شهر رمضان شهر الذكر والتوبة

 

بسم الله الرحمن الرحيم (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك عن ذكري إياك على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك) الإمام السجاد (عليه السلام)

انتهى الثلث الأول من شهر رمضان المبارك، ونحن ما زلنا منغمسين في مستنقع الماديات وأوحالها ولا يعدو الحديث بنا ما وراء الأكل واللذات، متناسين أن النفس الإنسانية كالجسم تصح وتمرض، وهي أيضاً بحاجة إلى الوقاية قبل الإصابة، والى العلاج بعد وقوعها فريسة للأمراض التي تنتاب النفوس الضعيفة، والتي فقدت مناعتها وخارت قواها.

وجل تفكيرنا إن لم يكن كله منحصر في الموائد الرمضانية وأصناف الطعام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية الغنائية والراقصة والفنية والدعائية وديكور الموائد والملابس والسهرات في الخيم الرمضانية وجلسات اللهو والغيبة التي تمتد إلى السحور وتزيين الموائد بشتى أنواع الأطعمة فأولاً بالتمر ليتناولها الصائم قبيل الوجبة الرئيسية، ثم طبق الحساء لأن الصائم يحتاج لترطيب معدته وتحضيرها، ثم طبق الفتة الذي يشد الأنظار بلونه المميز: المحتوي على اللبن الأبيض الممزوج بالطحينة والحامض والثوم والسمن المغلي والصنوبر المحمص والبهار، والى جانبه البصل والفجل والكبيس والمشكل.

وأيضاً طبق الفتوش المطعم بدبس الرمان والزيت الفاخر، والمخلل المنوع، والسلطة، واللحومات بأنواعها مع الرز الفاخر ولا يمكن نسيان الأشربة الرمضانية كشراب التوت والخرنوب والسوس والصعير (ليمون – جزر – تفاح – برتقال) وشراب قمر الدين.

والحلويات كالكنافة وزنود الست والبقلاوة والكربوج وحلاوة الجبن والمهلبية وأقراص البرازق، وهذا غيض من فيض حيث الأنواع الأخرى الكثيرة وكل بلد لها عاداتها وأنواعها المفضلة ولكن إجمالاً يغالى في إعداد العدة لموائد الإفطار فكأن هذا الشهر شهر الأكل وتخير الأطعمة وليس الشهر شهر الصوم.

ولكن الإسلام تناول بالرعاية والعناية النفس الإنسانية فخط لها مساراً صحيحاً، ووضع لها مناهجاً متكاملاً يستجيب لنوازعها الخيرة وينميها ويحول بينها وبين دواعي الشر والانحراف بما وفر لها من أساليب الترويض والتهذيب الروحية والأخلاقية.

ومن أهم تلك الوسائل (ذكر الله) تبارك وتعالى فإن حالة الذكر الدائم التي تطلبها الإسلام العظيم من المسلم المؤمن إن هي إلا حالة استنفار عام لكل الطاقات البناءة والقوى الكامنة الرشيدة في نفسه وكيانه لأجل البناء الاجتماعي.

فالبذكر الدائم تتقد جذوة الحب الإلهي في نفس الإنسان المسلم، فيرتقي إلى عوالم الانشراح وساحات القرب ويجوب رياض اليقين، وتطل نفسه على نور البصيرة في الرؤية اللاتي لا يعتريه غروب، ويتوفر لديه حضور الوازع الداخلي الذي لا يعقبه غياب.

وبالذكر الدائم تتجلى للإنسان المسلم فيوضات الرحمة الإلهية، ويستشعر جمال اللطف الرباني وسعة عطاءه الكريم وغزارة الإفاضة السخية، وفي الوقت ذاته يشهد هذا المسلم فقره بالنسبة للغني المطلق، وعجزه بالنسبة للقدرة التامة ونقصه بالنسبة للكمال السرمدي.

وحقيقة الذاكرين: يبينها الإمام السجاد (عليه السلام) بالكلام السابق بأنه نفس الإذن لنا بذكر اسمه جل شأنه هو أكبر نعمة لنا، فالذاكرون هم الذين وفوا بعدهم مع الله تعالى، فاندكت ذواتهم خشية منه، واستقامت طريقهم طاقة له، وعلت نفوسهم وصفت بكثرة الإنابة إليه ودوام الاستغفار.

إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء والملاء والليل والنهار، والإعلان والأسرار، وفي السراء والضراء، وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي.

إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك.