لا يختلف استقبال الفلسطينيين لشهر رمضان عن
السنوات الثلاث السابقة من عمر الانتفاضة. فمشاهد الدمار المختلفة ولون
الدم الأحمر القاني لا يزالان يرسمان صورة الحياة وشكلها في كل من غزة
والضفة الغربية.
في الشهر الفضيل ثمة أمور كثيرة ستغيب عن واقع
الفلسطينيين عما كان عليه الأمر في السنوات الماضية.. فالأطفال لن
يحملوا «فوانيس رمضان» التي يطوفون بها الشوارع وأزقة المخيمات يهتفون
باستقبال رمضان " حالو.. يا حالو.. رمضان كريم يا حالو " و " أهلاً
رمضان.. مرحب شهر الصوم.. مرحب.. مرحب يا رمضان " ليس لأنهم لا يرغبون
في ذلك، بقدر ما باتوا محاطين به من سيناريو غريب فرضته ظروف الاحتلال.
طعم الحياة
منذ اشتداد الحصار على المناطق الفلسطينية
بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة في 28سبتمبر 2000 لم يعد للحياة طعم..
فأوامر، الاحتلال هي من يتحكم في تحركات الفلسطينيين وتنقلاتهم كما أن
أوضاعهم الاقتصادية انحدرت في تراجع كبير رفع نسبة العاطلين عن العمل
في صفوفهم لما يزيد عن 70%، أما مواكب الشهداء فهي طقوس متواصلة تجوب
شوارع المخيمات وأزقتها، وبيوت العزاء تغطي كل المناطق كيف لا..
والآلاف منهم لا يزالون يتدافعون لتقديم أرواحهم غالية في سبيل نصرة
قضيتهم ولإيمانهم بأن الشهداء هم من ينيرون دروب الحرية والاستقلال.
ليس وحدهم الأطفال من يحرمون من فرحة استقبال
الشهر الفضيل الذي تستعد له الشعوب الأخرى قبل وصوله لما يمثله عندها
من فرحة، واحتفال له طقوسه الخاصة المرتبطة بماضيها وحاضرها ومستقبلها
فحتى الكبار من الفلسطينيين لم يعودوا يعرفون كيف هي الأيام تمضي سريعة
تطوى من أجندة أعمارهم بينما لا تفارقهم كوابيس الدمار والخراب
المنتشرة فوق الأرض الفلسطينية، من رفح جنوب قطاع غزة وحتى جنين في
شمال الضفة الغربية.
بسطات غزاوية
أسر تحمل أمتعتها تنتقل من منزل إلى خيمة وأثاث
متواضع ديست تحت جنازير الجرافات وأخرى لم تشف بعد من فقدانها لعزيز
عليها، إن لم يكن ولدها فقريب لها أو جار.
وإن كانت أسواق غزة قد امتلأت من خيرات الشهر
الفضيل التي لا تطل إلا مع بزوغ هلال رمضان فإن الحركة الشرائية لا
تتعدى الاقتصار على اقتناء المواد الأساسية الغذائية ويتقدمها
البقوليات بأنواعها المختلفة والخضراوات ذات المقدرة العالية على
الصمود لأيام طوال تحسباً من حصار قد يطل برأسه إذا ما علا صوت مكبر
الصوت من على جيب عسكري إسرائيلي يفرض منع التجول.. كما حدث في منطقة
الشريط الحدودي الفاصل مع مصر خلال العملية الإسرائيلية (الحل الجذري).
ليست وحدها إمكانات الفلسطينيين المادية من يحول
دون شراء مستلزمات رمضان التي تتزين بها الأسواق الشعبية وترافق الشهر
العظيم حتى يرحل حاملاً كشف أجور الصائمين إلى رب السماء فـ " بسطات
البائعين " تمتلئ بقمر الدين والألبان على أنواعها و " المربى " و "
فوانيس رمضان " المزينة، لكن هنالك عازلاً نفسياً بات يضع حدوداً
للحظات الفرح والانبساط لماذا؟ لأن الفلسطينيين من منكوبين وغيرهم
يمثلون جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر
والحمى.
تساؤلات كبيرة محكومة بظروف الواقع الذي يعيشه
الفلسطينيون في ظل الاحتلال.. إذاً كيف للفرح أن يتجلى في شهر فضيل
بينما أصوات الرصاص تتطاير في كل مكان فوق رؤوسهم لتؤذن بسقوط شهيد
جديد أو تكون سبباً في جريح إضافي ليس له محل سوى أن يرقد إلى جوار من
سبقوه على أسرة المستشفى.
أما مئات الأسر فهي من دون مأوى بعدما هدمت قوات
الاحتلال منازلها وشردتها في رحلة لجوء جديدة غير تلك التي جرت في عام
1948.
ولأن للشهر الكريم نفحات إيمانية فإن مساجد
القطاع تزدحم بالمصلين يتقدمهم صغار السن والشبان في صورة إيمانية
جميلة توحي بالإيمان واللجوء إلى الله للفوز بالأجر والثواب اللذين
يتضاعفان خلال رمضان.
يرفع المؤذن صوته لينادي لصلاة التراويح فيتدافع
الجميع يحملون «مسابحهم» ليعيشوا مع نفحات رمضان المبارك، لكن سكنات
الليل سرعان ما تتحول إلى ساحة حرب لا يسمع فيها سوى أزيز الرصاص وهدير
الدبابات وأصوات الطائرات الحربية التي تحجب نجوم الليل في صفائه.. انه
الاحتلال الذي لازمهم لنصف قرن ولا يعرف حرمة للمواقيت حتى وإن كان ما
يحل على الأرض شهرا كريما خصته إرادة السماء بأفضل الأوقات في السنة؟!. |