات التمثيل في الجسم، كذلك يفرز لب الأدرينال هرمونين:
الأدرينالين Adrenalin والنورادينالين Noraderanalin.
عند الغضب والغيظ والحقد ترسل الغدة النخامية
الأمر إلى غدة (الأدرينال) التي تستجيب على الفور، حيث يفرز هرمون (الأدرينالين)
الذي يؤدي إفرازه في الدم إلى تغيرات فسيولوجية وكيميائية حيوية مذهلة،
إنه يهيئ الجسم لقوى شيطانية رهيبة، وذلك استجابة لإشارة التهديد
الصادرة من الغضب والغيظ والحقد، وتقوم أيضاً غدة (الأدرينال) بإفراز
هرمونات القشرة مثل هرمون (الكورتيزون) لإعداد الجسم بيولوجيا للدفاع
عن الإرهاق النفسي بأشكاله المختلفة.
وحينما يتعرض الإنسان إلى تلك الانفعالات السابق
ذكرها لفترات مستمرة تزيد إفرازات تلك الهرمونات التي تؤدي إلى تغيير
مدمر لكيميائية الجسم: هدم في أنسجة الجسم، إفراز الكلوكوز في البول..
وعلى المدى الطويل قد يحدث مرض (السكر) ويسير الجسم بخطى وئيدة إلى
زيادة الكولسترول في الدم؛ وهو ما قد يؤدي إلى حدوث الذبحة الصدرية،
وتصلب الشرايين، وأمراض أخرى مدمرة لكيان الإنسان، هذا بجانب الأمراض
النفسية العضوية.
وحصيلة كظم الغيظ والعفو عن الناس والخلاص من
الحقد هو الطريق للخلاص من قوى التدمير النفسي والعضوي وهو الطريق
المضيء نحو الاستقرار الوجداني والأمن النفسي والسعادة الروحية.
وحينما أمرنا الحق (سبحانه وتعالى) بالصوم
بمعناه الحقيقي، إنما أراد بمشيئته تعالى أن يسبغ علينا السعادة
الروحية، والاسترخاء العقلي، والأمن النفسي، والإصلاح لمادية الجسم؛
حيث تنبعث السكينة في قلوب المؤمنين، ليزدادوا إيماناً على إيمانهم.
وليبقى ذلك وقاءً لنا طول السنة بل طول العمر
لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فعن النبي (ص) (حُسن الخلق نصف الدين) اللهم
أجعلنا ممن غفرت له ذنوبه، وقبلت من أعماله وارزقنا البقاء له ولأمثاله. |